تابعوا ڤوغ العربية

البريما باليرينا المصريّة ماجدة صالح تروي لڤوغ العربيّة تفاصيل قصتها المذهلة

ماجدة صالح بعدسة جيكوب وكارول لصالح عدد شهر أكتوبر 2018 من ڤوغ العربيّة

 ماجدة صالح هي رائدة الباليرينات الأٌوَل في مصر، ومثقّفة مشغولة بإعادة رسم مساحات الضوء والإبداع في تاريخ بلدها القريب والبعيد. هي ابنة زمن يبدو الآن سحرياً بالرغم من كل «نكساته». بصدق وكبرياء سردت الـ«بريما باليرينا» قصّتها المذهلة

نشر هذا اللقاء للمرّة الأولى داخل عدد شهر أكتوبر من ڤوغ العربيّة

اكتشفتُ ماجدة صالح من خلال الفيلم الوثائقي «هامش في تاريخ الباليه؟» ?A Footnote In Ballet History للمخرج هشام عبد الخالق (2016). ولأنني أردت أن أعيد اختبار الدهشة التي أسرتني أمام مشاهد الوثائقي وحواراته، غصت في عالم ماجدة صالح. هو اكتشاف أو إعادة اكتشاف كما تقول صالح «فاجأتني إعادة اكتشافي. لقد بُعثت من جديد بعد غياب عن مصر مستمرّ منذ 26 عاماً. وقد أثر فيّ أن أجدَني الآن حاضرةً في ذاكرة الناس. والفضل لهذا الاهتمام يعود إلى الفيلم الوثائقي، خصوصاً أنّ تاريخنا القريب أصبح بعيداً بل نُسي». أما تعبير المشاهدين عن دهشتهم بالفيلم، فهو كما تؤكد «مؤشر إلى ما وصلنا إليه. منذ تلك الأيام التي شهدنا خلالها تجربة غير مألوفة ومذهلة تغيّرت الأمور في مصر والعالم العربي في شكل درامي». 

تنظر ماجدة صالح بفخر إلى تلك «التجربة غير المألوفة والمذهلة». «ما حقّقناه إنجاز عظيم. والفضل يعود إلى الكثيرين، أولهم الدكتور ثروت عكاشة أول وزير ثقافة في مصر والذي كان صاحب رؤية منيرة، هو أحد أبناء مصر العظماء، ونحن لم نعرف وزيراً للثقافة مثله ولا نزال نعيش في ظله. في تجربة رائدة وفريدة أسّس عكاشة معهد فنون بل جامعة مكرّسة للفن تضمّ بين معاهدها المعهد العالي للباليه. عرفت مصر الفنون الأوروبية من موسيقى وأوبرا وباليه ومسرح منذ منتصف القرن التاسع عشر بعد بناء أول دار أوبرا في بلادنا والشرق الأوسط مع افتتاح قناة السويس عام 1865. وكان جمهور هذه العروض من المصريين المنفتحين على الثقافات الأخرى (الكوزموبوليتانيين) والأجانب الذين يعيشون في مصر. قامت الثورة عام 1952، وكنّا أبناءها، ولحظّنا الجيّد وجدنا في دربنا ثروت عكاشة الذي كانت إحدى رؤاه تكريس وجود الباليه في مصر. وبسبب عمق العلاقة مع الاتحاد السوفياتي آنذاك، وصل مدرّبو الباليه من أهمّ أكاديميات الباليه الروسية الشهيرة، بولشوي في موسكو وكيروف في لينينغراد. بدأنا مع أستاذ واحد ثم تطوّر المعهد ليصبح ما نعرفه الآن، والذي استطاع أن يحافظ على وجوده برغم كل ما شهده البلد في العقود الماضية». 

