قبيل افتتاح أضخم معرض استعادي مكرّس لأعمالها حتى اليوم، تشعر الفنانة البصرية والمخرجة الإيرانية المقيمة في المنفى، شيرين نشاط، بالسعادة والتفاؤل – وتتحدث بصراحة كعادتها دونما خجل.
ترى شيرين نشاط أن الانتقادات التي تطالها، وصوتَها الجميل الهادئ النبرات والغريب في الوقت ذاته، ليست سوى دليل على ازدواجيتها الفريدة. وتستهل الفنانة البصرية والمخرجة الإيرانية حديثها قائلةً: “بعضهم يعتقد أنني أنتهج سياسة معينة، للفت انتباه الغرب. يعتقدون أنني أستغلُ النساء والإسلام، وأستخدمُ هذين الموضوعين لظني أنهما يستثيران الناس. ولكن لم يكن لديّ وظيفة حين صنعت الكثير من هذه الأعمال. ولم أبدأ نشاطي من منطلق رغبتي في الاشتغال بالفن”. وهذه الأعمال، التي أبدعتها نشاط على مدى ثلاثة عقود تقريباً، سيحتفى بها معرض استعادي يقام بمتحف ذا برود في لوس أنجليس هذا الشهر. وسيقدم هذا المعرض، وهو أضخم معرض مكرّس لأعمالها حتى اليوم وصُمم وفقاً للتسلسل الزمني، أكثرَ من 230 صورة فوتوغرافية وثماني أعمال فنية عملاقة بالفيديو. وسيتاح لزوّار المعرض فرصة مشاهدة مجموعة صورها “نساء الله” Women of Allah التي استخدمت فيها فن الخط وأصبحت الآن من الصور الأيقونية إلى جانب أفلام الفيديو -مثل “نشوة” Rapture، و”مضطرب” Turbulent، و”ممر” Passage- وهو المشروع الذي تعاونت في إخراجه مع الملحن فيليب غلاس؛ فضلاً عن الصور الفوتوغرافية مثل “كتاب الملوك” The Book of Kings، و”بيت عيني” The Home of My Eyes، وأخيراً “أرض الأحلام” Land of Dreams، آخر أعمالها الطموحة التي ستُعرض للمرة الأولى عالمياً في هذا المعرض الاستعادي الذي يتضمن مجموعة من الصور وفيلميّ فيديو. ورغم أن المعرض قد يوحي بأنه سيتناول تطور فن نشاط، إلا أن الخيط المشترك الذي يجمع بين أعمالها أنها تنتمي جميعاً إلى عالم الخيال. وتؤكد: “لم أحاولُ مطلقاً الادعاء بغير ذلك. واتهامها بمحاولة تجسيد الواقع ما هو سوى تفسير خاطئ”.
وتعتمد الفنانة في أعمالها دائماً على فكرة أساسية، وهي المزج بين ما تختار الكشف عنه من حياتها الشخصية وما يحدث في العالم. وتتساءل: “كيف أستفيد من هذه اللحظة؟ وأبتكر عملاً له مغزى، لنا وللغربيين أيضاً؟”. ويتجلى ذلك في مجموعتها “أرض الأحلام” Land of Dreams التي قدمت فيها 111 بورتريه لأشخاص صورتهم في نيو مكسيكو، إحدى أفقر الولايات في أمريكا، والتي قد توحي صحراؤها القاحلة بأن الصور التقطت في الشرق الأوسط. وتبتسم قائلةً: “لم أرد أن يعرف الجمهور ما إن كنت صورتها في إيران أم الولايات المتحدة الأمريكية”. وتستطرد: “تحدثتُ إلى الناس [أثناء التصوير]، وتبادلنا المعلومات حول خلفياتنا الثقافية؛ وكانت تجربة إنسانية رائعة، وآمل أن تُظهر الصور هذا التقارب بيننا”. وتلعب امرأةٌ إيرانية الدورَ الرئيسي في هذا العمل، حيث تنتقل من باب إلى آخر لالتقاط الصور. وتؤكد شيرين نشاط أنها لم تقدم أعمالاً عن إيران منذ مدة طويلة، وتقول: “إنها تجربة أمريكية – حدثت في أمريكا. وقد أبعدتُ نفسي بمرور السنوات عن الاتصال المباشر بإيران. وما لم يتغيّر هو أنني –إيرانية- ولا زلت البطلة الرئيسية لأعمالي”.
