يبدو أن الفنّ والإبداع يسير في عروق بعض العائلات وينتقل بالوراثة من جيل إلى آخر، وعائلة ركين سعد خير مثال على ذلك! أخذت ركين حبّ الفن وحسّها الإبداعي عن والدتها روابي أبو غزالة التي ورثته بدورها عن والدتها الراحلة رجاء أبو غزالة.
وُلِدت ركين في 16 ديسمبر 1989 لأسرة أردنية تهتم بالفنّ والإعلام. والدها هو الإعلامي الكبير سعد السيلاوي، وكان المدير الإقليمي لمجموعة MBC والعربية/الحدث وكبير المراسلين، أما والدتها روابي أبو غزالة فهي مصممة مجوهرات نالت شهرةً في الأردن بفضل تصميماتها العصرية. اكتشف والداها موهبتها في سن مبكرة فشجعاها في سن العاشرة على الالتحاق بالمركز الوطني للثقافة والفنون في مؤسسة الملك الحسين لتبدأ أولى خطواتها في التمثيل المسرحي.
تقول ركين: «أبدعت أمي في مجال الرسم وتصميم المجوهرات، وكانت جدتي، والدة أمي رحمة الله عليها، رسامة وكاتبة، وملكت أم جدتي صوتاً جميلاً، أختي الصغيرة محبّة للفن وعاشقة له. أعتقد أن الموضوع مرتبط بالجينات المتوارثة وكذلك بالطاقة التي نكتسبها من أسلافنا. زرعت أمي فيّ حب الفنّ بشكل عام وشعرت بميولي الفنية فشجعتني على تعلّم الباليه والمسرح وعلى المشاركة في ورشات فنية مثل الموسيقى»، وأضافت: «لم تفرض أمي عليّ توجهاً معيناً، كانت تلاحظ ما ننجذب له وتدعمنا لنمضي فيه قدماً. ساعدتني بهذا الشكل على التعبير عن نفسي وعلى صقل أحاسيسي وعلى تنمية موهبتي في التمثيل. أدين لأمي بنجاحي فهي من رأى هذه القدرة داخلي ومن شجعني على اتبّاع شغفي. أذكر كيف خلصتني والدتي من شعور الوحدة الذي اعتراني حين كنت في لندن وكيف شجعتني على مواصلة حلمي وصرف النظر عن فكرة العودة من الديار خوفاً من الغربة».
والمحطة التي أثبتت أن ركين سعد سبقت عمرها في موهبة التمثيل كانت في مشاركتها في مسلسل حقق نسب مشاهدة عالية على المستوى العربي والعالمي وهو «مدرسة روابي للبنات» من أعمال منصة Netflix الأصلية بشخصية نوف التي أثارت إعجاب الجمهور. جاء أداء ركين في هذا المسلسل مميزاً ومختلفاً فنقلت واقع التنمر في المدارس، فأصبحت حديث الناس وخاصة فتيات المدارس اللاتي وجدن مدى قربهن لنوف ودفاعها عن الطالبات، إلى جانب شكلها الملفت في تجسيد شخصية قوية رغم ما تظهره من طيبة.
جسدت ركين اهتمامها بتقديم أدوار تناقش قضايا مجتمعية وتواكب في آنٍ تطور التقنيات السينمائية حين شاركت في الفيلم الإماراتي “المختارون” وهو أول فيلم عربي يعرض بتقنية رباعية الأبعاد، وقد عرض لأول مرة عام 2016 في مهرجان لندن السينمائي، كما شارك في مهرجان دبي السينمائي.
أما السيدة روابي أبو غزالة، والدة ركين، فهي فنانة أردنية كندية ولدت في جدة عام 1964، عشقت الفنّ منذ نعومة أظافرها وشبّت لتكون أول امرأة تقوم بتصميم المجوهرات في الأردن بحسب استطلاع أجرته مجلة «أنتِ» عام2007. بدأت روابي مسيرتها المهنية في عالم المجوهرات في منتصف الثمانينيات، وأطلقت مجموعتها الأولى عام 1990.
أبت أن تكتفي بشغف الإبداع الفطري لذلك سعت لتلقي مزيد من المهارات والمعرفة في مجالات متنوعة وحازت شهادة في علوم الكمبيوتر وشهادة في علم الأحجار الكريمة من مدرسة الأحجار الكريمة في مونتريال بكندا، والتحقت بعددٍ من الدورات المتخصصة في الخزف، وتشكيل النحاس، والتقنيات الاحترافية لصناعة المجوهرات الذهبية والفضية، وترصيع الأحجار والألماس، وعملت على صقل مهاراتها في الرسم والنحت.
