من خلال الرقص، نتواصل مع إيقاع الحياة، يجلب الرقص الشعور بالتحرر والإحساس باكتشاف الذات، ما يسمح لنا بالتعبير عن أنفسنا في أصدق صورة لها.
من الصعب إغفال العلاقة المعقدة بين حرية الحركة والعقل، والتي يمكنك ملاحظتها في الطريقة التي تخطو بها الراقصة داخل عالم جديد تمامًا بينما يتجاوب جسمها مع الإيقاع، أو حين تبتسم لاعبة اليوغا بامتنان لأن شيئًا ما في نفسها سكن واطمأن أثناء نزولها إلى وضعية الطفل (ضمن تمارين اليوغا).
ومع ذلك، حتى بعيدًا عن هذه الدلائل المرئية، فإن شواهد كثيرة تؤكد وجود هذا الارتباط العميق بين حرية التعبير البدني والصحة العقلية، إذ تعزز التمارين، مثل الرقص واليوغا، على تعميق الترابط بين الجسم والذات، وهي ظاهرة يمكن أن تؤدي إلى خفض مستويات التوتر والقلق والاكتئاب، فضلاً عن ما ثبت علميًا من أن هذه الأنشطة لا تقلل فقط من مستويات الكورتيزول المرتفعة الناجمة عن الضغط، بل وتحفز أيضًا الدماغ على إفراز الدوبامين أو ما يُعرف بـ”هرمون السعادة”، وكذلك الإندورفين.
وتستغل أربع نساء من أنحاء الشرق الأوسط هذه الحركات المختلفة لإقامة علاقة صحية بين العقل والروح وإسعاد الآخرين.
ريم نعماني
تؤكد ريم نعماني، الراقصة والمديرة الفنية ومبدعة الحركات من صيدا بلبنان: «لا أستطيع تخيل الحياة دون حركة. ولقد فتنتني بيئتي؛ فكل شيء يلهمني الإبداع والحركة، من أبسط عناصر الطبيعة إلى أعقد المشاكل الاجتماعية في العالم». وحين كانت ريم في التاسعة من عمرها، فتحت مدرستها ناديًا للرقص، وبسحر التعبير الفني الذي لم يكن متجذرًا بعمق في الثقافة اللبنانية في ذلك الحين مثلما الحال الآن، انغمست الصغيرة في عالمه ولم تتراجع أبدًا. والتحقت بفصول وورش عمل في أنحاء العالم، من بيروت إلى برلين ولندن، وبدأت برقصة الدبكة اللبنانية وفي النهاية نما لديها شغف عميق بالرقص المعاصر والباليه الكلاسيكي. وهو الشغف الذي يبعث في عقلها الراحة بينما تترجم قصص الطفولة والأحداث الصادمة في الماضي أو معاناة بلدها من الحوادث مثل انفجار بيروت إلى أجسام جميلة متحركة.
«يمكنني التعبير عن مجموعة واسعة من المشاعر دون استخدام الكلمات، من الغضب إلى السعادة والحزن». وتعترف بأنها شعرت بأثر الرقص على صحتها العقلية، وذلك المفهوم لهرمونات السعادة التي تُفرز نتيجة تعبير الناس عن أنفسهم وإطلاق العنان لها. وقد كان الرقص ما ساعدها على الهروب من الوحدة والتوتر بسبب الجائحة، وحتى الآن فإن الرقص هو الذي يحثها على الاستمتاع بوجودها في هذا الكون الواسع.
داليا رافع
ترى مدربة ولاعبة اليوغا اللبنانية داليا رافع أن الحركة بهدف إقامة صلة أعمق مع النفس تعد من أفعال الحب البالغ للذات. وقد وجدت هذه الصلة الحميمية مع ذاتها في تمارين «ين يوغا» التي «تشمل الغوص عميقًا داخل الذات الحكيمة، وإيقاظ قوى حب الذات، والقبول، والحدس، والتحرر».
وساعدتها اليوغا على التوفيق بين إيقاع حياتها كأم وزوجة وامرأة ومغتربة في دبي. وقادتها الرحلة، التي بدأت برغبة في فهم العلاقة بين العقل والجسم، إلى معرفة أن «إحدى أهم فوائد «ين يوغا» هي تنشيط الجهاز العصبي الباراسمبثاوى الذي يتيح لنا الراحة والهضم. وعندما يحدث تحفيز مفرط لنظامنا العصبي، نصاب بالتوتر وعدم القدرة على الراحة والنوم الجيد العميق وهضم طعامنا جيدًا». وتضيف: «ثبت أن «ين يوغا» والحركات البدنية أدوات فعالة تساعد على تنظيم الجهاز العصبي والتخلص من التوتر وإعادة الجسم في النهاية إلى حالته الصحية الطبيعية». وبلا شك، ساعدت هذه الفوائد المدربة على الحفاظ على صحتها العقلية، بيد أنها تؤمن بأن «ين يوغا» تستطيع الذهاب لأبعد وأعمق من التدريبات البدنية. «تطالبنا تعاليم ودراسة وفلسفة اليوغا بالتصالح بين عقلنا وجسمنا وروحنا. وأن نكون في اندماج وانسجام مع الوعي العام، وأن نتعامل مع جميع أشكال الحياة هنا على الأرض باعتبارها مقدسات».
