تابعوا ڤوغ العربية

أبجدية غادة السمّان على صفحات عدد شهر سبتمبر 2018

غادة السمان بريشة جوليا بيلزير لعدد شهر سبتمبر 2018 من ڤوغ العربيّة

لم تغيّر الأعوام غادة السمّان.  لا تزال الأديبة السورية مشاغبة متمسّكة بالإيمان بالحروف. لم تتغيّر الكاتبة لكن الوطن تغيّر، والزمن تغيّر، والأمل تغيّر حتى فقد معناه. هذا الحوار يجول بين الحاضر والماضي، والـ«هنا» والـ«هناك».

نشر هذا المقال في عدد شهر سبتمبر 2018 من ڤوغ العربيّة

تعيش غادة السمّان في باريس منذ أربعة وثلاثين عاماً، وتكتب عن الحياة في دمشق وبيروت كأنها لا تزال هناك حيث لم تكن «المنتمية»، وحيث اختبرت شعوراً تصفه بأنه «أقسى أنواع الغربة… حين كنت أعيش في الوطن كنت أشعر أحياناً بالغربة، فأنا عميلة للحقيقة التي ليست حبيبة مفضّلة في عالمنا العربي». لقد عزّزت الحياة في الغرب إصرار الأديبة العنيدة على عدم التفريط بالحرية. «بعد ٣٤ عاماً في باريس، حين أزور العالم العربي ممثّلاً ببيروت أشعر بالحنين أولاً، ثم ببعض الحزن على ما يجري، دونما استعلاء. في باريس أعشق حرية القول والكتابة. الكاتب غريب أينما حلّ، ولعلّ أقسى أنواع الغربة هي الغربة في الوطن الحبيب». 

تكتب السمّان عن مدن غادرتها لكنها، كما تقول، تشعر بأنها تعيش فيها وتنتمي إليها. «أنتمي إلى عالمي العربي على نحو حقيقي عفوي، وأعيش في مجتمعي وأكتب عنه، فالبعد الجغرافي لم يعد يعني الكثير في عصرنا. ثم أن باريس مدينة مفتوحة على الفن، ومَن يزر أرضها ومتاحفها ويطالع كتبها الفرنسية يتعلّم صقل أدواته الفنية والمعاصرة، وذلك لا يعني التخلّي عن الأصالة بل تزويجها بروح العصر في الأعمال الإبداعية. حين أقمت في سويسرا (جنيف) مدة عامين استوحيت كتابة روايتي «ليلة المليار» التي صدرت ترجمتها بالإنكليزية عن «منشورات جامعة سيراكيوز»، كما صدرت طبعة ثانية من منشورات الجامعة الأميركية في القاهرة… وحين عشت في لندن طوال عامين كتبت «ليل الغرباء». ولأنني أعود باستمرار إلى بيتي في بيروت كتبت روايتي «سهرة تنكرية للموتى». ولأنني أقيم في باريس وأمتصّ مناخاتها الإبداعية من دون التخلّي عن كوني كاتبة عربية كتبت مجموعتي «القمر المربّع»، وفيها الكثير من آثار إقامتي في روما ونيويورك… حياتي في الغرب أضافت إلى أدبي ككاتبة عربية ولم تقتلعني من جذوري، وما سرقت روحي بل أضافت «أوكسيجيناً» مختلفاً تنفّستْه أبجديتي. ثم أن إقامتي في باريس سهّلت تواصلي مع المترجمين لأعمالي التي صدر الآن بعضها مترجماً إلى عشرين لغة، منها الروسية والبولونية والألمانية والفرنسية والإنكليزية والإسبانية والإيطالية والكورية والهندية واليوغوسلافية والهولندية والسويدية والصينية والفارسية والبلغارية والأرمنية والرومانية، على نطاق تجاري واسع واستشراقي ضيق». 