والدة السيدة روابي هي أكبر داعمٍ لها في الحياة، تعلمت منها كل شيء، ولا سيما اتباع الحدس الشخصي والشغف، وهي لا تزال تعتمد مقولتها it’s never too late كقاعدة عامة في الحياة، فهي شخصية تحب التعلّم والسعي وراء كل جديد ومن هنا كان اهتمامها باليوجا وبعلم الأحجار الكريمة الذي تعلمته في سنِ متقدمة في مونتريال. وقد قالت: «أعتبر أمي من أكثر النساء الملهمات، فهي تطوّر نفسها كثيراَ وتحب أن يكون لديها معرفة بكل شيء بالحياة وشغفها بالحياة حالة تُدرّس، مهما مرت بمواقف صعبة تجد شيء يسعدها مهما كان بسيطاً».
تستعيد السيدة روابي طفولتها حين كانت والدتها الفنانة والكاتبة رجاء أبو غزالة تقوم برسمها هي وأخيها فراس، تذكر الفرحة والانبهار الذي كان يعتليهما حين تحوّل الالوان الى سكتش أو رسمة جميلة. تعلمت روابي الرسم من والدتها بمختلف الوسائل الفنية، فكانت تجد سعادتها في اللعب بالألوان وفي النحت والتشكيل بالطين البارد الأمر الذي ساعدها على تنمية إحساسها ومهاراتها الفنية التي تطورت بعد ذلك للمجوهرات.
تتحدث السيدة روابي عن والدتها فتقول: «كانت أمي إنسانه قوية وطموحة لا تقف عند العوائق. شاركن في معارض كثيرة في جدة في السبعينيات، وكانت تأخذني معها رغم الظروف الصعبة التي أحاطت بالمرأة في ذلك الزمن». قوة عزيمة الوالدة الجدة ألهم السيدة روابي وأكّد لها أن لا مستحيل في الحياة وأن العمر لا يُعتبر عائقاً أمام أي حلم، فقد درست السيدة رجاء بالمراسلة مع جامعة كامبرج، وحازت ماجستير في الأدب الإنجليزي في الجامعة الأردنية. تتابع السيدة روابي الحديث عن أمها فتقول: «كانت أمي نسوية تدافع عن حقوق النساء في قصصها ولوحاتها، كنا أصدقاء نتحاور ونتناقش، فتعلمت منها الحب والحرية المسؤولة وقيمة العائلة وعندما رزقت بأطفالي سري وركين ورزانة، حرصت على ملء البيت بأعمال فنية وبلوحات أمي وكتاباتها مما كان له الأثر الكبير عليهم».
مكانة والدتها في حياتها دفعتها لتكون نسخة عنها في حياة ابنتها ركين، وهذا ما تشهد عليه هذه الأخيرة فقد قالت: «أمي هي أكبر داعم لي منذ صغري على الصعيد الفكري وكذلك العاطفي. اعتدت أن أطلب رأيها قبل المشاركة في أي عمل جديد. يعنيني نقدها لأنها صريحة، تعرف كيف ومتى تتدخل وتشعرني دائما بالأمان،» وأضافت: «بالمقابل أساندها حين أراها قلقة، أدعمها في كل ما تحب مثل اليوجا المجوهرات وأشاركها جلسات نقاش لنخرج بأفكار جديدة». على مدى أكثر من 35 عامًا، أظهرت السيدة روابي تفانياً في عالم الفن، وأبدعت في تصميم أكثر من 4000 قطعة مجوهرات فنية إلى جانب أكثر من 100 لوحة ومنحوتة، وشاركت في عدد من المعارض والعروض الفنية في الأردن وكندا وإيطاليا وماليزيا ومصر والمغرب ودبي، وغيرها.
تتميز مجوهرات روابي بتفردها فهي تبتكر قطعة واحدة من كل تصميم، إذ تعتقد أن كل قطعة تروي قصةً خاصة وتعبّر عن تفرد المرأة وتمثلها فتحرص على تصميمها وفقًا لشخصية عميلتها وحياتها. لا ترى روابي المجوهرات مجرد قطعةً تتزين بها المرأة وتكمل بها إطلالتها، بل تؤمن أنها طريقة للتعبير عن عمق المشاعر والرؤية الإبداعية، لذلك تكرّس خيالها الحدسي لتقديم نمط من المجوهرات الروحية العصرية، وتتفانى في سعيها نحو ابتكار مجوهراتٍ تُلهم المرأة وتبعث في داخلها السلام والثقة بالنفس والتناغم، ولأنها تؤمن إيمانًا راسخًا بتأثير الأحجار الكريمة على التوازن الداخلي للمرأة وطاقتها وبقدرتها على إثراء روحها، فإنها تحرص على أن تعكس قطعها صلة المرأة بذاتها وبيئتها المحيطة.