ماجدة صالح بعدسة جيكوب وكارول لصالح عدد شهر أكتوبر 2018 من ڤوغ العربيّة

تروي صالح أنها كانت بين «أوائل الذين انضمّوا إلى المعهد بناء على اختبار الخبير الروسي». ثم بعد «الانطلاقة الصاروخية» في معهد الباليه المصري الرسمي، الذي افتتح عام 1958، حصلت مع أربع زميلات مصريات، هنّ ديانا حقاق وودود فيظي ومايا سليم وعلية عبد الرازق، على منحة للدراسة في أكاديمية بولشوي للباليه في موسكو حيث تخرّجن عام 1965. تكمل القصّة بحماسة «سنة 1966 قدّمنا نحن خريجات البولشوي الخمس مع طلبة المعهد العالي، للمرة الأولى في تاريخ مصر، باليه من أربعة فصول “نافورة بختشي سراي”. كان هذا الإنجاز مذهلاً، تقديم باليه كامل في زمن قياسي. التدرّب على الباليه، بهدف الاحتراف، في النظام الروسي الأكاديمي كان يستمرّ تسع سنوات (الآن قُلّصت مدته إلى ثماني سنوات، لكن في مصر لا تزال مدة البرنامج تمتد إلى تسع سنوات). هو تمرين يوميّ شاقّ لأجل إتقان تقنيات الباليه المعقّدة. هذا العرض الذي لا يُنسى حضره الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وكم كان عكاشة متأثراً وفخوراً، خصوصاً أننا مُنحنا وسام الاستحقاق. ثم بعد شهر أُرسلنا إلى أسوان لعرض الباليه في مبادرة فريدة، وكان ردّ فعل الجمهور هناك رائعاً وعفوياً. لم يكونوا قد رأوا شيئاً كهذا من قبل. أذكر دوماً فلاحاً كهلاً توجّه نحوي بعد انتهاء العرض قائلاً: يا سلام، دي حاجة جميلة. وكانت عيناه دامعتين».  

“شعرُت على المسرح بأنني أحيا، وبنبض الأرض تحت قدمّي”

نحيا في هذا الجزء من العالم تحت التأثير المباشر للأوضاع والقرارات السياسية. لكن الحلم الذي عاشته الباليرينا ماجدة صالح لم تكتب نهايته بعد حرب 1967. «كل مآسي الحرب لم تمنعنا من إكمال الحلم حتى احترقت دار الأوبرا عام 1971. كأنّ الحريق كان مؤشراً لما سيحصل. عام 1971 شهد أيضاً تتويج رحلتي المهنية من خلال دعوة تلقّيتها من وزارة الثقافة السوفياتية لأنضمّ مع زميلي عبد المنعم كامل (الذي اشتُهر باسم مايك) إلى أهم فرقتيّ باليه في العالم، البولشوي على مسرح بولشوي في موسكو، وكيروف على مسرح كيروف في لينيغراد، حيث قدّمت الدوريين الأساسيين في عرضَيّ «جيزيل» و«دون كيشوت». دور «جيزيل» على مسرح بولشوي كان دوري الأخير كباليرينا أولى. 

ماجدة صالح بعدسة جيكوب وكارول لصالح عدد شهر أكتوبر 2018 من ڤوغ العربيّة

 فجأة تغيّر الوضع الجيو سياسي، واستبدل في مصر الروس بالأميركيين. في ظل تلك الأوضاع أمي التي كانت مرشدتي في هذه الدنيا، فكرت عني، نظرت إلى الغد. أنا أردت الأرض تحت قدميّ، أردت الرقص والتمرّن عليه كل الوقت. كنت أقول: أشعر على المسرح بأنني حيّة. لكنّ والديّ أصرّا على أن أكمل دراستي لأنال الماجستير والدكتوراه. ولعلّ ذهابي إلى أميركا لدراسة الرقص الحديث (بفضل منحة جامعية) صدم الكثيرين لأنني خريجة البولشوي في موسكو، خصوصاً أن الحرب الباردة كانت مشتعلة عام ١٩٧٢. يعود إلى والديّ فضل إنهائي رسالة الدكتوراه المعترف بها عالمياً والتي توثّق الرقصات الشعبية التقليدية في مصر. وقد أرفقتها بفيلم (إثنولوجي) أصبح كلاسيكياً عنوانه «أشواق الأهالي» موّلته المؤسسة المصرية العامة للسينما». 

