بأفلام رائعة لا تُنسى مثل “رابعة العدوية” و”الراقصة والسياسي”، أصبحت النجمة المصرية نبيلة عبيد من أشهر أعلام السينما العربية خلال القرن العشرين. وهنا، تروي النجمة الكبيرة قصة صعودها الأسطوري إلى مدارج الشهرة، كما توضح لماذا ضحّت بكل شيء في سبيل الفن
على مدى نحو ستة عقود، ظلت النجمة المصرية نبيلة عبيد، التي تحتفل بعيد ميلادها الثامن والسبعين هذا الشهر، تتألق على الشاشات الفضية في مختلف أنحاء العالم العربي بفضل الأدوار العديدة والمتنوعة التي جسدتها، ما بين الأعمال الدرامية الدينية والتاريخية والنسوية الجذابة والاجتماعية والسياسية. ونظرًا لقدرتها التي تفوق الوصف على تقمص الشخصيات التي تؤديها، نالت لقبي “نجمة مصر الأولى” و”أيقونة السينما العربية”، وأصبح اسمها علامة مميزة بحد ذاته.
بدأ غرام نبيلة عبيد بعالم السينما في سن مبكرة، حين كانت ترافق مدبرة منزل عائلتها في قضاء حاجات البيت في حي شبرا الذي تقطنه الطبقة المتوسطة بمسقط رأسها في القاهرة. وكل يوم، كانت الشابة تنعطف إلى دار سينما مجاورة وتقف على بابها على أمل أن تلقي نظرة على أحدث الأفلام التي تتوهج على شاشتها. وتذكر النجمة: “كانت السينما شغلي الشاغل. وكنت أظل مستيقظةً ليلاً أفكر في نجوم ونجمات الشاشة الكبيرة. وكيف أصبح مثلهم؟ وماذا عليّ فعله؟”. ورغم أن التمثيل كان هدفها الأساسي، كانت تعشق الرقص وتقلّد كل تمايلاته الرشيقة وحركاته المتّقدة بالحيوية أمام المرآة في غرفة نومها، وهي مهارة سرعان ما ستصبح إحدى بصماتها على الشاشة لسنوات مقبلة.
“في أيام الجمعة، كنت أذهب للسينما وأشتري تذكرة الفيلم الذي شاهدت بعض لقطاته طوال الأسبوع. كنت أشاهد الفيلم بأكمله مرة أخرى، ولكني كنت أستعيد هذه المرة مشاهده وأنتقد ما رأيته. كنت حين لا يعجبني شيء أدّاه ممثل أو لم أقتنع بمشهد ما، أتصور أني كنت سأؤديه بطريقة مختلفة”. ولم تكن تعرف آنذاك أن هذا التحليل الفطري واستيعاب أساليب وتقنيات التمثيل كان بداية تدريبها السينمائي الذاتي. “حتى في طفولتي، لم أكن أقبل أو أؤمن إلا بما أعتبره تمثيلاً صادقًا، وأرفض ما يبدو مزيفًا أو مبالغًا فيه”.
وفي الـ16 من عمرها، حضرت نبيلة عبيد عرضًا للأزياء حيث التقت المخرج السينمائي الشهير عاطف سالم، والذي كان قد أخرج عدة أفلام ناجحة. وبعد مدة وجيزة من هذه الصدفة، لمحته مرة أخرى يقود سيارته بينما كانت تسير بالقرب من مدرستها الثانوية. “أوقفته وحاولت الحديث معه. وقلت له إن والدتي تعرف والدته وشقيقاته في شبرا. لدرجة أنني صادقت صديقات أمي وانتهزت كل فرصة ممكنة لأخبرهن بأني أريد لقاء عاطف سالم مرة أخرى”. وأخيرًا، اتصل بها وعرض عليها دورًا في الفيلم الكوميدي “مافيش تفاهم” الذي عُرض في الستينيات بطولة سعاد حسني. وكان دورًا صامتًا لعبت فيه شخصية ابنة الجيران التي ترقص أمام مرآتها. تقول ضاحكة: “عائلتي لم تعرف عنه شيئًا. ظنوا أنني أذهب إلى المدرسة أو أخرج للقاء إحدى صديقاتي. وعندما كنت أعود والمكياج يغطي كل وجهي، كانت والدتي تسألني فأجيبها: “آه، لا شيء، أنا وصديقتي كنا نتدرب فقط”. ولكن مهنتها الجديدة لم تكن لتبقى طي الكتمان طويلاً، وسرعان ما اعترضت والدتها وتوسلت إليها لاستكمال دراستها أولاً. لكن نبيلة كانت قد وقعت في غرام السينما ومحال أن تتراجع.