ولا يكفي أن ترث البنت من أمها حبّها للفن، فالاستمرار في هذا المجال والنجاح فيه يستدعي تواصلاً وعلاقةً خاصة وهذا ما أكدته السيدة روابي وابنتها ركين حين قالتا إن العلاقات الأسرية بين النساء سواء أم وابنتها أو بين الأخوات مهمة لأنها تخلق نوع من أنواع الدعم الصحي لتحقيق النجاح في الحياة المهنية والعاطفية وفي الحياة بشكلٍ عام. واتفقت السيدتان على أن المرأة كائن مليء بالمشاعر يتمتع بحدس قوي تشعر بالمرأة الأخرى وتقدرها وتمنحها الأمان العاطفي بشكل عفوي، لذلك فهما تحرصان على أخذ رأي النساء في الأسرة وعلى بناء علاقة صحية فيما بينهن ليجدن في وقت الحاجة قاعدةً متينة تساعدهن على تخطي الأوقات الصعبة ومشاركة الأوقات السعيدة.
تتفق الأم وابنتها على أهمية العائلة، فهي النواة التي تنبثق منها الشخصية المستقبلية للفرد، وبالتالي من الضروري أن يكون أساسها الحب والمودة والرحمة والثقة والأمان والحب غير المشروط وإعطاء المساحة للتجربة والخطأ مع وجود الدعم النفسي والمعنوي والاستعداد لتقديم الاستشارة والنقاش بدون خوف أو تحفظ وتبادل المعلومات والأفكار. إلا أن ظروف الحياة تشاء أن تحرم أفراد الأسرة من هذه القيم الفضلى، فالبعد بسبب الانشغال فرقهم إلا أنه لم يبعدهم كلياً فهم يحرصون على قضاء وقتٍ قيّم مع بعضهم ودفعهم لتربية أبنائهم على الاستقلالية ليكونوا أقوى أمام ظروف الحياة وأقدر على اتخاذ قرارات سليمة وبناء خبرات مهمة وأكثر مسؤولية أمام الحرية والحياة.
يشي الحديث مع السيدة روابي وابنتها ركين عن مدى قوة العلاقة بينهما. فركين في حياة السيدة روابي مصدر فخرٍ، شعرت حين أنجتبها أنها أنجبت صديقة أبدية، ومصدر إلهام حين قررت خوض تجربة الدراسة في الخارج أوحى لها بقطع رائعة من المجوهرات. تتحدث السيدة روابي عن ركين الطفلة فتقول: «كانت ركين طفلة جميلة ومرهفة الحس يعشق المرء كل تفاصيلها، أمضينا أوقاتاً طويلة نبحث ونتعلم ونجرّب كي أساعدها في التعبير وإخراج ما لديها من مكنونات». هذا الإيمان بقدرات ابنتها، دفع السيدة روابي لحضور أي عمل لها. سعادتي بلغت ذروتها حين دعتها المخرجة كاملة ابوذكري لأداء دور مليكة في «واحة الغروب»، ذلك الدور الذي شكّل نقلة نوعية في أحلامها الفنية. والعلاقة بين الأم المصممة والابنة الممثلة غير تقليدية لا مكان فيها للخوف الذي قد تشعر به الابنة تجاه أمها. هما صديقتان تناقشان في كل أمور الحياة منذ الصغر، ويُعزا ذلك إلى الأمان الذي أعطته الأم لابنتها. استمعت الأم لابنتها صغيرة واستوعبت زلاتها حتى شبّت وأصبحت صديقة سفر وشريكة حزن وفرح، وركناً متيناً تلجأ إليه في الأوقات الصعبة.
هذه العلاقة ساعدت ركين على اكتشاف مكنونات أمها فوجدت فيها مصدر إلهام لا ينضب، وقد قالت ركين: «ألهمتني أمي في كل شيء لا سيما حب المعرفة والحياة والبحث عما يسعدنا. نرفض صغاراً أن نكون مثل أهلنا، إلا أننا نكبر ونتحوّل إلى نسخة عنهم، أنا حاليًا أتصرف وأتحدث وأنصح وأضحك تماماً كأمي،» وتابعت قائلة: «تعلمت من أمي فكرة التخلي واتباع الإحساس مما ساعدني في التمثيل، فعلى الرغم من دراستي للشخصية وتحليلي لتفاصيلها إلا ان في لحظة دائما اتخلى عن كل ذلك وأقدم ما أشعر به في اللحظة الحالية. وأمي علمتني أن مهما فشلت فهي ليست نهاية الدنيا وسوف نتعلم والحياة ستستمر».
المكياج Laura Madar
مساعدة تنسيق الأزياء Leen Zeto
مساعد الإنتاج Abdalla Abu Alkhair
الموضوع ظهر للمرة الأولى على صفحات فوغ العربية لعدد شهر مايو 2023