تابعوا ڤوغ العربية

نعود إلى الماضي ونطلّ على الأعوام الذهبية في عمر السينما المصرية

نستعيد مشاهد انتقل بعضُها من روايات قرأناها مباشرة بعد أعوام المراهقة ونحن نبني أفكارنا وننطلق في فهم أحاسيسنا وانفعالاتنا. رأينا المشاهد المكتوبة تؤدّيها شخصيات من لحم ودم، شخصيات ظهرت في وجوه ممثلين عرفوا الشهرة كما لم يعرفها أحد قبلهم. تحوّلت الممثلات نجمات، مرايا أحلامنا. نحدّق إلى بريق عيونهن، إلى أزيائهن الأنيقة وهي تتحرّك مع حركة أجسامهن بخفّة وانسجام. عن هؤلاء أردنا الكتابة. أردنا أن نفتح أبواب الماضي على الأعوام الذهبية للسينما المصرية التي اختصرت السينما العربية خلال عقود طويلة. هذه الوجوه ألهمتنا ولم ننسها، ولم تنسها أجيال سبقتنا. فلنعد إلى المشاهد والصور حيث يتوقف الزمن ليؤطّر الفكرة المطروحة والجمال والأناقة والإيمان بالفن.

مرّت مئة عام على بدايات السينما المصرية التي ساهمت في تشكيل الوعي العربي المشترك خلال القرن العشرين. عكست السينما توق المجتمع إلى معانقة الإبداع، بعد زمن النهضة العربية، حين طُرحت الأسئلة وكُتبت أسباب التخلّف، وبعد الاحتكاك بالحضارة الغربية واعتبار أوروبا نموذج التطوّر الأول برغم السعي إلى مقاومة وجودها الكولونيالي. هذا الافتتان بالسينما والفن المصريين جعل اللهجة المصرية اللهجة الثانية في البلدان والمدن العربية من المحيط إلى الخليج، وما زلنا نجد أنفسنا نتقن المصرية بسلاسة من دون أن نقصد تعلّمها أو إتقانها. تتسرّب إلينا من خلال الأفلام والأغاني والمسلسلات القديمة والجديدة، من خلال ذاكرتنا المشتركة. ترانا نسعد بالعودة إلى مشاهد أجمل الأفلام السينمائية المصرية كأننا نعانق لحظات من جمال الإبداع أثّرت فينا ورافقت تطوّر وعينا وذائقتنا. نطلّ عبر هذه المشاهد على ماض عاشته أجيال سبقتنا وحصدنا بعدها ثماره الحلوة والمرّة. ما قدّمته السينما المصرية في مراحل مختلفة يعكس دينامية المجتمع والقضايا التي طُرحت وطوّرته أو غيّرت حيوات فئات فيه. تطوّر السينما عكس تطوّر المجتمع أو المحاولات البنّاءة التي تدفع به نحو الأمام لا الخلف. نعم كان زمناً جميلاً، هذا ما تعلّمناه من الأزمنة التي تبعته. ونحبّ أن نعود إليه وإلى صور أفلامه التي غذّت مخيلاتنا وعرّفتنا إلى ما كان يطرح من قضايا، وما كان يُختبر من خيبات وآمال.

