أثارت عودة العارضة الشهيرة إيمان إلى المنزل الذي كانت تعيش فيه مع زوجها الراحل ديڤيد بوي ذكرياتها القديمة وقادتها نحو مسيرة إبداعية جديدة تتجلى في عطر يوثق لحظاتهما الرومانسية معًا
تحظى الإطلالة البانورامية لجبال كاتسكيل، التي تطل عليها غرفة معيشة إيمان، بجمال مذهل يفوق الوصف حتى وسط نهار قاتم في منتصف أغسطس، حيث تحوم الغيوم العاصفة الكثيفة أسفل الوادي. وعندما تلقي ببصرك عبر النوافذ الممتدة من الأرضية إلى السقف على المناظر الطبيعية الخضراء، تشعرين وكأنك تنظرين عبر منظار ضخم. “اممم، ربما لا نرى غروب الشمس اليوم”، هكذا تقول إيمان التي تجلس على طاولة الطعام المستديرة أمام حاسوبها المحمول مرتديةً رداءً طويلاً ومزدانًا بطبعات زهور بالأسود والأصفر الزعفراني تذكرنا بزهور السوزان ذات العيون السوداء فيما تمتد فروعها على جدار حجري بالخارج. وهنا، تفتح لي ألبوم صور يوثق مناظر الساعة الذهبية لتبرهن لي على جمال اللحظة التي فاتتني. “المنظر الجميل لغروب الشمس يجعلني أبكي”، هكذا تؤكد وهي تتصفح عشرات اللقطات، وتردف: “ولكن البكاء يعود في أكثره إلى…، يا ليتك كنت هنا. ما أن تظني أن الجو كثير الغيوم، تطلع الشمس في الحال”.
عندما توفي ديڤيد بوي متأثرًا بإصابته بسرطان الكبد يوم 10 يناير من عام 2016 عن عمر 69 عامًا، حزن العالم على وفاة أيقونة بمعنى الكلمة. وخيم الحزن على كل محبيه وأصدقائه في شتى أنحاء العالم.
أما إيمان، التي أصبحت فجأة بدون زوجها بعد 24 عامًا قضتها إلى جواره، فظل إحساسها بالألم والفقد حبيسًا بين جدران المنزل الذي عاشت فيه مع زوجها بشمال نيويورك، خارج مدينة وودستوك التي أنجز فيها بوي آخر ألبوماته. “بعد رحيله، كان المجيء هنا صعبًا جدًا على نفسي. فقد كنت دومًا حزينة”، هكذا تقول إيمان فيما تسترجع آخر ذكرى مهمة جمعتها مع بوي في منزل الزوجية، ألا وهي: لقاء في عيد الشكر جمعهما مع ابنتهما ليكسي التي كانت آنذاك في سن المراهقة وهي الآن تبلغ 20 عامًا، وابنه من زيجة سابقة، دونكان جونز، وزوجته روديني. وتضيف: “آتي ربما لستة أيام من العام. وكل مرة آتي فيها، لا أطيق الانتظار حتى أرحل عن هنا”. ولكن في مارس 2020، كدّست أغراضها في سيارة كانت تنتظرها خارج شقتها في ويست ڤيليدج برفقة صديقتها الوفيّة والعارضة والناشطة بيثان هارديسون وشدتا الرحال إلى الريف. ولكن طالت فترات الحظر، وامتدت الأيام التي كانت تقضيها شمالاً إلى أسابيع، ثم إلى شهور، فاجتاحتها مشاعر حزن لا تنتهي. تقول: “وجودي هنا كان يعني أنه لا يمكنني الهروب من شعوري. لذا، كان يتعيّن علي أن أتعايش مع أحزاني وأواجهها، بل وأتخلص منها”. وتضيف: “وهذا ما أسداه لي هذا المكان، فقد أنقذني فعليًا”.