عمر احتراف الرقص قصير، خصوصاً الباليه. فجأة تصبح أجمل لحظات في حياة الباليرينا ذكريات. لكن ما لا يتغيّر هو العلاقة بالرقص، الإحساس به. «الرقص تعبير. الرقص الجماعي حاجة في كل المجتمعات. الكلام عن تحريم الرقص جاء لاحقاً. لكن الاحتفال والتواصل في أي مجتمع يتمّان من خلال الرقص. من وجهة النظر الأنتروبولوجية، الرقص لغة، هو لغة الجسد. وتطور هذه اللغة، يرسّخ أواصر التواصل. شخصياً كنت أشعر بالحرية حين أرقص. وكنت محظوظة لأن والديّ شجعاني على ذلك. كما أنّ زميلاتي المصريات في البولشوي حظين بدعم أهلهن، برغم أنه ما كان أمراً عادياً أن يشجّع أهل، من هذه المنطقة من العالم، بناتهن على الرقص». 

عَكَس هذا التشجيع فهماً لأهمية دور الثقافة في المجتمع. «يجب أن ينظر الناس إلى بقع الضوء في ماضينا، ليفهموا أهمية تقدير الثقافة. بعد الثورة البولشفية انفجر نقاش حول الباليه، البعض أراد التخلّص من ممارسات الأرستقراطيين الذين تم الانقلاب عليهم، لكن الناقد لونا شارسكي دافع عن فكرة الحفاظ على الرقص وتقريبه من الشعب العادي. وكان الراقصون يؤدون بحيرة البجع في المزارع، وفي كل معمل أُنشئت فرقة رقص أو مسرح. برغم فظائع هذا النظام، لا يمكن إنكار تشجيعه للفنون». 

ماجدة صالح بعدسة جيكوب وكارول لصالح عدد شهر أكتوبر 2018 من ڤوغ العربيّة

يفيض السرد. ماجدة صالح قاصة من الطراز الرفيع، وهي تبحث مع تدفّق الكلمات عن خيط منطقي تتبعه. فيفاجئها السؤال عن الحنين، وعمّا إذا كانت المرحلة الذهبية ذهبية فعلاً. «أشعر بالحنين إلى الماضي مثل أبناء جيلي من المصريين. فنحن آخر جيل شهد مصر التي أصبحنا نتلصّص عليها في الصور المؤرشفة والأفلام قائلين: لم ندرك أنها كانت هكذا، وأن هذا ما عشناه وشهدناه. نعم كانت مرحلة ذهبية، على الأقل في ذاكرتنا. وربما أنظر إلى الأعوام السابقة نظرة حنين لأنّ العمر تقدّم بي. مصر بلد قديم، واجه تحديات فظيعة في تاريخه الثري، لذا سأستشهد بما قاله صديق أميركي: “المصريون يجيدون البقاء”. تدعم كلامي هذا ستة آلاف عام ماضية». 

“يكفيني أن يكون أحد إنجازاتي قد أثّر في حياة البعض، أعود إلى ذكرى الرجل الكهل في أسوان وأبتسم”  

أما الكلام عن وضع المرأة في مصر الآن، فيستفزّ اهتمامها لتجيب بسؤالين: كيف أصبحنا هنا؟ كيف تراجعنا عن حقوق كنا قد حصلنا عليها؟ «المرأة عموماً مقيّدة. أعداد هائلة من النساء حيواتهن مسيطر عليها. ومَن تقدر على الهروب من هذه السيطرة يجب أن تساعد غيرها من النساء. نصف الأمّة، النصف المثير للاهتمام، مقيّد بشكل أو بآخر. لكن ثمة مصريات جريئات ينجزن في مجالات مختلفة». 

