نساء واجهن الموت وتحدّين المخاطر وهن مجهزات تجهيزاً ممتازاً بأفضل إجراءات ومستلزمات السلامة ومزودات بالمعرفة والمعلومات التي قد تلزمهنّ على أرض الواقع. إلا أن هذه التدابير لا تلغي حتمية القدر!
أرادت الإعلامية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة نقل الحدث فأردوها قتيلة في مخيّم جنين. وأبو عاقلة مراسلة مخضرمة وُصفت بعد وفاتها بأنها من «أبرز الشخصيات في وسائل الإعلام العربية». غطت في خلال حياتها المهنية الأحداث الفلسطينية الكبرى بما في ذلك الانتفاضة الثانية وتناولت في تحاليلها السياسة الإسرائيلية. كانت أبو عاقلة أول صحفية عربية يسمح لها بدخول سجن عسقلان عام 2005، وقابلت في حينها الأسرى الفلسطينيين الذين أصدرت محاكم إسرائيلية أحكاماً طويلة بالسجن في حقهم. وروت أبو عاقلة أن من أكثر اللحظات التي أثرت فيها هي زيارة السجن والاطلاع على أوضاع أسرى فلسطينيين، بعضهم قضى ما يربو على 20 عاماً خلف القضبان.وتعد شيرين من الرعيل الأوّل من المراسلين الميدانيين لقناة الجزيرة القطرية حيث التحقت بالقناة عام ١٩٩٧ أي بعد عام من انطلاقها، وقبل الالتحاق بالجزيرة عملت أبو عاقلة في إذاعة فلسطين وقناة عمّان الفضائية فغطت الاشتباكات المسلّحة والحروب بين الأطراف والفصائل الفلسطينية وجيش الاحتلال، فكانت دائماً محاصرة بالقذائف والنيران والرصاص وواجهت الموت وجهاً لوجه مرّات عديدة إلى أن أسكتتها الرصاصة الأخيرة في جنين.
«اخترت الصحافة كي أكون قريبة من الإنسان. ليس سهلاً ربما أن أغير الواقع، لكنني على الأقل كنت قادرة على إيصال ذلك الصوت إلى العالم، أنا شيرين أبو عاقلة»، هذا ما قالته شيرين في فيديو ترويجي بثته الجزيرة في أكتوبر الماضي بمناسبة الاحتفال بذكرى تأسيسها الـ 25.
فلماذا تختار المراسلات العربيات إيصال صوت الحق بمهنة محفوفة بالمخاطر، وما هو الدافع الذي يحثهنّ لاختيار أقرب طريقة إلى الموت، وكيف يمكنهنّ التصدي للمخاطر التي تتعرّض إليها في مناطق النزاع؟
تغطية الحروب والصراعات جزء من المسؤوليات الاجتماعية لوسائل الإعلام والعديد من الصحفيات يرغبن في العمل في هذا المجال بغض النظر عن النتيجة. لم تكن شيرين أبو عاقلة الأولى التي تقضي أثناء ممارسة عملها الصحفي ولن تكون الأخيرة، إذ أصبح الصحفي هدفاً بحد ذاته. فكثيرات هن المراسلات اللواتي تجرأن على تغطية الحروب.
ولتسليط الضوء على مخاطر هذه المهنة قابلنا الإعلامية اللبنانية رولا الخطيب. رولا الخطيب، خريجة دبلوم صحافة من الجامعة اللبنانية وماجستير قانون دولي وأمن ودفاع من جامعة السوربون في أبوظبي. صحافية منذ قرابة ٢٠ عاماً. تنقّلت بين قناتي جريدة وتلفزيون المستقبل وثم قناتي العربية والحدث. مراسلة حربية، غطّت معظم المناطق الساخنة في ميادين الحروب من أفغانستان إلى العراق وسوريا ولبنان وليبيا وأوكرانيا كما تخصّصت بملف الإرهاب بعد صعود تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» وزارت الرقة والموصل كما قابلت عناصر للتنظيم بعد إلقاء القبض عليهم «وجهاً لوجه».
