نُشِر هذا المقال لأول مرة على صفحات عدد مارس 2018 من ڤوغ العربية.
عندما كنت طفلةً صغيرة وكنت أسافر مع عائلتي، أردت دوماً أن أكون في قمرة القيادة. كنت أجلس هناك خلال إقلاع الطائرة وهبوطها في كلِّ مرة. أحببت التواجد هناك وطرح أسئلة على الطيَّارين؛ لم أشعر مطلقاً بالخوف.
كان السفر جزءاً من حياتي على الدوام، لذا ليس لدي أيّ ذكرياتٍ بعينها من تجربتي الأولى على متن الطائرة، على الرغم من أنني أذكر بوضوح المرة الأولى التي قُدتُ فيها الطائرة – وكانت طائرة مروحية، وذلك عندما كنتُ في سن الثانية عشرة. لقد أثار الطيران اهتمامي بعد أول درسٍ تلقيته في المملكة المتحدة، لذا بدأت بأخذ المزيد من الدروس وتطوَّر ذلك إلى مشاركتي في عروض الأكروبات الجوية الخاصة بالطائرات الصغيرة. لطالما استمتعت بفورة النشاط التي تنتابني أثناء الطيران، وخلال عطلات عائلتي كنتُ أُخصِّص وقتاً للاستمتاع بالنشاطات المحفوفة بالمغامرة التي تمنحني شعوراً مماثلاً – مثل القفز بالمظلات. وهكذا أدركتُ أنني أريد العمل في مجال الطيران. بدأتُ بأخذ دروسٍ في قيادة المروحية، وشاركتُ في دروة قفزٍ حرٍّ متسارعٍ. لم أكمل الدورة إلى نهايتها، ولكن أعلى قفزة قمت بها كانت على علوٍّ يقارب 4300 متر. وتماماً قبل امتحانات مدرستي الثانوية، كنت قد قررت أنني أريد أن أصبح طيَّارة، لذا اخترت المواد الدراسية التي أحتاجها للتأهل لمدرسة تعليم الطيران. نجحتُ في امتحاناتي وسجَّلتُ في أكاديمية أوكسفورد للطيران المدني، والتي تُعتبر واحدة من أفضل المدارس لطلاب الطيران من حيث التدريب.
كنتُ في مطلع الثامنة عشرة من عمري ليس إلَّا عندما التحقتُ بالأكاديمية، وهناك التقيتُ بمتدربي شركة طيران الإمارات، واكتشفت المزيد عن الشركة، وأصبحتُ مهتمة بالعمل لديها. أنهيتُ التدريب الأرضي، وفي منتصف دورتي التدريبية عُدتُ إلى دبي لإجراء مقابلات واختبارات لدى شركة طيران الإمارات، ثم حصلت بعدها على وظيفةٍ هناك، وكنتُ حينها قد أنهيت 200 ساعة من التدريب على الطيران في أوكسفورد. وكان لزاماً على طلاب الطيران في شركة طيران الإمارات أن ينجزوا 118 جزءاً في المجال الجوي، أي التحليق من المجال “أ” إلى المجال “ب” لاستكمال عمليات التدريب. كما يجب على المتدرِّبين التمرُّن على المحاكاة بالطيران بما يتوافق مع أنواع الطائرات التي سيتولى كلٌ منهم قيادتها فعلياً كطيّار محترف. أنهيت الدراسة الأكاديمية عام 2015 وواصلت التدريبات في شركة طيران الإمارات، وحصلت العام الماضي على رتبة مساعد طيار
لا أعتقد أنَّ دوافعي لأسلك هذا الدرب نابعة من قدوةٍ بعينها في محيطي؛ بل كان أمراً أردت القيام به فحسب. أنا محظوظة لأنَّ عائلتي تدعم خياراتي، بالرغم من أنَّ والدتي كانت قلقة في البداية، فليس من الشائع جداً أن تعمل النساء في عائلتي، لكني سعيدة لكوني جزءاً من مجموعة نساء يمارسن حياتهن المهنية بشغف. كما أنني فخورة لكوني جزءاً من الحركة الراهنة في المنطقة التي تكافح لإشراك النساء في بيئة العمل، الأمر الذي يقودهن إلى المشاركة بدور أكبر وأكثر عدلاً في نسيج مجتمعنا.