أن تلهم السمّان مدنٌ عرفتها في مراحل سابقة لا يعني أن الكاتبة تستحضر صور ماضي هذه المدن وتعيش فيه. تقول الكاتبة بوضوح إنها «لا تعيش في الماضي»، وتضيف «لست كاتبة معجونة بالأوهام. الماضي «شيك» بلا رصيد، وأنا لا أعيش فيه، لكنني أتعلّم من أخطاء قمت بها خلاله. أما الحاضر، فلم يفاجئني بل توقعته في الكثير من أعمالي الأدبية. في روايتي «بيروت 75» توقّعت العرّافة انفجار العنف في بيروت حين قالت للنائب في المجلس النيابي اللبناني الذي جاء لاستشارتها: «أرى دماً، كثيراً من الدم…». وقد نُشرت الرواية عام 1974 مجلة «الأسبوع العربي» حين كان لبنان يعيش ما يبدو ازدهاراً. فرح وياسمين، الشخصيتان في الرواية، خافتا، في الطريق من دمشق إلى بيروت بحثاً عن المال والشهرة، من مشهد السمك الأحمر المعدّ للبيع على مفارق الطرق وفي مدخل العاصمة اللبنانية. وتلك هي حال بعض الناس اليوم في لبنان: أسماك ملوّنة في أكياس للبيع».   

من إصدارات غادة السمان

صدمات الماضي الذي أصبح بعيداً أكسبت السمّان مناعة ضد صدمات الحاضر. «لم تصدمني أي أوهام منذ زمن بعيد، منذ هزيمتنا كعرب في 5 حزيران 1967 وكنت في بداياتي ككاتبة. وأصدرتُ بعدها كتابي الثالث «رحيل المرافئ القديمة» الذي فاز بجائزة رئيس الجمهورية اللبنانية التي كانت تقدّمها «جمعية أصدقاء الكتاب»، وذلك مناصفةً مع الشاعر يوسف الخال. السياسة تؤثر في لقمتنا ورحيلنا واستقرارنا وفي مصرع بعض أحبائنا أو ازدهار حياة سواهم، ولا أحد يستطيع تنزيه نفسه عن أثرها في حياته. تجدينها في كتبي كلّها. وأنا خاطئة كبيرة في كل حقل ولا أنزّه نفسي، ولكنني في السياسة لم أخطئ كثيراً لأنني لم أعرف الأمل كثيراً. وأعرف أن الندم، طفل القرارات الشخصية غير الدقيقة، لا يجدي إلا في حقل تعليمنا تحاشي أخطاء مشابهة. الندم عقرب يقيم في الذاكرة ويلسعها باستمرار كي لا نكرّر ما كان. أحمل معي في الغربة بقجة من الذكريات لأتعلّم من أخطائي محاولةً عدم تكرار (وأكرّرها) مع الكثير من الغفران لسواي قبل نفسي».

زمن طويل مرّ منذ اعتنقت السمّان الكتابة، فهل تغيّرت أهداف أبجديتها ومعناها مع تقدّم الزمن وتطوّر التجربة؟ «عندما أعدت تصحيح كتابي الأول “عيناك قدري” لنشره في طبعة جديدة أدركت أنني تبدّلت لأنه لم يعد بوسعي كتابة سطور كهذه، ولم يكن في وسعي يومئذ أن أكتب روايتي الأخيرة «وداعاً يا دمشق» التي صدرت مؤخراً مترجمة إلى الإنكليزية في لندن عن منشورات «دارف بابليشرز». نحن نتبدّل وننفي ذلك أحياناً… كل شيء يتبدّل مع الأعوام. وقد ينطلق الخيال من جماحه مع مرور الأعوام أو يهمد…وثمة دائماً الفروق الشخصية، والقارئ هو الحكم كما الزمن حين يطالعني أحفاد أحفادي، إذا كنت لا أزال مقروءة، وأرجو ذلك!».

مواجهة إقصاء المرأة كانت أحد أهداف كتابات غادة السمّان. «صرت من زمان أرى أن الرجل العربي يعاني أيضاً الإقصاء عن حريته… وأن المأساة في عالمنا العربي في الإقصاء عن الحرية، وهي مشتركة بين المواطنين من نساء ورجال، لكن المرأة تظلّ مظلومة المظلومين، فهي تعاني كأنثى وكمواطنة في آن».  