ومنذ ذلك الحين، أخذت العارضة الشهيرة ورائدة الأعمال في مجال التجميل تمضي في طريقها الخاص نحو تعافي مشاعرها بعد الصدمة الكبيرة التي تلقتها. فيما كنّا نتجول في حديقتها الأمامية، توقفت لتريني العديد من الأعمدة الحجرية الصغيرة القابعة بين الأشجار. “كان ديڤيد دومًا يقول إنه في العصور القديمة، كانت هذه الأبراج تستخدم في السفر ليعرف الناس من خلالها أنهم يسيرون في المسار الصحيح”، هكذا أخذت إيمان تشرح تلك التكوينات يدوية الصنع أو “العلامات الحجرية” كما كانت تعرف في اللغة الاسكتلندية الغيلية، مضيفةً: “أصبح تكديس هذه الأعمدة في طريقي من الطقوس التي تبعث على تهدئتي بشدة كل يوم. كانت طريقة لتكريم ذكراه، وكانت أيضًا تذكرني بأني أسير على الطريق الصحيح. وبأن هذا هو مكاني الصحيح”. ولهذه الأعمدة أيضًا الفضل في إلهام إيمان إنتاج أكثر ابتكار تفتخر به في فترة الجائحة، ألا وهو قنينة زجاجية عنبرية على شكل هذه العلامات الحجرية يملؤها أول عطر لها، والذي يعد بمثابة رسالة حب عن علاقتها ببوي. “طُلِبَ مني الكتابة عن ديڤيد وعن حبنا مرات عديدة. ولكن كاتب السيرة الذاتية المفضّل لدي هو من سيروي كل شيء. ولن أخبرك مطلقًا”، هكذا قالت وهي تضبط قلادتها الذهبية الصغيرة التي تحمل الاسم الأول لزوجها الراحل، مضيفة: “هذه طريقتي!”.
وتحولت ملحمة حب إيمان وبوي المفعمة بالرومانسية إلى أسطورة لا تنتهي. فقد كان قدرهما أن يتلاقيا بطريقة استثنائية وغريبة إلى حد بعيد. وأقسم بوي أنه كان حبًا من النظرة الأولى عندما عرّفه صديق مشترك بينهما بإيمان في عام 1990، ثم تبع ذلك فترة تودد فيها إليها، كانت أشبه بحكايات المشاهير الخيالية. فعندما تقدم للزواج منها بعد عام من لقائهما، استأجر زورقًا على نهر السين في باريس، ورتب سرًا لإضاءة الأنوار على كل جسر ما أن ينجرف بهما الزورق تحته. ومن جانبها، تذكر إيمان كل التفاصيل الصغيرة ليوم زفافها في صيف 1992 أيضًا – احتفال عائلي أقيم في كنيسة بسيطة بفلورنسا تبعه حفل استقبال بقصر ميديتشي الذي يعود تاريخه للقرن السادس عشر، مع نثر رذاذ من عطر “فراكاس” من “روبرت بيغيه” الذي كانت تضعه يومها. “أنا لا أغش في عطوري”، هكذا تقول العارضة البالغة من العمر 66 عامًا والتي لا تزال تشع جمالاً، وتضيف: “العبير يحرك المشاعر، ولذا عندما يتعلق الأمر بأول عطر لي، لا بد أن يكون بالمستوى اللائق”.
ويمزج ماء العطر، الذي يحمل اسم “لوڤ ميموار” Love Memoir، بين نفحات تبدو مثل كلمات من أحد فصول قصة حياة إيمان وبوي معًا. ويتوازن أريج نجيل الهند، برائحته المفعمة بالحيوية التي كان متعطرًا بها يوم لقائهما وكل يوم بعده، مع نسائم من البرغموت والعليق التي تعيد إلى الأذهان ذكرى الريف الإيطالي حيث تزوجا. تصرح إيمان التي نفذت المشروع مع روبن برنز ماكنيل، الطالب السابق في “كالڤن كلاين” والمؤسس المشارك في “باتالور بيوتي” قائلةً: “كانت فلورنسا تجول في ذهني كثيرًا طوال عملية تركيب العطر لأن غروب الشمس في المنطقة الشمالية يذكرني بالأوقات التي قضيناها في توسكانا. لقد عادت جميع الذكريات لتغمرني من جديد”. وتواصل حديثها مشيرة إلى العلبة المطبوع عليها مشهد مميّز لغروب الشمس رسمته بيدها حيث تبدو آثار للورود أيضًا كاحتفاءً بإرث بوي البريطاني. “تعلمين، لقد أراد دومًا العودة إلى إنجلترا. لذا عندما جئنا هنا، حرصت على إشاعة إحساس بإنجلترا – على سبيل المثال، لا شيء في الحديقة منظم أكثر مما ينبغي”.