كوني أحد أفراد الأسرة الحاكمة لم يجعل رحلتي أسهل، فقد وجب عليَّ خوض الأمور ذاتها التي يمرُّ بها الآخرون؛ لم يكن هناك أيُّ فرقٍ. كما كان مجتمعي الأكبر داعماً لي وقد شجَّعتني على الدوام رؤية تعليقاتهم ونصائحهم. استقيتُ الكثير من الإلهام والتحفيز منهم. عملتُ بجدٍّ لأصل إلى حيث أنا الآن، وأتمنى أن أكون نموذجاً تقتدي به النساء الأخريات، وتجسيداً لما يمكن أن يحققه العمل الجاد. أتمنى أن يتواصل هذا النمو في التمكين، وأتمنى أن أكون جزءاً من سلسلة التغيُّرات الإيجابية القادمة.
كنتُ محظوظةً لتأدية دوري في بلدٍ يحتلُّ الصدارة في تمكين النساء في المنطقة. نحن محظوظون بقيادتنا التي أقرَّت بأهمية دمج النساء في المناصب المركزية التي تعدُّ جزءاً من التخطيط للمستقبل وعملية التنمية. وقد سمحت هذه الرؤية للنساء الانخراطَ بمهن مثل الطيران. والآن، يعود الأمر لكلِّ فردٍ ليكون جزءاً من هذه الحركة الإيجابية، وليقوم بتكريس وقته وطاقاته لإلهام الأجيال المستقبلية. إنَّ تمكين النساء أمرٌ يصبُّ في صالح المجتمع بكامله.
يسرُّني جداً أن أكون طيَّارةً في مهنةٍ يتم تصويرها نمطياً على أنها تقتصر على الذكور فحسب، ولكني لم أشعر مطلقاً أنني عوملتُ بطريقةٍ مختلفة مقارنةً مع زملائي الذكور. الجميع متساوون في قمرة القيادة. وقد تضمَّنت العقبات الأقسى التي وجب عليَّ اجتيازها إنهاء التدريب الأرضي والتأقلم مع الطبيعة الخاصة والنمط الفريد لمجال عملي. استغرق الأمر وقتاً للشعور بالاستقرار في خضم التنقل عبر المناطق الزمنية والسفر وأسلوب الحياة المختلف، فعلى سبيل المثال يتطلَّب الطيران خلال الليل الاعتياد عليه، ولكن لديَّ روتينٌ الآن، حيث أتدرَّب خارج أوقات العمل، وذلك إما عبر ممارسة الجري أو لعب البولو، وقد ساعدني ذلك في الحفاظ على أسلوب حياةٍ صحيّ، فما أن نتكيَّف مع لوجستيات الطيران، حتى تسير الأمور على ما يرام، ويصبح كلُّ شيءٍ طبيعياً من جديد.
أحبّ إحساس الحريّة الذي أشعر به وأنا أطير فوق السحاب. ذلك الشعور بأنني أحلّق فوق الأرض لا يزال يمثّل أكثر الجوانب إثارةً في عملي. تخيَّلوا قمرة القيادة مكتبكم – سيكون لديكم أبهى منظرٍ في العالم. رحلة الطيران المفضَّلة لديَّ إلى الآن تلك التي قمتُ بها إلى مدينة بنوم بنه عاصمة كمبوديا، إذ كان الطاقم رائعاً والأجواء مذهلة. وقد خرجنا لمشاهدة معالم المدينة وزرنا عدداً من المعابد. وفي رحلة العودة صادفنا وابلاً من الشهب، لذا شاهدنا انهمار النيازك طوال رحلة العودة إلى دبي، حيث تمكنَّا من إحصاء أكثر من عشرين نيزكاً. لا أتخيّل نفسي أقود إحدى رحلات عائلتي الجوية الخاصة في وقتٍ قريب؛ كما أنكم لن تروني أمارس رياضة القفز الحر أو أشارك في عروض الأكروبات الجوية في دبي. إلَّا أنني سأعود إلى ممارسة الطيران الاستعراضي تماماً مثلما كنتُ أفعل في المملكة المتحدة، ولكن في طائرة أكروبات ذات مقعدين، مثل الطائرة إكسترا إي إيه-300، فمازلتُ أستمتع بممارسته كهواية.
لستُ متأكدةً مما يخفيه لي المستقبل، على الرغم من أنني لا أحبُّ أن أفرض حدوداً على نفسي. أنا أتابعُ مسيرتي المهنية في الوقت الراهن. سأمارس الطيران وركوب الخيل على الدوام، ولا أرى أنني سأتخلى عن أحدهما. أعتقد أنه على المرء أن يلاحق أحلامه دائماً، وأن يتحلَّى بالصبر والمثابرة لتحويلها إلى واقعٍ ملموس. لا يجب أن نتخلى عمَّا نريده أبداً.
موضوع متصل: الشيخة موزة آل مكتوم تصبح أول امرأة إماراتية من الأسرة الحاكمة برتبة طيَّار