حلّقت شهيرة فهمي في «فضاءات» الهندسة المعمارية حيث انتزعت الاعتراف بنجاحها، ثم قررت أن تخوض مغامرة مطاردة حلمٍ تأخّر في التبلور، المهندسة تريد أن تصبح ممثلة، ولا شيء يقف في طريقها.
نشر هذا اللقاء للمرّة الأولى داخل عدد شهر أكتوبر من ڤوغ العربيّة. بقلم هوفيك حبيشان
نجحت شهيرة فهمي في حفر خطوط بصمتها الإبداعية في الهندسة المعمارية، وقطفت جوائز وألقاباً في أهم محافل التصميم والهندسة في العالم، قبل أن تقرّر في أواخر الثلاثينات من عمرها خوض غمار التمثيل. وقد نجحت في اختراق دنيا السينما رغم صعوبة المهمة، لتقف قبالة كاميرا المخرج الكوري الجنوبي المبدع هونغ سانغ سو في فيلمه «كاميرا كلير» ثم تضطلع بدور الممرضة في فيلم «يوم الدين» لمواطنها أبو بكر شوقي. هذا الفيلمان حملاها إلى السجادة الحمراء في أشهر المهرجانات السينمائية الدولية وأشدّها عراقة، أي مهرجان كانّ السينمائي، وإن كانت مساحة دوريها فيهما صغيرة.
عندما سألتها عن هذا التحول الكبير الذي طرأ على حياتها وإذا كانت اختارت الهندسة أم فُرض عليها اختيارها من الأهل، صارحتني بالقول: «والدتي مهندسة معمارية، واحتكاكي الأول بالهندسة حدث في البيت. برغم إخلاصي للعمل في الهندسة المعمارية وشغفي بها، إلا أنني اليوم، أشعر بأنني اخترت التخصّص فيها لأجل أمي. لم أكتشف هذه الحقيقة إلا بعد مرور كل هذه الأعوام. في صباي، المجالات التي كنت متفوّقة فيها هي الرياضيات والرسم والرقص. في مرحلة معيّنة، أردتُ امتهان الرقص، ولكن كنت أعي أن والديّ لن يوافقا، علماً أنهما أرسلاني لتعلّم الرقص بشكل منتظم بين الرابعة عشرة والثانية والعشرين من عمري. كنت أتمرّن على الرقص ضمن فرقة، سافر اثنان من أعضائها إلى شيكاغو، ففكرت في اختيار الرقص مهنة لكنني لم أفصح عن رغبتي هذه لأهلي. ولأنني كنت موهوبة في الرسم والرياضيات ولا أعرف أي شيء غيرهما (أعترف بأنني كنت فاشلة في المدرسة)، قررت الالتحاق بكلية الهندسة، واستثمرت فيها طاقتي. كانت هذه المرة الأولى التي أعرف فيها طعم النجاح الأكاديمي».
أول إنجاز معماري لشهيرة فهمي كان مركزاً ثقافياً في قرية قريبة من أسيوط. ثم، أسست مكتباً للهندسة وكانت لا تزال شابة يافعة. سرعان ما توسعت أعمالها وباتت تتولى أهم المشاريع في مصر، ثم برزت بصماتها لاحقاً في أهم صالونات التصميم العالمية.
بعد ثورة يناير، اختارت شهيرة فهمي السفر للعمل في الخارج. وكانت في بلدها على صلة وثيقة بالثقافة والتراث، تبحث دوماً عن مزج المعاصر بالقديم. ولكن مع الوقت، تنامت لديها حاجة إلى «اختبار ما تشعر به»، وقررت أن تتحرّر من المفاهيم الجامدة والثابتة في العمل وأن تركّز على سلوك الناس وتعاطيهم مع المساحات الفارغة. حاولتُ أن أطوّر معنى الأشياء: ما هو البيت، وكيف يجب أن يشيّد؟».
يصعب على شهيرة شرح الإلهام الذي تستقيه من مصر التي تقول إنها تمدّها بطاقة ملهمة. «…لأنني لا أجيد وصف عملي، أجيد إنجازه. وعندما أنجزه، أحدّق إليه، وعندئذٍ أفهم ما أقوم به. الفعل عندي أسهل من التنظير. عموماً، العمارة علّمتني أن أتفرّج على الناس وأحلّل علاقتهم بالمكان».
بعدما عملت في سويسرا ولندن، قُدّم إليها مشروع في نيويورك، وكانت قد بدأت التفكير في التمثيل. ثم أرسلت إليها مخرجة مصرية تدعى هالة القوصي سيناريو فيلم بهدف تصميم ديكور مشاهده. بعدما قرأت النص، في يوم «جمعة الغضب» في مصر كما تذكر، قالت لنفسها: أريد أن أشارك في هذا الفيلم. «في النهاية، لم أمثل فيه ولا صمّمت الديكور، ولكنه فتح أمامي باباً لم أكن أعرف أنني سأطرقه. في البداية، لم أستطع أن أصارح هالة بأنني أريد التمثيل في فيلمها، وانتظرت ثلاث سنوات كي أكشف لها ما فكرت فيه. وكانت هذه أول إطلالة لي على عالم السينما، بالرغم من أنني لم أشارك في الفيلم».