بدأت رحلة رولا مع الإعلام عام 2004 بعد تخرجها من كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية في بيروت. انضمت إلى قناة العربية التي كانت حلماً لها وتحت رايتها خضعت لدورة «الصحافي الشامل» وبعدها حملت الكاميرا وجالت كردستان العراق وأفغانستان وليبيا حيث صورت وأنتجت التقارير بمفردها، وقد استذكرت تلك الفترة فقالت: «كنت أملك الكثير من الاندفاع و«الحشرية» لكي أعرف ما يجري على الأرض وكيف يعيش الناس في أوقات الحروب، وهذا الشغف جعلني أكمل بعدها رحلتي الإعلامية بين غرفة الأخبار داخل قناتي العربية والحدث، وأيضاً ميدانياً بين أفغانستان وبنغلاديش وسوريا والعراق ولبنان وليبيا وأوروبا وأوكرانيا والأماكن الساخنة في المنطقة والعالم»، وتابعت: « ناضلت كثيراً لأكون في الميدان. معظم الأحيان كنت من يقترح على إدارتي في القناة لإرسالي إلى مناطق النزاع وأجتهد لإقناعهم بقدرتي على تحمّل الصعاب التي ترافق هذه المهمات في هذه الأماكن الصعبة».
في بداية المشوار المهني واجهت رولا الكثير من التحديات، كونها امرأة كان عليها تبديد الخوف الذي يشعر به أهلها لما تحمله هذه المهنة من مخاطر ومن قلقهم حين يتفاجؤون بظهورها على الهواء، إلا أن حماسها وجرأتها أكسباها دعم والدها وفخره من دون أن ينجحا في إزالة الخوف من قلب والدتها ومن ثنيها عن الطلب إليها التوقف عن هذا العمل والاكتفاء بتقديم الأخبار أو إجراء المقابلات السياسية خصوصاً بعد حصولها على ماجستير في القانون الدولي وماجستير آخر في العلاقات الدولية والأمن والدفاع الدولي وبعد إنجابها. إلا أن رولا التي تشعر بشيء قوي في داخلها يدفعها لخوض ميدان الحرب كمراسلة رأي آخر عبرت عنه قائلةً: «يركز الإعلام على السياسيين وما يقولونه لكننا نفتقد دائماً لقصص الناس الذين يتأثرون بهذه الحروب والإشكالات السياسية. أحب أن يرى العالم معاناتهم وانعكاس السياسات السيئة والحروب عليهم».
في المعسكرات اضطرت رولا للنوم في كيس النوم والبقاء لفترات من دون طعام أو شراب أو حتى دورات مياه، وتعرضت لمواقف خطيرة جداً ، أخطرها كان في أكتوبر عام 2019 خلال الاجتياح التركي على شمال سوريا، حينها كانت قريبة من أن يتم اختطافها أو قتلها. وربما الأصعب كان التهديدات الكثيرة التي وصلتها بسبب تغطياتها ضد تنظيم داعش. وعن هذه المواقف شرحت: «في كل رحلة أكون معرضة للخطر حاملة دمّي على كفّي، وبعد معظم الرحلات أقوم بزيارة أخصائيين نفسيين لمساعدتي على تخطي ما أمر به من خطر أولاً وما أراه من حالات إنسانية صعبة تخلّف فيّ جرحاً». إلا أن هذه الأمور لم تكن صعبة بمقدار ما كانت النظرة الذكورية التي واجتها، فقد قالت: «معظم عملي بين الرجال فأنا عملت كثيراً على شخصيتي كي أجعلهم يثقون بي كقائدة فريق»، وتطرقت رولا في حديثها إلى خرق الكثير من الميليشيات أو الفصائل والقوانين الدولية المتعلقة بحماية وتحييد الصحافيين مما يؤدي إلى مقتل الكثير من الصحافيين.
رولا ليست امرأة عاملة فقط، إنما هي أم وعن تجربتها كأم قالت: «أمومتي هي أهم إنجاز في حياتي وابني هو الأولوية بالنسبة لي، حتى الآن تمكنت من خلق توازن بينهما لكن إذا اختل هذا التوازن سأختار أمومتي».
شكل مقتل شيرين أبو عاقلة صدمة بالنسبة لرولا ولكل مراسل ميداني حول العالم، وعن هذا قالت: «كبرنا على صورتها وتقاريرها. في الساعات الأولى كنت حزينة ومفجوعة حتى إنني تذكرت كم من المرات تعرّضت لمواقف خطيرة وكان يمكن أن أموت أو أختطف. لكن بعدها تذكرت بأنه عليّ أن أكون حذرة، وأن الموت لا مفر منه وهو سيأتينا أينما نكون وكما يقال: «اللي إلو عمر ما بتقتله شدة».