تحّولت الممثلات إلى نجمات. نحدّق إلى أزيائهن الأنيقة يتحرّكن فيها بخفّة وانسجام

كانت مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ملاذ المثقفين والمفكرين والاقتصاديين أصحاب الرؤى من أهل الشام الذين بحثوا فيها عن أجواء من الحرية فقدوها في بلدانهم. وقد ساهم هؤلاء في بثّ روح الحداثة في المجتمع في مرحلة عُرفت بالانفتاح الفكري على أوروبا، وبانطلاق نهضة عربية في الأدب والفكر ولاحقاً الفنون. ثم برز بين هؤلاء فنانون ومسرحيون وسينمائيون شاركوا في صناعة الثورة السينمائية في مصر. نذكر منهم آسيا داغر وماري كويني وبديعة مصابني وأنور وجدي وعمر الشريف وهنري بركات ويوسف شاهين. حضنت مصر هذه الطفرة الإبداعية وصنعتها، وكانت جاهزة لها. قُدّم أول عرض سينمائي في مصر، في مدينة الإسكندرية في نوفمبر عام 1896 بعد أقلّ من عام على العرض السينمائي الأول للأخوين لوميير في بارس. وسجّلت عام 1917 في مدينة الإسكندرية محاولات فردية لصناعة السينما، قبل أن تظهر في العشرينات أفلام مصرية لممثلين مصريين لاقت إقبالاً حتى وصل عدد دور العرض مع نهاية زمن الأفلام الصامتة إلى 86 داراً عام 1926. فقد قُدّمت أفلام صامتة في عشرينات القرن العشرين منها «البحر بيضحك»، «قبلة في الصحراء»، «ليلى»، وعرف من أبطال الأفلام الصامتة عزيزة أمير وستيفان روستي وفاطمة رشدي وسراج منير. أما فيلم «زينب» الذي قدم عام 1930 (من إخراج محمد كريم)، فقد نقل إلى الشاشة أول الأعمال الروائية العربية لمحمد حسين هيكل. وعام 1932 عُرض أول فيلم ناطق بعنوان «أولاد الذوات» من بطولة يوسف وهبي وأمينة رزق. أما «أنشودة الفؤاد»، فهو أول فيلم مصري غنائي ناطق، تبعه فيلم «الوردة البيضاء» للمطرب محمد عبد الوهاب الذي حصد النجاح واختُصرت فيه الأغاني العربية الكلاسيكية إلى ست دقائق فقط.

كان المفكر والاقتصادي طلعت حرب قد أسّس عام 1925 شركة مصر للتمثيل والسينما، وهي الشركة التي أنشأت عام 1935 ستوديو مصر في منطقة الهرم في الجيزة، أكبر ستوديو للسينما في مصر والعالم العربي. «وداد» أول أفلام أم كلثوم هو أول الأفلام التي أنتجتها الشركة، وقد مثّل مصر لأول مرة في مهرجان البندقية الدولي عام 1936. وضمّ الفيلم سبع أغنيات لأم كلثوم، كما شهد أول تعاون بينها وبين الملحن رياض السنباطي. أم كلثوم قدّمت خلال مسيرتها الفنية الطويلة والثرية ستة أفلام سينمائية هي «نشيد الأمل» عام ١٩٣٧، و«دنانير» عام 1939 و«عايدة» عام 1942، و«سلامة» عام 1944، و«فاطمة» عام 1946.

استُقطب جمهور السينما من خلال الغناء، وتوافد أقطاب الغناء العربي إلى القاهرة تجذبهم الرغبة في الانتشار وغزارة الإبداع الفني، مثل أسمهان وفريد الأطرش ونور الهدى وصباح. وأنتجت أفلام استعراضية، فقدّم أنور وجدي أفلاماً غنائية راقصة، وشكّل مع زوجته ليلى مراد ثنائياً جذاباً. وتعلّق الجمهور بلوحات راقصة قدّمتها نعيمة عاكف وسامية جمال وتحية كاريوكا. كانت قصص الحب محور الجذب الأساسي للجمهور، إضافة إلى الكوميديا من خلال أفلام نجيب الريحاني. ثم أدّى النضج في صناعة السينما وتطوّر إنتاج الأفلام إلى الالتفات إلى قضايا المجتمع وقصصه كالزواج والطلاق والخلافات الأسرية أو مسألة التفاوت الطبقي عبر أفلام تصوّر الواقع. فيلم «العزيمة»، الذي طُرح عام 1939، هو أول هذه الأفلام، وقد أخرجه كمال سليم الذي مهّد الطريق لمخرجي الواقعية وفي طليعتهم صلاح أبو سيف.

