تابعوا ڤوغ العربية

عروس قرطاج لطيفة التونسية أحد عمالقة الزمن الجميل

تتمتع الفنانة لطيفة التونسية بموهبة فذة تسمح بتصنيفها بين عمالقة الزمن الجميل، هم الذين أوقعوها أسيرة فنهم وصوتهم وأدائهم، فتأثرت بهم بشكلٍ حتى يكاد يُخيّل لمن يستمع لصوتها أن صوت فنان قديم قد بُعث من جديد. حلّق صوتها عبر فضاء المنطقة العربية وأصبح دعوة مفتوحة للحياة يشدو كلمات وألحان أسماء فنية كبيرة، مما دفعها لرفض كل التنازلات وللسعي لتقديم فن محترم. لطيفة عرفت كيف تعيش بالفن وللفن؛ أعطته من ذاتها، فردّ الجميل شهرةً ونجاحاً وتألقاً.

 

ولدت لطيفة في الستينيات، والتقطت حين كانت في الرابعة من عمرها كلمات أغانٍ تتلوها أختها على مسمعها وغنّتها للعائلة في حديقة المنزل. رددت أغانٍ لفيروز وأم كلثوم وأسمهان وغيرها من الأسماء الفنية الكبيرة اعتادت أن تسمعها أيام الآحاد مع عائلتها. حبّ عائلتها للفنّ زاد من ميلها إلى الغناء، هي التي تعتبر نفسها محظوظة لأنها ولدت في تونس وفي كنف عائلة تحترم الفن وتعتبره رسالة إنسانية.

 

لعب الحظ لعبته معها مرةً أخرى حين وجدت نفسها تعاصر الموسيقار الكبير بليغ حمدي وتقف أمامه في مصر وتتلقى منه النصيحة بالانتقال إلى مصر. إلا أن لطيفة أرادت أن تتابع تحصيلها العلمي حرصاً منها على الحفاظ على دعم الأسرة لموهبتها الغنائية. وفعلاً اجتهدت الشابة في مدرستها رغبةً منها في تحقيق نجاح باهر حتى نال منها التعب والإجهاد ليصل وزنها إلى ٣٩ كيلوغراماً.

 

صحيح أن لطيفة لم تقبل دعوة بليغ حمدي، إلا أنها إلى جانب دراستها الثانوية، تلقت دروساً في معهد للموسيقى بشارع باريس، وهو مقر المعهد الأعلى للموسيقى حالياً. عام 1978، حازت ضمن برنامج «نادي المواهب» جائزة أفضل موهبة، ورشحتها بعد ذلك وزارة الثقافة التونسية لتمثيل تونس في المهرجان العربي الثالث في العراق، وقدمت أغاني تونسية، فكانت فرصة لتعرض قدراتها الصوتية عبر أداء أغنية «أنا في انتظارك» لأم كلثوم ولتقنع الحضور بحسن أدائها.

 

رغم رفضها نصيحة الموسيقار بليغ حمدي في الانتقال إلى مصر، لم ينس هذا الأخير صوتها فواظب على الاتصال بها لا سيما في سنتها الجامعية الأولى التي اختارت أن تمضيها في صف الأدب الألماني. واتصالات بليغ حمدي كان هدفها واضحاً: إقناع لطيفة بمتابعة دراساتها العليا في الموسيقى في مصر. وتحت إصرار الموسيقار وإلحاحه، وافقت عائلتها وسافرت مع والدتها إلى القاهرة حيث أشرقت نجمة تونسية وتلألأت موهبتها في سماء العالم العربي. دائماً ما تردد لطيفة حين تتحدث عن مصر: «أنا محظوظة بمصر وشعبها وإعلامها ومبدعيها، فقد أخذوا بيدي وأوصلوني إلى ما أنا عليه اليوم، أنا مدينة لأم الدنيا ومهما قدّمت لهذا البلد أعتبره قليلاً بحقّه، فمصر علّمتني وشهرتني واحتضتني أنا وأهلي، ووجودي الفنّي كلّه بفضل مصر».

وهي تقول قولها هذا، من دون أن تنسى بلدها الأم تونس وإليه تنسب حجر الأساس في نجاحها، فبين ربوعه ولدت وترعرعت، وقد عبرت عن حبها لتونس قائلةً: «أنا من الطبقة المتوسطة والبيئة التي تؤمن بأنّ الفن هو إبداع ونعمة من رب العالمين وجمهوري التونسي دعمني ومازال يدعمني».