كان لنا أيضاً حديث مع مراسلة قناة العربية الحدث كريستيان بيسري التي قضت أكثر من شهر في أوكرانيا في عزّ حربها. لم تكن قد غطت حرباً في السابق وكانت تلك تجربتها الأولى ومعمودية النار على الصعيدين الشخصي والمهني.
شغف المهنة والرغبة في اختبار جانب آخر منها كان دافعها الأول حسبما تقول وكذلك الجانب الفضولي في شخصيتها الباحث دوماً عن تحديات جديدة، وقد قالت: «لم نشهد حرباً من هذا النوع منذ الحرب العالمية الثانية لذا كنت شاهدة على أحد فصول التاريخ كون هذه الحرب بمكانها وظروفها استثنائية وفي العمق الأوروبي وتأثيرها يشمل تقريباً كل العالم، كان الأمر بالنسبة لي تجربة لا تتكرر».
كانت كريستيان في مدينة كراماتورسك حين دوى صوت الإنفجار الأول معلناً اندلاع شرارة الحرب. «في خاركيف كان أوّل لقاء لي مع شبح الموت والخوف، كنت في بث على الهواء حين رأينا دبابات روسية تتقدم، ركضت مع الجنود المنسحبين ورميت بنفسي على درج ظننت أنني سأصل إلى ملجأ لكن الباب أسفل الدرج كان مقفلاً ولا مكان بعده أحتمي فيه».
على خطوط النار عاشت المراسلة الشابة تجربة إنسانية عميقة وعرفت مع أهل البلد معنى الجوع والخوف والبرد في حرارة تدنت إلى عشرة تحت الصفر. خوفها على نفسها لم يكن يضاهيه إلا خوفها على أهلها الذين يتابعون من لبنان رسائلها على الهواء ولم تشأ أن تفتح رسائل أمها عبر الواتساب خشية أن تعيقها العاطفة عن أداء مهمتها. تجربة الخروج من أوكرانيا
كانت أصعب من الجبهات لما حملته من مخاطر وذل وجوع وإرهاق وصور مأسوية للناس الهاربين.
قرأت كريستيان خبر مصرع شيرين أبو عاقلة على مواقع التواصل الاجتماعي فصعقها الخبر وتأثرت أكثر عندما رأت الصور، وقد قالت: «مشاعري تجاه الصحافيين الذين يقتلون خلال تأدية مهامهم، بعد تجربتي، باتت تتخطى
التعاطف والأسى. فكرت كثيراً، ماذا شعرت شيرين قبيل إطلاق النار عليها، هل قالت في قرارة نفسها، ما قلته لنفسي في لحظات معينة: انتهى! فكرت أيضاً بزميلتها التي كانت بقربها وبالذعر والعجز الذين شعرت بهما والذين
قد يتحولا لاحقاً إلى شعور بالذنب».
رغم أن مقتل أبو عاقلة لم يفارق تفكيرها إلا أن المأساة لم تخفف من حماسها ولن تردعها عن دخول مناطق النزاع أياً كان الخطر الذي قد تواجهه، وقد دافعت عن حماسها قائلةً: «فقط في مناطق النزاع نرى كل جوانب الإنسان دفعة واحدة: القوة والضعف؛ البطولة والانهزام، الموت والنجاة، العبثية والالتزام، شيء ما يجعلك غير قادر على مقاومة ما يمكن
أن يحمل نهايتك أيضاً».
يبدو أنّ عزيمة المراسلات العربيات تستمد جسارتها من أرواح الأبطال والشهداء، لأن هؤلاء الأبطال لا يصنعون في منازلهم أو وراء مكاتبهم، بل من الإرادة والحلم والرؤية، فكيف لا وهنّ أثبتن وعن جدارة القول المأثور «المرأة التي تهزّ المهد بيمينها تهز العالم بيسارها» وهذا كلّه بفضل إصرارهن وحكمتهنّ وإرادتهنّ. فلتكن حادثة شيرين عبرة لكل من قلّل من شأن المرأة المراسلة ومن قدراتها، فهي لن تخلق جبانة ولن ترضى أن تترك هذا العالم إلا ببصمة تخلّد اسمها وتعيد إلى الأذهان مشوارها الحافل بالإنجازات والنجاحات.