لن تكف يد التخريب عن العبث بالمشهد الحضاري والثقافي، فهذه طريقة سريعة لطمس هوية شعب أو مدينة… إلا أن سلطان الحقّ سيمدّ يده دائماً لحماية الإرث الثقافي ولخلق قنوات تضمن امتداده على مرّ الأزمنة والعصر… وعلى ذلك شهدت مكتبات طرابلس والعالم العربي.
أحرق المغول عام 1258 بيت الحكمة أكبر مكتبات بغداد درّة المعرفة وأعظم مكتبات العالم آنذاك. والجريمة تكررت على مرّ السنين في دول عربية عديدة لتطال مكتبات عريقة. ففي غزة، امتدت يد الاحتلال لتطال أكبر وأهم مكتبات القطاع، وهي تلك التي أسسها سمير منصور عام 2000 على مقربة من جامعات الأزهر والأقصى والإسلامية ووزع على رفوفها كتب قيمة وموسوعات علمية وثقافية غطت مختلف المجالات. وأعيد افتتاح المكتبة عام 2021 بفضل تضافر الجهود المحلية والمساعدات الخارجية وأبرزها ما قدمته الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، رئيسة الاتحاد الدولي للناشرين، التي خصصت ريع الطبعة الأولى من كتابها «العاصمة العالمية للكتاب» لدعم عملية إعادة بناء المكتبة.
وفي الموصل، العراق، أحرقت داعش عام 2015 مكتبة الموصل المركزية، أقدم المكتبات التاريخية في نينوى، فقضى على محتوياتها من كتب ووثائق ومخطوطات بعضها نادر. ومرة جديدة، كانت الغلبة للعلم والثقافة فأُعيد افتتاحها عام 2022 بتمويل من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وجمهورية ألمانية الاتحادية ومحافظة نينوى.
وفي مصر كانت مكتبة الإسكندرية القديمة من أشهر وأقدم المكتبات التاريخية. فلقد تم تشييدها في القرن الثالث قبل الميلاد في عهد الأسرة البطلمية. فكانت تعتبر آنذاك أهم مركز علمي في العالم القديم. دمرت المكتبة بعد أن تم حرقها في العام 48 ق.م على يد يوليوس قيصر. مكتبة الإسكندرية الجديدة هي إعادة إحياء لمكتبة الإسكندرية القديمة في مشروع ضخم قامت به مصر بالاشتراك مع الأمم المتحدة.
اليمن، سوريا، الأردن، كلها دول لم تسلم بعض مكتباتها من التخريب. وكان للبنان، وتحديداً مدينة طرابلس الشمالية حصتها من هذه الأعمال المؤذية. زيارة سريعة إلى المدينة، ستُظهر حجم الخسارة التي مُنيت بها المدينة بعد الأزمة المالية والاقتصادية التي شهدها لبنان بعد العام 2019. فبعد أن كانت أسواق المدينة القديمة وشوارعها تعجّ بالمكتبات، أغلق معظمها أبوابه، ولعلّ أهمها هي مكتبة دار الشمال التي حصرت نشاطها في مبناها الحديث عند مدخل المدينة. وخسر أبناء المدينة مكتبة مركز الصفدي التي إلى جانب النسخ الورقية التي وفرتها، قدّمت لروّادها مكتبة إلكترونية ضخمة تضم مصنفات من جامعات عالمية.
أما مكتبة السائح، فقصتها قصة! أسس الأب إبراهيم سرّوج هذه المكتبة في سبعينيات القرن الماضي إلا أن الكتب التي تحويها يزيد عمرها عن المائة عام. لن تصل إلى المكتبة العريقة ما لم تمرّ في زواريب المدينة العتيقة وبين مارةٍ لا يتوانون عن مرافقة الزائر إلى بابها حيث يهبّ الأب سروج ليرحب به بحفاوة، وليبدأ مع أول سؤال بسرد معلومات مفيدة وروايات ممتعة.
ورغم القيمة الثقافية الكبيرة التي تمثّلها، لم تسلم هذه المكتبة من التخريب. ففي العام 2014، تعرّض مخربون من جماعات متطرفة بالرصاص الحيّ للأب سروج وأضرموا ناراً بين أروقتها أتت على جزءٍ كبيرٍ منها وألحقت بالمبنى العتيق أضراراً كبيرة، تكفلت جمعية «كفانا صمتاً» حصراً بترميمها لتفتح المكتبة أبوابها أمام الزوار عام 2015، من دون أن تتمكن من إخفاء آثار الحريق التي لا تزال تظهر في كتبٍ نال الحريق من أطرافها، وعلى قبب تتشح بسواد الدخان، وفي رائحة رماد تنبعث من الزوايا.