يتوقف الزمن أمام صورة تؤطّر الجمال والأناقة والإيمان

 لقد ساهم إقبال الجمهور في تكريس أربعينات القرن العشرين السنوات الذهبية في السينما المصرية عبر إنتاج نحو 48 فيلماً في العام الواحد بين عامي 1045 و1952. فحقّق قطاع الإنتاج السينمائي أرباحاً فاقت أرباح قطاع صناعة النسيج. وخلال هذه الأعوام الذهبية تكرّست ظاهرة تحوّل الممثلات إلى أيقونات في عالم الشهرة والأناقة والجمال. ولم ننسَ إلى الآن أسمهان التي منحها موتها الغامض شهرة لا يطفئها الزمن. نتأمّل نظرتها الحالمة، تجذبنا أقراط الأذنين المتدلّية كأنها تحرس الوجه الجميل. تزين أناقتها ثقة الريش والفرو. نريد ألا نتوقّف عن تأمّل المشهد والتأمل في حياة قصيرة حافلة بالأحداث وبأغانٍ ما زلنا نرددها، فما زالت ليالي الأنس مرتبطة في وعينا بفيينا. عاشت الأميرة الفقر والثراء، والغرام والانتقام، عنوان فيلمها الثاني والأخير الذي قضت قبل أن تصوّر نهايته.

كيف ننسى تناسق أزياء «الفراشة» سامية جمال وهيبة مديحة يسري وأناقة مريم فخرالدين وفاتن حمامة وبساطة أناقة لبنى عبد العزيز وجاذبية هند رستم حتى وهي ترتدي جلابية هنومة في «باب الحديد»؟ كما سحر الممثلون الرجال القلوب، وحملوا ألقاباً مثل «جون برومييه» و«فتى الشاشة». وأدى الغنى الأدبي إلى تحوّل الأعمال الأدبية أفلاماً سينمائية، فاقتبست قصص الأفلام من روايات حقّقت الشهرة والانتشار مثل أعمال إحسان عبد القدوس ومنها «لا أنام» و«أنا حرّة» للمخرج صلاح أبو سيف، «دعاء الكروان» لطه حسين، «بداية و،نهاية» لنجيب محفوظ الذي تحوّلت معظم رواياته إلى أفلام سينمائية. تدلّ هذه الأفلام على أن السينما هي فعلاً مرآة للواقع، تطرح قضاياه الحيّة والمثيرة للجدل. لقد تطرّق صلاح أبوسيف من خلال معالجته السينمائية إلى التمييز الممارس ضد المرأة وواقع التحكّم في مصيرها. في «أنا حرّة» (1959) نتابع تحليلاً جريئاً لمعنى الزواج. لا تريد «أمينة» (لبنى عبد العزيز) أن تدخل «سجن الزواج» خصوصاً بعدما أنهت تعليمها المدرسي. فكيف ستحصل على حريتها بالزواج؟ ستسعى إليها بالمزيد من العلم وبالعمل. وهي ترفض فكرة أن الرجل سيد البيت، ولا تقبل بمَن يمارس عليها سيادته.

من الفانتازيا إلى الواقع بقبحه ووجعه وأنواره ولحظات المجد فيه، تعكس السينما مرايا أحلامنا وتساعدنا على فهم الواقع. تعيننا عليه. في أعوامها الذهبية قدّمت السينما المصرية لقطات من أحلام الفقراء وأبناء الطبقة الوسطى، وصوّرت حيوات الأثرياء وبيوتهم وحفلاتهم وأزياءهم وقصصهم لإمتاع الجمهور وحمله على الحلم. وفي تلك الأفلام «الحالمة» لا يمكن ألا نصفّق للصور البديعة التي تلتقي فيها أناقة لا تزول وإحساس راقٍ بالصورة وما تحرّكه في الناظر إليها ولو بعد مئة عام أو أكثر.

شاهدي هنا كيف رحِّبت أبوظبي بالجيل الجديد من أفلام السينما العربية.

الاقتراحات
مقالات
عرض الكل
مجموعة ڤوغ
مواضيع