أحمد ماطر المدير التنفيذي لمعهد مسك للفنون، أول معهد من نوعه في المملكة العربية السعودية، فنان آمن بالصورة وسيلة للتعبير وطَرْح الأسئلة والإشارة إلى التحوّلات، وبالفن الذي يتجاوز الحدود ليتحوّل لغة مشتركة
نشر هذا المقال للمرة الأولى داخل عدد شهر يونيو من ڤوغ العربيّة
ينضوي معهد مسك للفنون تحت مظلة «مؤسسة مسك الخيّرية» التي أسسها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ويتطلّع كما، يقول مديره التنفيذي الطبيب الفنان أحمد ماطر «إلى أن يكون مركزاً رائداً لثقافة الفن والإبداع في المملكة العربية السعودية، ولإنتاج الأعمال الفنية، الحديثة منها في شكل خاص، ورعايتها وانتشارها، وتمكين أصحاب المواهب المبدعة بصفتهم ركيزة أساسية في المجتمع، وصقل تجاربهم وتوسيع رقعة حضورهم والتعريف بهم عالمياً. كما نسعى إلى توثيق الصلات بالتجارب الأُخرى، والتبادل المعرفي مع تنفيذ برامج تعليمية خاصة بالفنون في دور التعليم العام والعالي».
أهداف المعهد هذه تثري رحلة أحمد ماطر كفنان، ولا تبعده عن طريق شغفه الأول، بل «بالعكس تماماً.. لقد انتقلتُ، قبل أن أتسلّم قيادة المعهد، إلى مفهوم صناعة الفن الذي هو مفهوم غائب عن وسطنا المحلي. تجاربي السابقة تحمي اهتماماتي الفنية ولا تفصلها عن عملي كمدير تنفيذي لأول معهد للفنون من نوعه في المملكة».
هذه التجارب السابقة التي ذكرها ماطر، تجاوزت حدود السعودية لتقدّم أعماله في معارض ومتاحف حول العالم. «يجب أن تستعرض حاجة الإنسان، التي هي في المقام الأول حاجتك، لتجد نفسك في محفل العالمية متجاوزاً الحدود. إمّا أن تحصر نفسك في قالب محدّد وضمن مجموعة مغلقة، أو أن توسّع تطلعاتك وآفاقك. أستطيع أن أسمّي عدداً من الفنانين السعوديين الذين أثروا التجربة الفنية في المملكة، لكنهم آثروا العزلة بينما كانت التطلعات تناشدهم تجاوز الحدود والحركة المحلية. عمل الفنان المثابر ينتمي إلى أمكنة كثيرة، وهذا ما أجتهد فيه ولأجله».
وهنا نعود إلى البدايات لنسأل الفنان عن مصادر إلهامه. «الطبيعة البكر في جنوب المملكة حيث نشأت جذبتني إلى عوالم تعبير مختلفة ووسائل مغايرة لقراءة الحياة أو ابتكارها. فرضت الصورة نفسها من وحي الواقعي والتقليدي إلى مستوى متقدّم في التعبير والقراءة. وقد كانت التجربة غير متطوّرة بحكم البعد عن المركز ونقص الأدوات والتقنيات، إلا أنّ دراستي الطب كان لها دور لافت في تحوّلي إلى الفنون المعاصرة. القراءات العلمية البحتة والانغماس في معاناة الإنسان المباشرة جسدياً جعلتني في مواجهة شرسة مع الضعف والألم. والاحتكاك اليومي مع الأشخاص في إطار مهنتي حملني إلى منطقة لا تعرف الحياد، إما الانكسار تماماً أو عدم الاكتراث، وهو ما لم يكن في حساب هوية مبدع تتكوّن وتنمو».
انشغل الطبيب الفنان بتصوير التحوّلات الحضارية والعمرانية والتعبير عن آثارها في المجتمع. فهل الحنين هو الدافع أم التوثيق أم نقد الذات؟ «للأمكنة حكاياتها التي تحتفظ بهويتها القديمة. لن نكون رهائن المدن المستحدثة والطارئة التي لا تتكئ على تاريخ أو ذاكرة يمكن من خلالها أن نطوّر ونعيد البناء. الثقافة العربية لا تجانب حقيقتها عندما تعطي للحنين مساحة في حركتها، وينبغي على هذا الحنين أن يساير الحاضر ويستلهم المستقبل. إننا ننهض من التغني بالماضي لتحمّل مسؤولية استشراف المستقبل وتطويع قدرات الحاضر لنكون على جانب من الصواب في كل تحوّلات تقودنا إلى إشراقة جديدة. لا شك أن التحوّل الحضري والعمراني أحد أشكال التقدّم، ويجب أن يكون بهوية واضحة وطبيعة تتمسّك بالإنسان أولاً. أشتغل في هذا المنحى وأقرأ أبعاد تلك التحوّلات في ملامح المكان وأعيد النظر في ما يمكن أن يكون صالحاً للتوثيق والتسجيل والتدقيق عبر الصورة وأمانتها المهمة في هذه المرحلة. هذا العمل لن يكون نقداً ذاتياً بقدر ما هو شهادة يقدّمها إنسان المكان قبل أن تحكيها الصورة».