وكان مسكنهما، المقام على مساحة 50 فدانًا، الجوهرة الخفية التي عثرت عليها إيمان بالصدفة عام 2011. وكان بوي قد أُعجِبَ بمدينة وودستوك عندما كان يسجل ألبومه الـ22، بعنوان Heathen (2002)، في استوديوهات Allaire Studios القريبة، وكان الموقع اختيارًا موفقًا تمامًا للزوجين الشهيرين اللذين لا يهويان لفت الأنظار: فقد كان على بُعد مسافة قصيرة بالسيارة من المدينة ويسهل الوصول إليه ومعزول بشكل مناسب ويمكن أن يكون ملاذًا إبداعيًا ومساحة ترفيهية لعائلتهما وأصدقائهما الذين انتقل العديد منهم بالفعل إلى المنطقة الشمالية. وكان بوي مفتونًا بوجه خاص بغابة أشجار البتولا البيضاء الأثيرية –شجرته المفضلة، على حد قول إيمان– التي كانت تحيط بالمنزل المتواضع المبني في السبعينيات ذي السقف البسيط. تقول هارديسون، التي تملك منزلًا بالجوار: “لقد كانا ينويان أن يكون مسكنًا لهما إلى الأبد، المكان الذي يجمعهما حين يتقدمان في العمر ويخط شعرهما المشيب”.
والمبنى نفسه حافل بمزيج انتقائي من الأعمال الفنية الرفيعة والمقتنيات القديمة والتحف من جميع أنحاء العالم، ومميّز بهيكل أنيق من مستويين مكسو بألواح خشبية مطلية بالأسود، ويعكس قصة الزوجين بالتزامن تمامًا. ويعد البورتريه الشهير لإيمان وبوي يسرق قبلة منها على الشاطئ في كيب تاون، والذي التقطه المصور بروس ويبر لصالح ڤوغ، من أوائل الأعمال التي تشاهدها عندما تسير عبر مجموعة مذهلة من الأبواب الأمامية المزدوجة الملونة بالأحمر الياقوتي متجهًا إلى غرفة المعيشة المفتوحة حيث وُضع مقعدان أنيقان من غرب إفريقيا، ظهرًا إلى ظهر، جلباه من السنغال – أحدهما منحوت بوجه ملك والآخر بوجه ملكة. وأعلى خِزانات المطبخ، تصطف الأواني الفخارية المصقولة من بالي، حيث قضى الزوجان شهر العسل. ويعلق مهندس الديكور، توم فيليسيا، الذي عمل مع إيمان وبوي في تجديد المبنى وتصميم ديكوراته، قائلاً: “إن رؤية شخصين على نفس الدرب من الإبداع، على نفس الدرب حقًا، لأمر نادرًا ما يحدث. كانا يتمتعان بجماليات مشابهة جدًا، من المرجح أنهما اكتسباها معًا. كانا بعيدين تمامًا عن الزيف والبهرجة. وكانت خياراتهما مثيرة دائمًا للذكريات والمشاعر ومفعمة بالحيوية والتأمل”.
وعلى طاولة ضيافة قصيرة من خشب الأبنوس، تحاور قطع لبوي من تشكيلة تصاميم مجموعة Memphis –منها مزهريتان بالأبيض والأسود من “إيتوري سوتساس”– الصورة الظلية المصورة لإبريق خزفي من “كارا وولكر”، في تلميح لموضوع يتكرر في أرجاء المنزل، ألا وهو: فكرة النصفين اللذين يجتمعان معًا لتكوين شكل كامل متقن. وعلى إحدى الخِزانات تقبع منحوتتان عجيبتان لوجهين بالحجم الطبيعي: يكادان يتطابقان في جمالهما المتماثل، إحداهما قالب صنعه بوي لوجهه مصبوبًا في الراتنج والآخر لزوجته مصبوبًا في البويتر. تقول إيمان وهي تفتح أبواب الشرفة لينساب الهواء الجبلي: “لست أبدًا من أولئك الذين يقولون ’ياه، إنه معي‘ ولكنه موجود بالتأكيد هنا. ففي الليل، عندما يحل الظلام، لا ترين سوى الأغصان البيضاء لأشجار البتولا. ثمة شيء ما روحاني وسحري لأنها تبدو مثل الجنود، كما لو كانت تحرسك”، وتردف: “وهنا أفكر، نعم إنه هنا”.