وتصف الفنانُة معرضَها الاستعادي، الذي يحمل عنوان “شيرين نشاط: سأحيي الشمس من جديد”، قائلةً: “إنه أشبه ببداية جديدة. وبدأتُ عملي في لوس أنجليس، المدينة التي صارت موطناً لأكبر جالية إيرانية تعيش في الشتات”. ورغم الميلاد الجديد والسعيد لها، هل ما زالت ترى نفسها تتخبط في الظلام؟ تجيب: “تتناول أعمالي دائماً الصراعَ بين النور والظلام، والتفاؤل والتشاؤم، والواقع السياسي مقابل النزعة الوجودية. فإقامتي هنا في المنفى جعلتني أشعر دوماً وكل يوم باليأس، وقد صرتُ أعيشُ في بلد تتفاقم فيه المشكلات”، وتضيف: “وربما هذا ما يشعر به الجميع بدرجات متفاوتة؛ ولكنها الطريقة الوحيدة للنجاة والبقاء على قيد الحياة. فالمهاجرون أكثر عرضة للأخطار، وتنتابهم مشاعر اليأس أكثر من غيرهم – ذلك الإحساس التام بالأمان لا وجود له بينهم”.
حين بلغت الـ18 من عمرها، رحلت نشاط عن إيران وأقامت في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1975. وهناك، درست الفن في جامعة كاليفورنيا، بمدينة بيركلي، ونالت شهادة في إدارة الأعمال، ودرجة الماجستير في الفنون، وماجستير آخر في الفنون الجميلة. وأصابها المشهد الاجتماعي والسياسي الجديد في إيران بصدمة عنيفة هزتها من الأعماق حين زارتها آخر مرة عام 1990. واليوم، رغم إقامتها في المنفى، لا زالت نشاط على اتصال دائم بأصدقائها -من الفنانين والكتّاب– الذين يترددون على إيران أو يقيمون بها. “لا أشعرُ بأني إنسانة منعزلة في فقاعة”. وتتراءى لها إيران كثيراً في أحلامها، إلى جانب والدتها التي غالباً ما تظهر في عقلها الباطن. “أفسرُ وجه أمي بالوطن. والقلق من فقدها هو القلق من فقداني لوطني. وتتفاوت درجة شعوري بالحنين وكيف يظهر في أشكال بصرية وفقاً لأوضاعنا السياسية”.
وتألّمها من النزوح، رغم أنها مشاعر خاصة، ليس مقصوراً عليها بالطبع. وللاحتفاء بزميلاتها من الفنانات الإيرانيات وتشجيعهن، أشرفت نشاط على معرض لأعمال الفنانات الإيرانيات قبل الثورة، من المقرر إقامته بصالة هاي لاين ناين للفنون في نيويورك في نوفمبر المقبل، بالتعاون مع مركز حقوق الإنسان في إيران، حيث تستعرض الفنانات المشاركات الـ13، اللواتي ينتمين جميعاً إلى أجيال مختلفة -مثل أفروز أميغي، وهادية شفيع، وشيڤا أحمدي- كيف حددت الأوضاع السياسية في إيران أسلوبهن وتوجههن الفني. وتكشف نشاط أن بعض الفنانات رفضن الدعوة خوفاً من منعهم من العودة إلى إيران.
وتذكر الفنانة البصرية الإيرانية أناهيتا باتايا، التي رحلت عن طهران في الثانية عشرة من عمرها، أنها كانت تدرس أعمال نشاط حين كانت طالبة في باريس. تقول: “بدأ الناس بسببها في البحث عن فنون الشرق الأوسط بوجه عام، بطريقة مختلفة. كما بدأتُ أتساءل عن الصورة التي يمكن أن يستحضرها الغرب عن الفنان الإيراني، وسعيتُ لرؤية ما خلف الأفكار الجوفاء. في رأيي، كان فيلمها “نساء بلا رجال” (2009)، الذي نالت عنه جائزة الأسد الفضي لأفضل مخرجة في مهرجان البندقية، نقطةَ تحول فنيّة لها. وأعتقدُ أن نشاط ستظل فنانة مرتبطة بالعالم ومشكلاته، رغم نجاحها التجاري الكبير”.