 

تعاملت في بداية مشوارها مع الموسيقار عمّار الشريعي وطلبت منه أن يقدّم لها نفس النهج الذي تربّت عليه، وكانت أوّل مطربة تقدّم ألبوم يضم ٨ أغنيات. غنّت لطيفة بأكثر من لغة لكنّ العربية لغتها المفضلة فهي تعبّر أكثر عندما تغنّي بالعربية، وعندما تفهم لغة ثانية يمكنها أن تغنّي براحة. حلمت لطيفة بالتعامل مع أسماء كبيرة مثل زياد الرحباني ويوسف شاهين وعمر خيرت وغيرها الكثير، فهذه المقامات الفنية الكبير تعني لها كثيراً كفنانة لأنها ساهمت في وجودها في هذا المجال.

 

عُرفت لطيفة باختياراتها الفنية الصائبة، ولم تهتم يوماً لما يريده السوق، فهي لا تؤمن إطلاقاً بمقولة «السوق عايز كدة» وتثق بأن الجمهور يريد الجيد وليس الرديء. موقفها هذا ليس غريباً، إنما هو نتاج عددٍ كبير من العوامل. فقد درست الموسيقى في معهد الكونسرفاتوار في تونس، ونشأت على يد كبار الموسيقيين في تونس، ودرست الأدب الألماني مما وسع ثقافتها وغذّى ذائقتها الفنية، وتشربت من ثقافة تونس التي تضم ثقافات مختلفة، واستمعت لأعمال فنية بلغاتٍ متعددة منها الفرنسية والإنكليزية واللهجات العربية، وتعلّمت الكثير من المدرسة الشرقية القديمة، ووسّعت من آفاقها من خلال الاستماع لأغاني إديت بياف وميراي ماتيو وجو داسان وغوغوش الإيرانية وأمل ساين التركية دون فهمها للغة. إلى جانب طاقم عملها الفني الذي يضم شقيقتها ورفيقة دربها دوريس إسكندر ابنة المنتج الفني موريس إسكندر ومنتجة أول ألبوم لها، شكّلت هذه الخلفية الغنية والمزيج بين الشرقي والغربي الأساس الذي دفع لطيفة لاختيار أغانٍ ما كانت فنانة عربية أخرى لتختارها مثل «أنا ما تنسيش» و«يا أبيض يا أسود» و«حبّك هادي» لما تحمله من معاني جريئة، وفي هذا الصدد تقول لطيفة: «المرأة التونسية لا تشبه أي امرأة عربية أخرى، تربّيت في بيئة لا تفرّق بين الأنثى والذكر»، وتتابع قائلة: «استغرب الشاعر عبد الحميد محمّد، الذي كتب آخر أغاني أم كلثوم اختياري لأغنية «حبّك هادي» فالعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ رفضها بسبب جرأتها».

 

لم تتخذ لطيفة يوماً الفن كمهنة فهي بدأت هاوية وستظل على هذه الحال ولم تعمل يوماً من أجل المردود المادي على حدّ قولها، وهنا تستذكر العديد من المواقف التي تعرّضت لها حيث كانت السيارات الفاخرة تصطف أمام منزلها في تونس طالبة منها الغناء في حفلات الزفاف لكنّ والدتها كانت تمنعها وتخبئها في منزل عمّها لأنها كانت ترفض هذه العروض على الرغم من المنفعة المادية، غير أنّها فضّلت أن تستمر طفلتها في تحصين نفسها فنياً من خلال اتقان الموسيقى والعلم، فالفن رسالة وقيمة بالنسبة لوالدتها الحكيمة ولا يمكن أن يكون غير ذلك. والدة لطيفة لم تورثها احترام الفن فقط، بل شاركتها الكثير من الخصال الحميدة مثل الجديّة والاعتماد على الله وعلى الذات، فأم لطيفة هذه السيدة العظيمة علّمت طفلتها القراءة والكتابة مع العلم أنّها لم تكن تجيد أي منهما لتكتشف ذلك لطيفة بعد وفاة والدها حين اضطرت والدتها لتوقيع اسمها على مستند رسمي وحين سألتها عن هذه المهارة قالت لها والدتها: «يكفي أن أنظر إلى عينيك وأرى الصدق في تعبيرك، هكذا أدرك أنّك تفهمين ماذا تقرئين».