شريفة الزياني
بينما كانت طفلة صغيرة في البحرين، كانت شريفة الزياني مغرمة بعروض الرقص التراثي، بدءًا من العروض الفولكلورية على تلفزيون البحرين الوطني إلى تصاميم الرقصات في الأفلام المصرية القديمة. تقول: «أتذكر وأنا طفلة صغيرة كنت أحاول تقليد كل ذلك أو إبداع تصميم رقصة مع أختي وبنات عمومتي وصديقاتي كلما التقينا». وفي نهاية المطاف، تحول هذا الغرام إلى تقدير للرقص الخليجي.
«اكتشفت وأنا في أواخر الثلاثينيات من عمري أن تراثنا وتقاليدنا فريدة من نوعها وممتعة، ولا سيما مع الحركات الرشيقة والأغاني الهادفة». وصاحب إدراك هذه الحقيقة التوصل لواقع آخر ليس بهذا القدر من الإيجابية؛ فالشابات وحتى النساء الأكبر سنًا، لم يعدن، في بعض الأحيان، يرقصن بنفس البهجة التي شهدتها ذات مرة في حفلات الزفاف. وسواء كانت الثقافة المحلية أو عولمة الإعلام لها يد في ذلك، عزمت شريفة على ألا تقف مكتوفة الأيدي حيال هذا الأمر. تقول: «يجب وضع هوية الرقص الخليجي بلونه الأصلي الصحيح، وفي مكانته المناسبة على الخريطة بالشكل اللائق حتى تصبح النساء العربيات أكثر فخرًا بأنفسهن عند ممارستهن الرقص بالشكل اللائق».
بينما تمثل المحافظة على التراث الثقافي جانبًا كبيرًا من دوافع ارتباط شريفة بالرقص، فقد ساعدها الرقص أيضًا على تجاوز الأوقات العصيبة التي مرت بها في حياتها. وتذكر باعتزاز حفلة رقصت فيها لأكثر من ساعتين لتجد أن القلق الذي كانت تعاني منه مؤخرًا قد خف إلى حد كبير. وبالمثل، فإن ممارسة الرقص الخليجي بشكل صحيح تؤثر على العقل بقدر تأثيرها على الجسم. تقول: «أعتقد أنه إذا كان النشاط مرتبطًا بثقافة المرء أو بتقاليد معينة يعرفها، فإن تأثير هذه الهرمونات يكون أكثر عمقًا، كما يساعد على بذل المزيد منها لأن الرقص التراثي متناسق وذو عمق ومعنى أكبر في العقل الواعي والعقل اللاواعي
على حد سواء».
غراسيلا بيشنر
اكتشفت غراسيلا بيشنر المقيمة في دبي حبها للرقص الشرقي في ساو باولو بالبرازيل. وكانت الراقصة البرازيلية تعمل عارضة في ذلك الوقت وتعاني من الاكتئاب وفقدان الشهية. وأثناء بحثها عن شيء يجعلها تشعر بتحسن، اكتشفت الرقص الشرقي، وهو أحد أشكال الأداء الحركي الذي تنسب له الفضل في علاجها، كما اتخذت منه مهنة في نهاية الأمر جنبًا إلى جنب عرض الأزياء.
وعن الرقص، تقول غراسيلا: «إنه علاج بالنسبة لي. فهو يحسن حالتي المزاجية، ويعزز ثقتي بنفسي، ويعيد إليّ التوازن. إنه وصفة السعادة التي تبقيني في حالة جيدة وتحسن من صحتي النفسية والعاطفية». وتتحول خشبة المسرح إلى عالم ساحر يفيض بالوفرة والثقة فيما تنسج هي خيوط حلم لجمهورها، لتضمن بذلك انتقال الشعور بالسعادة إليهم تمامًا كالذي تشعر به في صميم قلبها. وعلاوة على ذلك، أتاح لها الرقص الشرقي فرصة التعبير عن نفسها، وهو ما عانت منه من قبل. تقول: «لقد منحني
[الرقص] الشجاعة للتعبير عن رقتي، وأنوثتي، وقوتي، وحقيقتي، وحتى نقاط ضعفي».
ولا تزال مشاعر غراسيلا تتأثر بشدة عند حديثها عن الفترة التي سبقت اكتشافها الرقص الشرقي. وتقفز إلى رأسها الآن ذكرى بعينها عن كيف أسهم الرقص في إنقاذها، تقول: «لقد مر عام منذ آخر دورة شهرية لي [والتي انقطعت] بسبب فقدان الشهية. وبعد ذلك، ذات يوم وبعد ساعتين من دروس الرقص تعلمت خلالها كيفية هز الوركين، عادت دورتي الشهرية». واتخذت العلاقة بين أنوثتها وجسمها والرقص الشرقي منحى أكثر عمقًا عندما ساعدتها حركة تعلمتها في دروس الرقص على الولادة، ليأتي ابنها إلى هذا العالم.
الموضوع ظهر للمرة الأولى على صفحات عدد يوليو أغسطس 2023 من المجلة