ولكن نشاط لا توافقها رأيها، وتقول: “أرى نفسي فنانة مكافحة، وضعيفة وهشة، ولديها شغف جارف بصناعة الفن”. فهي لا تعتبر نفسها قصة نجاح، بل مجرد امرأة تمكنت من “النجاة”. وتحمل في أعماقها مشاعر الحزن بقدر ما تحمل من إحساس بالقلق، شأن أي إنسان آخر. تقول: “أحبُّ حقيقة أني أتمتع بقاعدة شعبية. وأن أعمالي ليست بهدف جمع المال. ما يهمني أن تثير اهتمامَ كثير من الناس في جميع أنحاء العالم”. وترى نشاط أنها محظوظة بزوجها شجاع آزري، المخرج الإيراني الذي يتعاون معها، وبابنها، وبالاستوديو الذي أصبح أفراده كعائلة واحدة. تؤكد: “النجاح ما هو إلا وهم. وأنا لستُ في حاجة لحبّ أحد. لا بد أن أقتنع بنفسي. ودائماً ما أطالبها بعمل المزيد أكثر مما في وسعها وأفكرُ دوماً بأنه يمكنني القيام بعمل أفضل، ولكن هذا جانب من شخصية الفنان. ولم أصنع مطلقاً عملاً اعتبرته مثالياً، ولكني تقبلت الأخطاء”.
وعلى مدى نحو 40 عاماً، دأبت نشاط على رسم خط سميك من الكحل، تستخدمه كدرع، تحت عينيها الواسعتين المستديرتين كصحن الفنجان، يشبه أسلوب الزينة الفرعونية في مصر القديمة. ولدى سؤالها عن سر شغفها بهذا الكحل –الذي يعتبر مزيجاً من أكثر أقلام ماك ولانكوم سواداً- ومن أين أتت به، أجابت ضاحكة: “بصراحة لا أتذكر”، وأضافت: “الإيرانيات محيرِّات جداً، ولكنه [أي: الكحل] يحدد شخصيتي”. وقد أطلّت بإطلالة سوداء، فيما زيّنت بنيتها النحيفة القوية بقلائد وأقراط قبلية تنافس عينيها في اتساعهما، جمعتها من المغرب، والمكسيك، ومصر. وتعلق على أسلوبها في ارتداء الأزياء، الذي تقول إنه يمنحها شعوراً بالثقة أمام الجمهور، قائلةً: “هكذا أنا وسأظل متمسكة بذلك”.
وتنصح الفنانةُ آلاف النساء –الإيرانيات والعربيات، وغيرهن- الباحثات عن صقل مواهبهن وينظرن إلى هذه العملاقة الصغيرة كمثال يحتذى به، قائلةً: “لا تشتغلي بالفن لتبني مساراً مهنياً لكِ. فدراسة الفن والعمل كفنانة لعبة خاسرة؛ فهو عالم قائم على المنافسة ويعتمد على الأسواق، والمال، والتجارة. والفن الجيد حقاً ينبع من النفس. ابحثي في أعماقكِ واكتشفي ما الشيء الذي تتعجلين التعبير عنه. اصنعي فناً لأنكِ تشعرين أنه يدفعكِ دفعاً لنشره للعالم”.
يقام معرض الفنانة شيرين نشاط بعنوان “شيرين نشاط: سأحيي الشمس من جديد” بمتحف ذا برود في لوس أنجليس خلال الفترة من 19 أكتوبر 2019 حتى 16 فبراير 2020.
كما يقام معرض “جسر بينك وبين كل شيء: معرض للفنانات الإيرانيات” الذي تشرف عليه شيرين نشاط بالتعاون مع مركز حقوق الإنسان في إيران خلال الفترة من 7 حتى 24 نوفمبر 2019، في متحف هاي لاين ناين بنيويورك. Iranhumanrights.org
نشر موضوع “عيون بصيرة” للمرة الأولى على صفحات عدد أكتوبر 2019 من ڤوغ العربية.
اقرؤوا أيضاً: إليكم كل الأسباب التي ستجعل ’إكسبو 2020 دبي‘ أروع معرض في العالم