تابعوا ڤوغ العربية

حمدة الهتمي امرأة تخطّت حواجز كثيرة لدعم أطفال التوحد

حمدة الهتمي أم لطفلين مختلفين، مريم وماجد، وامرأة تخطّت حواجز كثيرة لدعم أطفال التوحد، فهم ليسوا دخيلين على هذه الحياة، بل جزء لا يتجزأ من نسيج هذا المجتمع الذي نعيش فيه

منذ طفولتي كان والديّ يشجعانني أن أخرج دائماً عن دائرة ارتياحي ولأني الأخت الكبرى ساهم ذلك في أن أتحمل المسؤولية في عمر مبكرة. لا أخفي أنني حين اطلعت على تشخيص ابنتي مريم الأول كنت في حالة نكران. لم أتقبل في حينها أنها تعاني اضطراب التوحد. كنت أشعر أني أخذلها إن تقبلت حالتها ولم أبحث لها عن علاج. وبعد سنتين من البحث والتجارب غير الناجحة والمتخبطة سألت نفسي ماذا تفعلين بمريم؟ ما هو شكل مستقبل مريم؟ فقررت أن أتوقف عن البحث عن «علاج» لإخفاء التوحد، وأن أكتفي بالتأهيل لتكون مريم بأفضل حالاتها. أما بالنسبة لابني ماجد قد مهدت مريم له الطريق وكان التقبل أسهل ومررت بمراحل الحزن والصدمة بشكل أسرع. في المرتين دعمتني عائلتي وعائلة زوجي وأصدقائي، هم نظام الدعم لدي وقد تكون قصتي مختلفة عن الباقي فشريك حياتي كان متقبلاً ومنسجماً مع الحقيقة أكثر مني.

مرجعيتي قول مأثور في مجتمعنا القطري وهو: يقال إن الأم تفهم لغة أبنائها، حتى وإن كانوا من البكم، فالتواصل أعمق بأن نحصره فقط في الكلام، فأنا أفهم أطفالي من نظرة عيونهم ولغة جسدهم وأنا جد حريصة على تطوير مهارة التواصل والتعبير لديهم بأي طريقة تناسبهم.

كثيرة هي المعتقدات السائدة في مجتمعنا والتي قد تجعل كل امرأة تشعر أن أمومتها ناقصة أو أنّها بحاجة إلى أطفال نمطيين لتشعر بالكمال، أرى أطفالي بعين الكمال هم زينة الحياة الدنيا رغم الصعوبات والمتاعب، في الحقيقة لا أعتقد أن ثمة أمومة خالية من الصعوبات والتحديات، هي تجربة فريدة من نوعها وأنا أستمتع بخوض هذه التحديات معهما يومياً.أنا محظوظة لتواجدي في دولة قطر التي توفّر جميع الإمكانيات العلمية والتأهيلية لذوي التوحد.

أكثر ما كان يؤرّقني ويجعلني أتنهد في المقام الأوّل كامرأة وأم هو حين توجّه أصابع الاتهام إليّ وكأنّني أنا السبب في اختلاف طفليّ وأتّهم بإهمال الأطفال أو بتناول حبوب أثناء الحمل أوصلت طفلاي إلى ما هما عليه اليوم.

كنت أتعمد بأن أخرج بمريم كل يوم وأن أعرضها لمختلف التجارب حتى تعتاد على بيئة طبيعية، لم تعد تهمني نظرات الناس، ولم يعد يهمني أن أشرح للناس عن التوحد الذي تعانيه ابنتي ولم يعد يعنيني أن أبرر أنها مختلفة بشكل مميز وجميل عن باقي الأطفال، واستبدلت الملابس الأنيقة والكعب العالي بعباية عملية وحذاء مريح لأتمكن من اللعب مع ابنتي ولأتأقلم مع حركتها.

أتمنى لو كان المجتمع أكثر لطفاً ورحمة، فأنا أواجه بشكل يومي مواقف لا أحسد عليها وأتغاضى عنها، فهكذا تستمر الحياة، لكن الموقف الذي لا يفارق ذاكرتي كان عندما نصحتني قريبة لي بإخفاء تشخيص مريم وقالت إنه ليس من مصلحتي أن أصرّح باختلافها وأفصح عنه لأن الناس سوف ينظرون إلى عائلتنا بشكل سلبي.

لكن مقابل هذه النظرات والآراء السلبية، كثيرة هي المواقف التي تسعدني مثل ابتسامة مريم وكلمة جديدة يقولها ماجد وحديث أختهما فاطمة عن التوحد بكل فخر. ولكن في آخر المطاف أنا امرأة مؤمنة دائماً بتخطيط الخالق، الأمر الذي يبعث في نفسي الطمأنينة. أذكر عبارةً سمعتها من مدبرة منزلي، قالت لي «لا تقلقي فإن الله لديه خطة لأبنائك»، جملتها هذه عززت من اتكالي على ربّ العالمين. يُسعدني أيضاً حين يصفني الناس بالمرأة القوية، إلا أن ما يُخفى عنهم هو جهادي وصبري لأبقى متماسكة.