وسرعان ما طرقت الفرصة بابها عندما قدّم لها المنتج والمخرج السينمائي حلمي رفلة نصًا قصيرًا لاختبارها في فيلم مقبل، والذي أدته بسهولة. وفوجئت بحصولها على دور البطولة واختيارها لتجسيد شخصية الزاهدة والشاعرة والكاتبة المسلمة رابعة العدوية التي عاشت في القرن الثامن. وأحضروا لها معلمي اللغة العربية الفصحى وعلماء الدين لتدريبها وتوجيهها ومساعدتها على فهم التفاصيل المهمة لهذا الدور الصعب. تذكر: “كان جميع أفراد طاقم إنتاج هذا الفيلم من قامات السينما. كان نيازي مصطفى المخرج، وفريد شوقي البطل، وشادي عبد السلام مصمم الأزياء. لذا شعرت بأني دخلت عالم السينما من أوسع أبوابه. وحتى الآن، أستعيد الذكريات وأتساءل كيف استطعت أداء هذا الدور. فلم يكن لدي أي خبرة في الحياة، وكان حبي للسينما هو مرشدي فقط. ومنذ تلك اللحظة منحتها كل شي وأفنيت فيها حياتي”. وحقق فيلم “رابعة العدوية” نجاحًا غير مسبوق في شباك التذاكر، وانطلق ببطلته إلى سماء الشهرة. وحتى يومنا هذا، لا يزال هذا الفيلم يعد من الأفلام الكلاسيكية التثقيفية كما سجل اسمه عن جدارة واستحقاق في تاريخ السينما العربية.
وبفضل هذه البداية الناجحة، وقعت نبيلة عقدًا مربحًا ببطولة ثلاثة أفلام للمخرج حلمي رفلة، ولكن عائلتها ظلت تقف عقبة في طريقها نحو الشهرة. “بدأ عاطف سالم حينها يكرر زياراته لأصدقاء العائلة المشتركين ويخبرهم بأنه يريد الزواج مني. وكنت أعرف أن والدتي تعارض هذه الفكرة بشدة لأنني كنت صغيرةً جدًا، وأرادت والدتي أن أكمل دراستي، ولكني كنت أعلم أنها الطريقة الوحيدة للتمثيل ونيل حريتي”. وعلى هذا النحو، تزوجت عاطف سالم في الـ16 من عمرها، بينما كان هو في الـ42 من عمره.
وكما كانت تأمل، بدأت عروض الأفلام تنهال عليها. وتمثّل نجاحها الكبير التالي في فيلم “المماليك” التاريخي أيضًا مع عمر الشريف الذي كان قد حقق للتو شهرة عالمية بأول أعماله الطويلة في هوليوود في فيلم “لورنس العرب”. ولكن نجاحها السريع وتحكُّم زوجها وسلوكه المسيء والفجوة العمرية الكبيرة بينهما كلها كانت الأسباب التي أدت إلى تدهور علاقتها بعاطف سالم. فالرجل الذي قدمها إلى سحر الأضواء سيطر عليه الشعور بالغيرة وأرادها أن تتخلى عن نجوميتها وتبقى في المنزل. “تصورت أنه سيدعمني في صناعة السينما. ولكنه لم يكن يريدني أن أتألق، كان يريدني أن أكون زوجته وحسب. ولما رفضتُ، حاول تخريب مسيرتي الفنية”. وبعد خمس سنوات مضطربة، انتهى الزواج.
وبعد فترة قضتها في لبنان وسوريا، عادت إلى مصر عازمةً على الابتعاد عن العروض غير الجديّة. وكانت مستعدة للتعمّق في الموضوعات الثرية والشجاعة. وتعرفت على إحسان عبد القدوس، الذي كان قد أثبت مكانته كواحد من عظماء الأدب في مصر. تقول: “الموضوعات التي اختارها لي إحسان عبد القدوس كانت بمثابة نقلة تامة، كانت عميقة ومتعددة الأوجه”. وسرعان ما اكتشفت أنها إذا اشترت حقوق القصص وأنتجت الأفلام بنفسها، ستتمتع بحرية إبداعية كاملة.