أنا مليئة بالثقوب والتناقضات ولم أزعم يوماً أنني كاتبة مثالية

نعود إلى معنى الكتابة في شكل عام وأهدافها في زمننا الحالي، وقدرتها على التغيير، فتعلّق غادة السمّان قائلةً «صارت وسائط التواصل الاجتماعي تلعب دوراً كبيراً في عملية التغيير (سلباً وإيجاباً)، وصار بوسع كيم كارداشيان مقابلة السيد ترامب رئيس أقوى دولة في العالم والحصول على العفو عن محكومة بالسجن نادمة على المتاجرة بالمخدرات. ثمة عوامل عصرية كثيرة تلعب دوراً في التغيير، ولكن إلى أين؟ هذا سؤال تمكن الإجابة عليه بوضوح بعد نصف قرن ولن أكون في هذا الكوكب يومئذ!».

ماذا عن الجرأة التي طالما عُرفت بها غادة السمّان، هل تغيّرت علاقتها بها مع مرور الزمن؟ «مع الزمن، ازداد انتماء للحرية وهي أغلى من أي ثمن… أغار من حرية الكاتب في الغرب في التعبير على شاشات التلفزيونات أو سطور الصحف والكتب والأفلام… وبدلاً من الهرب من معركتي الحقيقية في الوطن بالزعم أنني أصبحت فرنسية، أواجه قدري ككاتبة عربية عميلة للحقيقة وجاسوسة دائمة لها، ولن أتحوّل يوماً إلى عصفور يغرّد في قفصه لسجّانه! لا ثمن في العالم أغلى من تخلّينا عن قيم الكتابة… قال الأديب الشهير محمد شكري عني في حوار له: “غادة السمان كانت الأديبة الشجاعة الأولى في العالم العربي… إنها رائدة الجريئات في حواراتها وإبداعاتها، صامدة رغم كل المغريات”. كلّ ما فعلته هو أنني فتحت باب القفص الأبجدي وطرت منه بلغة غير مستعارة، وبأجنحتي الأبجدية الحقيقة، وليكن ما يكون! لا ألحظ أنني جريئة ولا أشعر بأن الجرأة موقف مسرحي بل هي جزء من السلوك الداخلي للكاتب ويتجلّى في سطوره وأفعاله. الجرأة ليست ديكوراً بل هي حقيقتنا، والكاتب الذي يجهل فن الكذب مثلي، كتزوير الحقائق، قد يدان بالجرأة. كما لا أشعر بأن الجرأة موقف نسائي بل هي ذلك الموقف الإنساني من الأشياء. 

لم تتغيّر غادة السمّان، ما زالت «تكتب ما يحلو لها حين يحلو لها». نتلصّص على أيامها، لنتأكد من أن شيئاً لم يتغيّر، «لا يوم مشابهاً للآخر عندي… لا أحبّ العادات الروتينية وإن كنت أمارس بعضها كالمشي على ضفة «السين» مقابل بيتي أو التسكّع في شوارع باريس ومعارضها ومكتباتها الثرية. ففي باريس تسافر الحضارات إلينا… أزور قبر زوجي أسبوعياً في مقبرة مونبارناس في قلب الحي اللاتيني في باريس، وأنا أعرف أنه لم يعد هناك وأن المقابر وجدت لتعزية الأحياء، أما الأموات فصاروا في كوكب آخر… وهي عادة أخرى سيئة من عاداتي، فأنا مليئة بالثقوب والتناقضات، ولم أزعم يوماً أنني كاتبة مثالية، لذا أشبه البومة. وأسهر ليلاً طويلاً في معظم الأحيان وأنا محاطة بعيون أكثر من خمسمئة بومة في بيتي الباريسي، في اللوحات والتماثيل الفضية والخشبية والسيراميكية والرخامية وسواها، وكل بومة تحكي حكاية لقائي الأول بها وتحمل على جناحها تاريخ اللقاء، أسطّره مع اسم الذي أهداني إياها أو تاريخ التبني». 

مسرح الأحلام… حوار ڤوغ العربيّة مع مصممة الأزياء كارين طويل

الاقتراحات
مقالات
عرض الكل
مجموعة ڤوغ
مواضيع