 

أصدرت لطيفة أكثر من ٣٠ ألبوماً غنائياً ضمّت الكثير من اللهجات العربية وكل هذه الأعمال كانت من إنتاج شركتها الخاصة «لاتيسول»، وهنا تعلّق: «أنا الوحيدة في العالم العربي التي تملك ما تغنّي من حقوق». أغانيها الكثيرة لم تمنعها من التمتّع بالفن الحقيقي، فالفنانة بداخل لطيفة تطرب عند سماع جارة القمر السيدة فيروز، وتستقوي به على أي حزنٍ قد يعتصر قلبها وتحتفل معه بأي فرح ينتابها، ويطربها صوت أم كلثوم وفايزة أحمد وأسمهان ونجاح سلام والمأثور الشعبي والتراث في العالم العربي.

 

لكل جواد كبوة، إلا أن لطيفة لم تعرف يوماً الكبوات، فمن غيرها يمكنه أن يعطينا ما هو معنى الفنان الحقيقي، وعنه تقول: «الفنان قدوة ودوره مهم وفعال في المجتمع من خلال مساهمته في مشاريع إنسانية وبيئية وطبية وتعليمية وصوته يصدح أكثر من صوت السياسي لأنّ هذا الأخير هو مجرّد كرسي عابر أمّا الفنان خالد في فنّه». فلطيفة على سبيل المثال أسستLatifa Foundation عام ٢٠٠٥ وساهمت في بناء مدارس لأنها مؤمنة أن العلم هو ركيزة المجتمع، كما أنها أطلقت مبادرة «أقوى واحدة» عام ٢٠٢٠ أمّنت من خلالها العلم لـ٥٠٠ امرأة أرملة في مصر ووفّرت لهنّ الإمكانيات وكانت تنوي أن توسّع هذه المبادرة لتطال أكثر من دولة عربية لكن ظروف كوفيد حالت دون ذلك، وقد قالت بأسف: «الجائحة غيّرت الكثير في مجتمعنا وهذا التغيير أثّر على جميع نواحي الحياة وطال الشق الفنّي فأصيبت الأغنية العربية بركود وقلّت المهرجانات والحفلات».

 

محطّات كثيرة غيّرت حياة لطيفة الفنية وتشعر بالفخر عند استرجاعها مثل ألبومها «أكتر من روحي بحبك» مع عمّار الشريعي وأغنية «مسا الجمال» مع بليغ حمدي. وبحكم فنّها ورقيها وشهرتها التقت لطيفة بالكثير من الشخصيات الفنية وغيرها وعاشت لحظات جميلة وأخرى حزينة لن تنساها وعنها تقول: «ما زلت ليومنا هذا أتذكّر يوم كنت مع المبدع يوسف شاهين في المستشفى في فرنسا واحتضني وتلطّخ قميصي بالدم الذي كان يسيل من أنفه، كما أنني أحتفظ بذكريات فرحة معه كان يتصل ويزورني في منزلي نرقص التانغو ونغنّي، أمّا على الصعيد الفني أذكر أنّ يوسف شاهين لحّن لأوّل مرّة في فيلم «سكوت حنصور» الذي شاركت في بطولته». وبالحديث عن شاهين الذي تكنّ له كل الاحترام والتقدير والمحبة، ندمت لطيفة لأنها وعدته قبل أن يفارق الحياة بشهر واحد بالمشاركة بأعمال سينمائية تضيفها إلى أرشيفها الفني غير أنّها لم تف بوعدها وتتمنّى أن تتمكّن من العمل أكثر في مجال السينما.

 

تتمنى لطيفة طرح عمل فنّي يجمع فنانين من العالم أجمع يكون الهدف منه إحداث فرق في حياة البشر أو كتابة تاريخ جديد، مشروع فنّي ضخم يتماشى مع رسالة الفنّ السامية والحقيقية يضم عدداً كبيراً من الفنانين يجول العالم وينشر المقامات الفنية والمأثور الشعبي بأسلوب جديد وهدفه الأساسي الحد من المجاعة والتركيز على التعليم. كما تعمل النجمة التونسية اليوم على مشروع مع منصّة نتفليكس يتناول قيم الفن، وقد رفضت إعطاء تفاصيل أكثر عن هذا المشروع.