الحديث عن الشغف بالمشاهدة المصوّرة أعادنا إلى طفولة شهيرة. كان والدها يعمل في الأمم المتحدة، ويسافر إلى الولايات المتحدة ثم يعود إلى مصر حاملاً شرائط سجّل بنفسه عليها برامج المحطات وإعلاناتها ومشاهد من أفلام. «حدث هذا في زمن “كاسيتات”VHS، وقد شاهدتُ عبر هذه التسجيلات “كل حاجة”، تفاصيل العالم الذي ألهمني. وكنت بالطبع أشاهد الأفلام المصرية بالأبيض والأسود…».
“وجدتُني، أنا المهندسة، أطارد حلمي بأن أصبح ممثلة وأتجاوز العوائق لأعيش متعة التجربة الجديدة”
عام 2016 قررت شهيرة حضور مهرجان كانّ السينمائي بالرغم من أنها لم تكن تحمل بطاقة تخوّلها متابعة فعاليات المهرجان ومشاهدة أفلامه. والغريب أنها التقت هناك المخرج الكوري الجنوبي هونغ سانغ الذي كان يصوّر فيلمه «كاميرا كلير» مع الممثلة الفرنسية إيزابيل أوبير، ثم سرعان ما انضمّت إلى فريق التمثيل فيه. سألتها عن تفاصيل الحدث الذي غيّر مجرى حياتها، فقالت: «قبل ذلك، دعني أخبرك أنني درست التمثيل لمدة سنتين في الولايات المتحدة، في “الأميركان ريبيرتوري ثياتر” التابع لجامعة هارفرد. حمستني مشاركة فيلم “اشتباك” لمحمد دياب في كانّ وذهاب المصريين الى هناك، فركبت الطائرة وتوجهت إلى كانّ. هناك وبعد تبادل الأحاديث مع مصريين علمت أنني لا يمكن أن أدخل الحيّز الخاص بالمهرجان بلا «بادج» (بطاقة تعريف). فصرت أجلس في المقاهي. في أحد الأيام، وحين كانت الأمطار تتساقط بغزارة، وجدتُني أبكي من دون توقف. أتعبتني مطاردة حلمي خصوصاً أنني غبت لأجل هذا الحلم عامين عن أولادي. ثم في المقهى تعرّفت إلى ممثل كوري جنوبي أخبرني أنه يصوّر فيلماً في كانّ مع المخرج الكوري هونغ سانغ سو الذي لم أكن أعرفه. فوجدت نفسي أصوّر دوراً صغيراً في فيلمه الذي تولّت بطولته إيزابيل أوبير التي قالت لي بوضوح إن ما يحصل لي لم يحصل لأحد. كان هونغ سانغ سو هادئاً وبسيطاً للغاية، وثق بي ومدّني بالثقة بنفسي. وقد قام الفيلم على الارتجال بمعنى أن الحوارات لم تكن مكتوبة».
بعد هذا الفيلم، أدّت شهيرة دوراً بسيطاً في «شيخ جاكسون» لعمرو سلامة. ثم عادت إلى كانّ مجدداً في مايو الماضي مع فريق فيلم «يوم الدين» باكورة أفلام المخرج المصري بكر شوقي الذي حجز لنفسه مكاناً في المسابقة الرسمية للمهرجان العريق. واحتُفي به في الدورة الثانية من مهرجان الجونة السينمائي كما أختير لتمثيل مصر في مسابقة جوائز الأوسكار المقبلة.
تؤدي شهيرة فهمي دور الممرضة في «يوم الدين» الذي يتبع خطى بشاي (راضي جمال)، رجل أربعيني مصاب بالجذام، ضمن صيغة سينمائية أقرب إلى فيلم طريق (رود موفي). بشاي يخرج من مستعمرة أبو زعبل للمرة الأولى في حياته. والهدف: البحث عن عائلته.
قصة نَيْل شهيرة دورها في «يوم الدين» دليل على إصرارها. «صوّرنا “يوم الدين” عام 2015. كنت أدرس التمثيل عندما تعرّفت إلى مخرجه أبو بكر شوقي. راسلته على «فايسبوك» للتعرف عليه. ثم قابلته في مصر، فحكى لي عن قصة الفيلم. قلت له إنني أريد المشاركة فيه، فكان ردّه أن لا أدوار نسائية فيه، فأجبته بأن لا بد أن تضمّ الأحداث دوراً نسائياً. وكان دور الممرضة صغير المساحة، فاستغربَ أبو بكر استعدادي للقدوم إلى مصر من أميركا للتمثيل في مشهد بسيط، وهذا ما حصل. خابرني قبل يوم من التصوير، سافرت فوراً، عدت إلى مصر. وعندما ترجلت من السيارة في موقع التصوير، قال لي أبو بكر عندما رآني: كأن الدور كُتب لك. حفظت الحوار في موقع التصوير، وبصراحة كنت خائفة من رد فعل مخرج ”يوم الدين“. لكن ما أحببته سواء مع أبو بكر أو هونغ سانغ سو هو أنهما منحاني الثقة، فشعرت بمتعة التجربة وتذوّقت طعم حلمي».
نادين لبكي في دائرة الضوء: المخرجة اللبنانية هي نجمة غلاف عددنا لشهر أكتوبر
تنسيق: ياسمين عيسى
تصفيف الشعر: ميشيل لدى صالون هير ان فلير
مكياج: سهى خوري
إنتاج: SNAP14