أمضت صالح أعواماً بين الولايات المتحدة ومصر. «لم أستطع أن أستقرّ. كان قلبي يميل إلى العودة إلى مصر ودراساتي تستفيد من وجودي هناك، لكنني عند العودة أرى أن كل شيء قد تغيّر. المعهد العالي للباليه فُرّغ من طاقاته، فقد كلّفتنا ردود الفعل في السياسة جهود عشرات الأعوام في الثقافة. وقد دُعيت إلى محاولة إصلاح المعهد الذي كان قد أصبح في حالة انهيار غير مقبولة. وكنت في تلك الأعوام أهتمّ بوالديّ اللذين تدهورت صحتهما. أجتهد في العمل في البيت والمكتب. نظّمت المعهد، كأكاديمية عسكرية. وسأعترف بأنني كنت في تلك المرحلة غاضبة لرؤية كل شيء يتغيّر في البلد. كان صعباً الشعور بالعجز. وكنت كأنني أسبح في النيل وأحاول بيد واحدة أن أغيّر مجراه». 

ماجدة صالح بعدسة جيكوب وكارول لصالح عدد شهر أكتوبر 2018 من ڤوغ العربيّة

بعد الغضب اختبرت ماجدة صالح «شعوراً فادحاً بالظلم. تسلّمتُ إدارة دار الأوبرا من دون أي إمكانيات وبذلت مجهوداً جباراً في مواجهة تيار مضاد. وقد شرّفتني تسميتي مديرة دار الأوبرا، وأقسمت للوزير الذي اختارني بأن أبذل قصارى جهدي. لكن عملي الجاد واعتراف الآخرين به كانا سبب إبعادي. الرجل الذي سمّاني، أبعدني عنه وعن كل شيء بعدما انتزعت اعترافاً واسعاً بالجهد الذي كنت أبذله. وبدل أن يشكرني وينهي الموضوع بوضوح كنت سأقبله اعتمد أسلوب التجريح الفظيع. كانت التجربة مؤلمة، وهذا الألم لم يغادرني، فرحلت إلى الولايات المتحدة حيث أحاول بكل تواضع أن أخدم الثقافة المصرية، ليتعرّف الجمهور الأميركي عبر عدد من الأنشطة إلى تاريخنا وما حققناه. على سبيل المثال بعد عرض الوثائقي، احتُفل في نيويورك بالرقص المصري، وأفردت صحيفة النيويورك تايمز صفحة كاملة عني وعن التجربة المذهلة التي عرفتها مصر».

لا تجد ماجدة صالح أي تفاصيل من قصة بدايتها المذهلة مع زميلاتها في معهد الباليه العالي في الرواية الرسمية. «ليس هناك أي وجود لنا. وفي متحف دار الأوبرا، لا وجود لصورتي بين صور المدراء. مُحيت. لكن أدلّة كثيرة تثبت ما حقّقناه. هذه الأدلّة سمحت بإعادة اكتشافي أيقونة حيّة. يكفيني أنني أثّرت في حياة البعض عبر محاولتي أن أكون نموذجاً. تأثّرت بإيمان والديّ بالأخلاق العالية، والقيم والعمل الجاد. والدي، الدكتور أحمد عبد الغفار صالح الذي كان أكاديمياِ معروفاً في مصر، شجعنا على النجاح من دون اللجوء إلى أساليب سهلة. لكن الغش الآن طريقة حياة في كل مكان، لذا أشعر بأنني غريبة في الولايات المتحدة وفي بلدي أيضاً. إلا أنني ممتنة لما قدّمته لي الحياة. يكفيني أن يكون أحد إنجازاتي قد أثّر في حياة البعض، أعود إلى ذكرى الرجل الكهل في أسوان وأبتسم». 

الاقتراحات
مقالات
عرض الكل
مجموعة ڤوغ
مواضيع