وخلال السبعينيات، لعبت دور البطولة في أعمال فنية في السينما والتلفزيون والإذاعة استحوذت جميعها على قلوب الجماهير والنقاد على حد سواء. لكنها تعتبر فيلم الدراما والإثارة “ولا يزال التحقيق مستمرًا” نقطة الانطلاق الحقيقية لعصرها الذهبي في مشوارها الفني، حيث فازت عنه بجائزة أفضل ممثلة في مهرجان الإسكندرية السينمائي عن دور “زينب”، الزوجة مفرطة الطموح التي تحلم بالثراء. “كانت أول جائزة لي ولا تزال الأعز على قلبي لأنه كان دورًا صعبًا للغاية. عرفت طعم النجاح الحقيقي لأول مرة عندما نادوا باسمي في ذلك الحفل. لم أكن أصدق ما يحدث. كان هناك تصفيق حار، وعُقد مؤتمر صحفي في اليوم التالي على شرفي”.
وفي الثمانينيات والتسعينيات، توالت النجاحات في فيلم بعد الآخر، وشاركت نبيلة البطولة مع ألمع النجوم في ذلك الوقت، من أحمد زكي وصلاح قابيل إلى نور الشريف ويوسف شعبان. ولم تكن تتحرّج من تناول موضوعات اجتماعية وسياسية في أفلامها، فقد عالجت قضايا مثيرة للجدل مثل عدم المساواة بين الجنسين، والفقر، وسوء المعاملة، والفساد. وبالإضافة إلى الجوائز العديدة التي حازت عليها في التمثيل على مر السنين، حصلت أيضًا على درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة ويلز في عام 2013 تقديرًا لإنجازاتها وخدماتها التي قدمتها للسينما والمجتمع.
وبالرغم من نجاحها الباهر في صناعة السينما، كانت حياة نبيلة عبيد الشخصية أقل استقرارًا. فبعد عاطف سالم، تزوجت الممثلة المخضرمة ثلاث مرات، وكانت أطول زيجة لها وأبرزها مع أسامة الباز، الدبلوماسي المصري وكبير مستشاري الرئيس حسني مبارك حينها. تقول: “أعتقد أن سبب استمرار زواجنا لفترة طويلة هو أنني لم أتحدث في السياسة أبدًا وأنه لم يتدخل في السينما أبدًا”، وتردف: “لم أرغب أبدًا في أن أكون ربة منزل ودائمًا ما أوضحت تمامًا أن العمل له الأولوية عندي. وبمجرد أن يعترضوا [تقصد أزواجها] ذلك الطريق، أنهي هذا الزواج سريعًا”.
ولم تكن الأمومة أيضًا ضمن حساباتها على الإطلاق. وعلى الرغم من تقديمها لأدوار الأم المتفانية التي لا تُنسى في السينما المصرية، كما في” العذراء والشعر الأبيض” حيث لعبت دور دولت وهي امرأة عاقر تتبنى فتاة صغيرة، اتخذت نبيلة قرارًا واعيًا بعدم إنجاب الأطفال. “لا أعرف ما هو شعور الأمومة الحقيقي، ولكن لكي أنجح في هذه الأدوار، نقلت حب والدتي لي. اهتمامها بسعادتي، ورعايتها المستمرة، واطمئنانها عليّ ليلاً حتى وأنا راشدة. أخذت كل ذلك وخزنته داخلي، وعندما كنت ألعب دور الأم، كنت أخرج كل هذه المشاعر والذكريات في تلك الشخصية”. ورغم اشتياق والدتها إلى حفيد، لا تشعر نبيلة بأي ندم. “كان ذلك اختياري. لقد بذلت والدتي قصارى جهدها لإقناعي بخلاف ذلك، والآن، بعد إعادة النظر في الأمر، أتمنى لو كنت حققت حلمها ومنحتها ما تريد، ولكني لم أستطع. كان حبي للسينما أقوى من كل شيء. لقد كانت أولويتي قبل كل شيء”.
والآن، بعد مشوارها الفني اللامع، اختارت الممثلة القديرة الإبطاء من وتيرتها والاستمتاع بفترة ابتعادها عن الشاشة الفضية، مؤكدة أن ظهورها أمام الجمهور سيكون قليلاً ومتباعدًا. “أعتقد أنه من المفاجئ للناس معرفة أنني شخصية غير معقدة، لقد كنت دائمًا كتابًا مفتوحًا. لا أدخن، ولا أشرب، ولا آكل كثيرًا، ولا أسهر لوقت متأخر في الليل. وبالنسبة لي، الأمر كله يتعلق بإيجاد السعادة في الأشياء البسيطة في الحياة ومقابلة أصدقاء حقيقيين، والاعتناء بنفسي”. تُرى، ما الذي يحمله المستقبل لأيقونة سينمائية قدمت كل ما في وسعها؟ إنه مسلسل سيرة ذاتية يشرح بالتفصيل حياتها الفريدة ومسيرتها الفنية، ومن بطولتها شخصيًا بطبيعة الحال.
بقلم Basma Faramawy