لم ينهي الأب سروج وابنه جهاد حتى يومنا هذا إحصاء الأضرار، لماذا؟ يجيب الأب سروج عن هذا السؤال موضحاً: «كثرٌ هم الذين دخلوا إلى المكتبة مدّعين تقديم المساعدة. لا يمكن أن نثق بكل من يمد يده لنا. لذلك فضّلت أن نقوم، ابني جهاد وأنا، بالعمل»، ومن عرف المكتبة بعد الحريق مباشرة، يعي المجهود الجبّار الذي يبذله الأب وابنه لاستعادة محتويات المكتبة. اليوم يجد الزائر بين جدران المكتبة وتحت سقفها المدبب وفي حديقتها الخلفية المسقوفة بسقفٍ شفافٍ يسمح لأشعة الشمس أن تعانق أرضيتها رفوف شبه متلاصقة تحمل كتباً تعود نسخ بعضها إلى أوائل القرن العشرين، وأخرى حديثة، وتتنوع لغاتها بين العربية والفرنسية والإنكليزية والألمانية والإسبانية والبرتغالية والروسية، ومصنفة وفقاً لموضوعها: كهنوت، إسلاميات، أدب، سياسة، تاريخ، فلسفة، فقه، علوم، رياضيات…
مع ابتعاد الناس عن الكتاب، صرّح الأب سروج للمرة الأولى أنه يعمل اليوم على إنشاء منصة إلكترونية تتيح للقاصي والداني الاطلاع على محتويات المكتبة وشراء ما يحلو له مع خصمٍ يصل إلى 50%، ويعرض على كلّ من يساهم في نشر هذه المنصة الحصول على نسبة 10% من الأرباح. ورغبةً منه في تشجيع القراء، يفتح الأب باب المكتبة أمام كلّ قارئ يعجز عن تحمّل تكلفة الكتب ليختار ما يحلو له بأسعار رمزية. كما يفكّر تحت شعار «تعالوا نقرأ معاً» (كان وليد الصدفة أثناء إجراء المقابلة) في تقديم ملخّصات عن الكتب المتوفرة في المكتبة لمساعدة الزوار على اختيار ما يناسب أذواقهم وتوجهاتهم.
عند النقطة الفاصلة بين المدينة القديمة والمدينة العصرية، يقبع قصر نوفل المهيب. في أواخر القرن التاسع عشر شيّد قيصر نوفل، الشخصية المرموقة في زمن الدولة العثمانية، هذه التحفة العمرانية على الطراز الإيطالي لتشكل علامةً فارقة في مدينة الفيحاء. وهبت عائلة نوفل القصر فيما بعد إلى بلدية طرابلس التي حوّلته عام 1975 إلى مركز رشيد كرامي الثقافي الذي يضم بالإضافة إلى قاعات المؤتمرات والندوات، مكتبة عامة ضخمة. يساور المرء عند دخوله قاعة المكتبة شعوراً بالهدوء والراحة، فمساحتها الواسعة وخزائنها المنظمة، وكتبها المرتبة وسقفها المزيّن بالزخارف ونوافذها العملاقة، تبعث في النفس رغبةً بالغوص بين أوراق كتبٍ يعود تاريخ بعضها إلى عدة عقود من الزمن. اشترت بلدية طرابلس قسماً من محتويات المكتبة وتبرعت هيئات محلية ودولية وفردية بالقسم الآخر منها، واليوم تتنوع الكتب المتوفرة على رفوفها بين كتب في التاريخ والجغرافيا وعلم النفس وعلم الاجتماع والسياسة والقانون وعلوم الدين، بالإضافة إلى الروايات والموسوعات.. يجد فيها الباحث والمتخصص والطالب والهاوي مبتغاه.
هذه المرة، كان عامل الزمن من نال من بناء المكتبة القديم، فخضع لعملية ترميم أولى عام 2000 شملت السّقف والقرميد والديكور وتمديدات الكهرباء والتمديدات الصحيّة والدهان والبرادي، وثانية عام 2022 حين تكفل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بترميمه بعد تداعي جزءٍ من سقفه. اهتمام القادة العرب بالكتاب لم يبهت يوماً، بل على العكس من ذلك، نلاحظ اليوم إنه يتعاظم أكثر فأكثر؛ وخير دليل على ذلك هو مكتبة محمد بن راشد. تُعد هذه المكتبة الواقعة في منطقة الجداف على خور دبي التاريخي من أكبر المكتبات في العالم وأكثرها تطوراً وتنوعاً من حيث التقنيات المستعملة فيها والمرافق التي تضمها وأنواع الكتب التي توفرها.
الموضوع نشر للمرة الأولى على صفحات المجلة لعدد شهر مارس 2023