 

لطيفة التي عايشت عصر الكبار تعيش اليوم عالماً مختلفاً وتواكب عصراً جديداً غيّر الكثير في حياة البشرية وبات الأكثر رواجاً بين الشباب، عصر مواقع التواصل الاجتماعي التي تعتبرها لطيفة أنها علّمت الأدب لمن يستخدمها لأنّها تفضح المستور، وعلى الصعيد الفني ساعدت هذه المنصات لطيفة على الانتشار بشكل أسرع وتربطها علاقة عمل معها فقط ولا تهتم بسيئاتها لأنّها لا تعير أهمية لأصحاب النفوس المريضة.

 

المرأة بداخل لطيفة تغنّي إلى درجة أنّها لو كان الحب ينقصها فهي تستمد الحب من خلال الأغنية التي تؤديها لأنّها تعيشها في كل تفاصيلها وتنتقل إلى عالم آخر خاص تشعر فيه بالسعادة. والحب في حياة لطيفة يعني لها الكثير وعنه تقول: «الحب هو الحياة والفرحة والعطاء والإخلاص، تجربتي الأولى في الزواج لم تفسد عليّ المغامرة ثانية، فعندما يأتي الشخص المناسب الذي يتقبّل فنّي سأرتبط به، لأنه في عالمنا العربي ليس سهلاً أن تكون المرأة متزوجة وفنانة». وأهم إنجاز في حياة أي امرأة يكمن في عطائها وتربية الأجيال القادمة فحين تربّي أطفالها تكون بهذه المهمّة تربّي بلد كامل فالأم بنظر لطيفة هي أهم فرد من أفراد المجتمع، غير أنّ المرأة العربية ينقصها القليل من الحرية، وتشدد لطيفة هنا أنّه لا يمكن لأحد أن ينصف المرأة إذ عليها أن تعمل جاهدة لإنصاف ذاتها وعليها أن تتقن الدفاع عن نفسها معنوياً وجسدياً متسلّحة بعلمها وثقافتها ورياضتها وثقتها بنفسها في وجه التحرش وغياب المساواة مع الرجل من حيث الحقوق.

 

ولطيفة كامرأة فنانة وإنسانة لم تقدّم التنازلات ولا ترضى بها ولديها الكثير من الخطوط الحمراء منها على سبيل المثال لا الحصر، ترفض أن يدخّن أو يشرب الخمرة أحدهم في قربها وهي تغنّي (تشاركنا هذا ضاحكة). هي التي ترسم خطوطها الحمراء بيد من حديد إلا أنها لا تقوى على مقاومة شراء الأزياء لأنّها تعني لها الكثير وتنفق الكثير من أموالها عليها. لم تتعامل كثيراً مع مصممي الأزياء في حفلاتها لأنّ ثيابها ملكها وتؤمن بأن مظهر المرأة يترجم شخصيتها بشكل قوي، ومن العلامات العالمية التي تحب أن تتألّق بها لطيفة «شانيل» التي تتصدر القائمة، ثم ديور وفندي و«جان بول غوتييه» لأنّها ترى الإبداع في تصاميمه، وكانت تعجبها تصاميم «جيان فرانكو» حين كان يعمل مع دار ديور للأزياء وارتدت الكثير من تصاميمه.

 

«اعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا واعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا» هذا ما تعتمده الفنانة التونسية في حياتها. وخلطة النجاح بسيطة جداً لدى لطيفة فمكوّناتها ربانية وإنسانية والنجاح يحتاج للاهتمام لأنّ الفن كالطفل الصغير إذا نقشت فيه أهم القواعد حتماً ستحصد الثمار الجيدة، وإذا ضحى الفنان من أجل فنه وحرص باستمرار على إثبات حضوره واهتم بنشاطه الذهني والبدني ومنح الاحترام لفنّه فسيبادله هذا الأخير الاحترام.

 

لطيفة هي بحق فنانة متألقة وامرأة تعرف من أين تؤكل الكتف وكيف تأتي الأمور من مأتاها، تعشق الفن وتبذل من أجله الغالي والنفيس وتبدو على استعداد دائم لسلوك طريق أحلامها الوعرة والطويلة. اليوم تحضر لطيفة لمشروع عمرها ولفيلم سينمائي ودراما ولألبوم مع زياد الرحباني ولحفلات كثيرة في العالم العربي، مشاريع تحدثت عنها لطيفة بحماس واضح، فمن حلمت بالأضواء ومن سطعت وسط سماء تعجّ بالنجوم ستتمكّن حتماً من جذب الأضواء مجدداً نحوها في المستقبل القريب.

الاقتراحات
مقالات
عرض الكل
مجموعة ڤوغ
مواضيع