لطالما كان السوق جزءاً أساسياً من الثقافة والتراث العربي، ولا يزال يلعب دوراً محورياً في حياة المجتمعات العربية وإن تبدل نمط الحياة من حوله. فالسوق استمرارية لتقاليد وحرف ومعرفة شكلت الهوية العربية على مر العصور ولا تزال حتى اليوم تحمل بصمتها المميزة من الخليج إلى المغرب العربي، تشتهر المدن العربية الكبرى بأسواقها التقليدية التي لا تزال مراكزا تجارية تنبض بالحياة والحركة وتستقطب الزوار من أنحاء البلاد كما تجتذب السواح ليتعرفوا إلى ثقافة عميقة الجذور ويستمتعوا بتجربة حسية غنية بالروائح والألوان قل نظيرها في العالم.
من سوق المدينة القديمة في مراكش إلى خان الخليلي في القاهرة ، ومن سوق واقف في الكويت إلى سوق الخاسقية في جدة وسوق السويكت في الخبر وسوق المجلس في القسيم وسوق الحجاز في مكة المكرمة، تتنوع أسماء الأسواق لكن الروح واحدة والتاريخ يكاد يكون واحداً. فالسوق عُرف في العالم العربي مع ازدهار قوافل التجارة ، إذ كان العرب في الماضي ولا سيما أبناء الجزيرة العربية ، يسافرون بكثرة إلى أفريقيا وأوروبا والشرق الأقصى للتجارة وبيع سلعهم ، وبالتالي، كانت هناك طرق تجارية بين هذه المناطق تحمل محطات التبادل. ونشأت أول الأسواق كمحطة للتبادل التجاري وبيع البضائع التي كان التجار يعيدونها معهم من رحلاتهم.
ومع الوقت كانت هذه المحطات المؤقتة تتجذر لتصبح سوقاً معروفاً يقع على طريق التجارة ويقصده الناس من المناطق المجاورة وتتوقف عنده القوافل. ومع التوسع العربي واستقرار ظروف الحياة صار السوق حاجة ضرورية وانتقل إلى داخل المدن وبدأ يشهد ازدهاراً كبيراً. مع نمو هذه الأسواق وازدهارها، جمع الحرفيون والصناعيون أنفسهم فيها للاستفادة من تدفق الزوار النشط. ومع الوقت نمت الأسواق وتمحورت حولها مختلف نواحي الحياة الحضرية فصارت تضم المسجد، والمدرسة، والحمامات العامة، والمتاجر. شكل المسجد ركيزة أساسية للسوق، حوله تنتشر الحوانيت والحرف وتلقى تلك التي تعنى بالأغراض الدينية الإسلامية مثل سجاد الصلاة والمسابح والعطور وحتى أدوات الوضوء مركزاً مرموقاً حول المسجد، أما سلع الحياة اليومية فتنتشر على مسافة أبعد وتتجمع وفق طبيعتها في أسواق أو أزقة صغيرة مثل أسواق المجوهرات والأقمشة والبهارات والحبوب، والنحاسيات، والسجاد، وغيرها. ومع الوقت خضع السوق لهندسة مميزة تكاد تكون متشابهة في مختلف البلدان العربية وتحول إلى سوق مسقوف داخل المدينة تتشعب من ممرّه الأساسي مجموعة من الأزقة تجتمع في كل منها حرفة أو سلع متشابهة.
وما زالت الأسواق التقليدية حتى اليوم تحمل إلى حد ما التقسيم ذاته ومن يزر أسواق الشام القديمة أو سوق ديرة في دبي أو أسواق مدينة طرابلس القديمة تجذبه رائحة التوابل المنبعثة من سوق البهارات ويستهويه بريق الذهب الذي يشع من المصاغات الذهبية المعروضة في واجهات المحلات.
حتى أواخر القرن العشرين كان السوق لا يزال مركز التجارة الرئيسي في المدن العربية وشريان الحياة فيها. لكن مع فورة الحياة العصرية نشأت اسواق بديلة تحاكي الحاضر وتشبه النمط الغربي لتحل الألفية الثالثة وقد تبدل نمط الحياة بشكل جذري وصارت المتاجر الكبرى والمولات هي البديل التجاري عن السوق التقليدي. لكن روح السوق وأصالته وما يختزنه من ذاكرة جماعية استطاع الصمود وأعطى لنفسه دوراً جديداً. فبات قيماً على التراث ومجاهداً في وجه اندثار التقاليد والحرف القديمة وصار السوق رمزاً للحضارة العربية والإسلامية في قلب عالم اليوم. وبدورهم لم يتخل الناس عن السوق رغم كل البهرجة التي تقدمها المجمعات الحديثة وما زال يجذبهم ويولّد في نفسهم الحنين إلى اصالة الماضي. قد يشترون المجوهرات من أفخم البراندات العالمية لكنهم يعودون أبداً إلى سوق الذهب للبحث عن قطع تمثل تاريخهم وتترجم مشاعرهم. وصار السوق في دوره الجديد نقطة جذب للسياح يدهشون لأصالته ونكهته الشرقية ويعشقون ألوانه وروائحه وبضائعه التقليدية.
هذا العشق للسوق القديم ترجمه المصور والمخرج شاكر هاني على شكل قصة تحمل اسم Miss Souk فهاني وهو من أصول مغربية نشأ وعاش في برلين لم يبتعد عن أصوله المغربية الراسخة في الصحراء ولم تغادره صورة السوق التي كان يقصدها صغيراً. في زياراته للمغرب كانت له طقوسه الخاصة في السوق.
«كنت أرتدي الزي التقليدي وأمضي وقتي كواحد من أهل السوق. هناك السوق ليست للتجارة فحسب بل يعيش الناس فيها وسط منازلهم ويلعب أطفالهم في شوارعها وبين محلاتها». من هنا ومع انتقاله إلى المملكة العربية السعودية وزيارته لأسواقها ليستمد منها مصادر إلهام جديدة ولدت لديه فكرة امرأة تسكن في السوق ، تهوى الموضة لكنها أدارت ظهرها للصرعات الآنية لتشتري من السوق أقمشة وأكسسوارات وزينة تعيد صياغتها على طريقتها الخاصة وتبتكر إطلالة خاصة بها تثبت دورها كامرأة قيادية ذات حضور طاغٍ وحس عالٍ بالموضة.
في فكرة السوق وجدت رنيم شعبان مصممة الأزياء واستشارية الموضة انعكاساً لنظرتها إلى الموضة .«هدفي أن اقول من خلال تصاميمي إن كل شخص قادر على الابتكار وعلى تحوير قطعه القديمة التراثية أو العتيقة لاستخراج فكرة جديدة تحمل اسماً جديداً. أنظروا إلى أهلكم لتستعيدوا الماضي وتستلهموا منهم وابتكروا قطعاً جميلة تحمل خلفية عاطفية». تحب رنيم أن تنظر الى بساطة الناس في السوق لترى كيف يتعاملون مع ملابسهم من هنا ولدت فكرة فستان مصنوع من قماش مخصص في الأصل ليكون غطاءً، قماش متواجد في الأسواق الشعبية في مصر أو سوريا أو السعودية. «حولته إلى فستان بقصة انسيابية بسيطة إنما مع أكمام مميزة، ارتدته ملكة السوق كما ارتدت سندريلا فستانها المصنوع من أشياء البيت البسيطة الذي حوله السحر إلى فستان أميرة