إنشاء معهد مسك والاهتمام بدوره وأنشطته اعتراف بأهمية الفن في نهضة المجتمع. وهو ما يؤكد عليه ماطر، «لا شك أنّ النهضة الحديثة تمسّ جوانب الحياة المختلفة داخل المجتمع وتغيّر منهجية وسلوكيات اقتصادية ومعيشية. هذا الحراك الجديد في مؤسسات الدولة يترك أثراً في المعطيات التي كانت متاحة ويستدعي تجهيز المتلقي للمعطيات الحديثة، مثلاً على مستوى الثقافة والفنون الآثار إيجابية تعكس التنوع والقدرات الجمالية التي لم تُكن مستثمرة لانحصار الأدوات والوسائل. اليوم نرى احتفاء الأفراد بقدراتهم وأساليب تعبيرهم وهم يُواكبون مرحلة افتتاح المتاحف ودور السينما وخشبات المسرح.
هذه البلاد المترامية والمتنوعة جغرافياً ومناخياً لم يغب عنها الحسّ العالي بالفن. واليوم بوجود رؤية المملكة 2030 فإنّ كل الوسائل أصبحت في المتناول لإبراز الفنون بكافة ألوانها وأطياف منتجيها. ولم يكن الفن في السعودية قائماً على فئة محددة أو شكل فني بعينه؛ بل كان متحركاً كالفنون الشعبية والموسيقى والتشكيل، ولكن بما يُعبّر عن جزء من مكونات المجتمع، وكان التعاطي الفني محصوراً في مساحة معينة، بينما تكرّس الرؤية الفنّ في الحراك المحلي وتجعله ركيزة أساسية في العيش والتقدم. أنا متفائل بالمستقبل وخاصة في ما يتعلّق بالإبداع وأهله وجمهوره».
ننهض من التغنّي بالماضي لتحمّل مسؤولية استشراف المستقبل
من تنظيم مهرجان نيويورك للفنون والأفلام العربية إلى مشاركة السعودية للمرة الأولى في بينالي العمارة في فينيسيا، من يحدّد خطوات المعهد وإنجازاته؟ «هناك فريق عمل متكامل يعمل وفق منهجية “مؤسسة مسك الخيّرية” وتحت مجلس إدارتها الذي يُجيز كافة المقترحات المناسبة. إنّ جميع الفعاليات التي تم تنفيذها تأتي ضمن البرنامج الدولي المعلن عنه في نيويورك يناير 2018، ووفق رؤية «مسك للفنون»، وقد سبقتها خطوات تنسيقية لاختيارها وإقرارها من قبل مجلس إدارة المعهد. ويشمل البرنامج مسارات مختلفة، فتنطلق الفعاليات من السعودية أولاً ثم في عدد من المحطات الإقليمية والدولية كدبي وباريس ونيويورك ولوس أنجليس ففينيسيا وغيرها. وتهدف هذه الفعاليات في المقام الأول إلى إبراز إرث المملكة وإثراء معارف المجتمع بقيمة الفنون ورسالتها، وكذلك تعزيز الحركة الفنية السعودية محلياً وعالمياً ودعم الإنتاج الإبداعي المحلي وتوسيع مساحته. والخطوة المهمة التي لمسناها هي أثر الشراكات مع المراكز والمعاهد الإقليمية والدولية ذات الاختصاص والاهتمام، والتي صنعت الدبلوماسية الثقافية وفعلت أدوارها داخل الأوساط الدولية ذات العلاقة، فضلاً عن تكوين منظومة اتصال حديثة حول العالم مع المبدعين والفنانين».
ضمن برامج معهد مسك للفنون يقام في يونيو الجاري العرض العالمي لفيلم الواقع الافتراضي “إطلالة نحو السعودية” في المنتدى العالمي للواقع الافتراضي في سويسرا. «الفيلم، الذي أخرجه ماتيو لوناردي، يعتمد تقنية الواقع الافتراضي، ويحكي قصّة مجتمع يزخر بالتنوع في مساحة جغرافية واسعة. فقد سعى الفيلم إلى أن يشمل كافة مناطق المملكة بالتصوير والتسجيل. وهو يعمل على إعادة رسم صور المجتمع السعودي بمنظور جيل جديد من الفنانين المعاصرين. وتم إعداده في استديوهات موزعة على أنحاء المملكة لإبراز الملامح الاجتماعية فيها وبمختلف أطيافها. يُجدد هذا العمل الرؤية حول المشهد الثقافي في المنطقة بعيون شباب وشابات من السعودية تقودهم قراءاتهم وملاحظاتهم اليوم إلى هذا التصور الذي يُحاكي أعلى مستويات الأعمال الفنية الحديثة. وقد سبق أن تم التعريف بهذا الفيلم في معرض “آرت دبي” قبل إطلاقه على المستوى الدولي خلال “المنتدى العالمي للواقع الافتراضي” بسويسرا في يونيو 2018».
متحف اللوفر أبوظبي يعرض واحدة من أهم لوحات ليوناردو دافنشي