التجارب التي مررت بها كثيرة، لم أظن يوماً أنني قد أنجح في تخطي بعضها، وقد علمتني هذه التجارب أن أعبّر وأتكلم من دون خجل. حتى اليوم، ما زلت أحاول ولن أكف عن المحاولة، فليس من صالحي ولا صالح أطفالي أن أعرّض نفسي إلى الضغط المستمر. ولا يُخفى أنني في كثير من الأحيان أفشل في هذه المهمة، أحاول توزيع المهام والمسؤوليات فأنا أم وزوجة وابنة وصديقة ولدي الكثير من الأدوار في هذه الحياة، لكنّ أمومتي أولويّة وأطفالي يحتاجون جهداً مضاعفاً يوصلني أحياناً إلى الاحتراق النفسي. في هذه الحالة أحاول أن آخذ قسطاً من الراحة من كل الأدوار فأختلي بنفسي لو نصف يوم وأرى حياتي من بعيد وأحاول ترتيب أولويّاتي وأشحن نفسي بالطاقة حتى أعود إلى عائلتي متسلّحة بالاتزان، إدراكاً مني لحاجة أطفالي لأم سعيدة مبتهجة لا سيما وأن تطورهم وإن كان أمراً ممكناً إلا أنه يبقى بطيئاً، ورغم بطء وتيرته فإنه يمنحني القوة والحافز والتركيز أكثر على الهدف. في الواقع، أعطاني أطفالي شعفاً جديداً للحياة، تغيّرت نظرتي للحياة جذرياً فأصبحت أكثر اتساعاً وتفهماً وتقبلاً للاختلاف.

حالة طفلي وتجربتي معهما زرعت فيّ رغبة في تقديم شيء مفيد لأسر التوحد، فالتقيت بأمهات يشاركنني نفس التفكير والطموح كعائشة العماري أم الجازي، ونورة العيدة أم سالم، وهما فعلاً أمهات رائعات لأطفال يعانين التوحد ولديهنّ الحماس الكافي بتغيير العالم لأجل ذوي التوحد.

في الحقيقة، لم يكن العمل المجتمعي جديداً في حياتي، فمنذ كنت طالبة في كلية القانون في جامعة قطر وأنا أتطوع في مختلف المجالات، وعليه أسست أنا وزملائي مؤسسة تهتم بالخدمة المجتمعية وأدرتها لمدة ٣ سنوات ومن بعدها كنت شريك مؤسس في شركة أخرى تهتم بتنظيم المؤتمرات والفعاليات (بمختلف مجالاتها).

بدأنا بتنظيم حلقات الدعم التي كان هدفها خلق بيئة آمنه للأمهات ليتحدثن عن أنفسهن والتعبير عن مشاعرهنّ على تطبيق «زوم». وبعد عدد من الحلقات شعرنا أن في استطاعتنا أن نقدّم المزيد في ظل حاجة المجتمع لمزيد من التوعية، فبدأنا بفعاليات مختلفة مثل حملات التوعية وكانت باسم الدائرة الزرقاء وفعاليات متنوعة لأسر التوحد بالتعاون مع العديد من الأماكن وفعاليات توعية والمشي من أجل التوحد. تركت هذه الفعاليات أثراً إيجابياً على الأسر ذوي التوحد، فتبادل الخبرات ورؤية من هم يمرون بنفس ظروفنا، هوّنت علينا ما نمر به وجعلتنا نشعر أننا لسنا وحدنا. ولكن لا بدّ من الإشارة إلى أن عملنا هذا لا يستهدف ذوي التوحد وأولياء أمورهم فقط، بل يطال إخوتهم الذين قد يشعرون بالغيرة أو الإهمال من قبل الأهل أو قد لا يجدون سبيلاً للتعامل أو التفاهم مع إخوتهم أو قد يشعرون بالحرج من تصرفاتهم.

بعد سنة من العمل في هذا المجال، وجدنا أن ثمة حاجة لنشر ثقافة التعامل مع ذوي التوحد وجعل الأماكن والفعاليات مكيفة ومهيئة لهم، وقررنا أن نعطي منصة «أهالي التوحد» بُعداً جديداً. في العام ٢٠٢٢ أسسنا، عائشة العماري (شريك مؤسس ومديرة البرامج والتدريب) ونورة العيدة (شريك مؤسس ومديرة العلاقات العامة والشركات المجتمعية) وأنا (المؤسس والمدير التنفيذي)، شركة «أهالي التوحد» المختصة بتنظيم الفعاليات وتكيّف الفعاليات العامة لتناسب ذوي التوحد وتنظيم الفعاليات التوعوية في هذا المجال، وجعل الأماكن صديقة للتوحد مثل المطاعم والمحلات التجارية والمتاحف وغيرها، وقدّمنا في هذا المجال العديد من الورش. كما صممنا ورشة للأطفال باسم (أصدقائي المختلفين) وهي ورشة توعية يتعلم فيها الطفل تقبل الاختلافات والتعرف على اضطراب التوحد ويتعلم كيف يتعامل مع ذوي التوحد بطريقة عملية وتمارين ممتعة.

ومع كل يوم يزداد طموحنا وتطلعاتنا فنحن لا ننادي بالدمج لأن أطفالنا ليسوا دخيلين على المجتمع، بل لأنهم عنصر أساسي فيه، نحن نريد حياة مستقلة لهم وهذا لن يحدث إلا إذا أوجدنا أمرين: التأهيل الصحيح المتخصص لهم وتهيئة المجتمع ليتكيف ويتقبل طبيعتهم.

مروري بهذه التجربة الشخصية أثر فيّ وصقلني بشكل إيجابي، جعلني أتمتع ببصر وبصيرة وسعة قلب من خلالها أرى جميع فئات المجتمع بطريقة مختلفة وأكثر شفافية. الصبر مع الأطفال المختلفين من أهم المهارات لأن تعليمهم وتمكينهم ممكن فهم فقط يحتاجون إلى الصبر والكثير من الحب، وطاقتي في المضي قدماً مرتبطة بهذه العبارة: ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.

 

الموضوع نشر للمرة الأولى على صفحات المجلة عدد شهر نوفمبر 2022 

الاقتراحات
مقالات
عرض الكل
مجموعة ڤوغ
مواضيع