دارين بربر امرأة جبّارة، وطموحة، ولا تُقهر، وواثقة من نفسها، ومتصالحة مع ذاتها. هي إنسانة جميلة لديها ساقان -واحدة من حديد وأخرى من لحم ودم- وصبورة، ومحبة لعمل الخير، وذكية، وليس هناك في قاموس حياتها مساحة لكلمة استسلام.
نشر للمرّة الأولى على صفحات عدد سبتمبر 2019 من ڤوغ العربيّة.
نشأت دارين في لبنان، كانت الحياة صعبة للغاية، خاصةً أثناء الحرب، وُلدت عام 1978، وترعرعت في أسرة مؤلّفة من خمسة أفراد. وعن قصتها مع الحياة والإعاقة تقول: “أمضيتُ معظم طفولتي أشعر بعدم الأمان والخوف من أنني قد أتأذى أو أحترق أو اُقتل بسبب الحرب. انتهت الحرب في عام 1990 ومرت ثلاث سنوات، وكنت في الخامسة عشرة في ذلك الوقت. “تخيلي أنك شابة في سن المراهقة في المدرسة سعيدة بإعجاب الجميع والمدرسين، تتطلعين إلى سنوات الدراسة الثانوية والجامعية، وتشعرين بالحيوية والحماس تجاه الحياة، أن تكوني ضمن فريق كرة السلة الذي يسعى إلى البطولة، والتحدث مع صديقاتك عن الحفلات والملابس والأحلام”، كنت أحلم دائماً أن يكون لدي مستقبل واعد، وكنت أرغب في أن أصبح شخصاً مشهوراً، مثل عارضات الأزياء أو الفنانات، لأنني أحب الموسيقى وأجيد الغناء. لكن لم يخطر لي أن للإلهام والإبداع وجوهاً مختلفة. نظرت إلى الفنانين المشهورين واستلهمت منهم، وتخيلت كيف سيكون شعوري مثلهم. لم أدرك أبداً أن ما جعل هذه الأيقونات مميزة هو أنها كانت مختلفة، وأنها استفادت أكثر من هذا الاختلاف.
في أحد الأيام، ودون سابق إنذار، شعرتُ بألم في ساقي، اعتقدتُ أنه سيذهب مع كيسٍ من الثلج كل ليلة – وهو علاج بديل توارثناه من جدودنا. لكن هذا لم يحدث! تم تشخيص إصابتي “بساركوما عظمية”، وهو سرطان عدواني شديد. وفجأة تغيرت الصورة بأكملها، وأصبحت في غرفة المستشفى، مع الأطباء والممرضات والحقن. تم تأجيل كل شيء آخر، تم تأجيل الحياة، بدأت أحلامي تتلاشى، وكنت خائفة من المجهول.
كان الطبيب متردداً ولم يكن يعرف كيف سيخبرني ببتر ساقي، لكنه فوجئ عندما أخبرته: “أريدك أن تبترها، إنها مؤلمة وغير مجدية”. كان عليّ أن أواجه الحقيقة المخيفة، وأن أكون شجاعة لأتقبّلها، فنحن نواجه لحظات في الحياة حيث نحتاج إلى شجاعة، نحتاج إلى فعل الشيء الصحيح حتى لو كان مخيفاً. لقد أجريت عملية جراحية وبترت ساقي إلى ما فوق الركبة.
بعد ذلك مررتُ بفترة من الاكتئاب. تعرّضت لأزمة فقدان الهوية. لم أعد قادرة على تحديد هويتي بسبب البتر. استغرق الأمر وقتاً طويلاً، وذرفت الكثير من الدموع، لأدرك أنني كنت نفس الشخص الذي كنت عليه سابقاً. لا يمكن لأحد أن يمنحك القوة اللازمة للمضي قدماً، عليك أن تنظر بداخلك وأن تركز على كل ما يمكنك تقديمه. فالناس سيحكمون عليك ويفرضون عليك معتقداتهم ومخاوفهم، إنه قرارك بالسماح لهم بالتأثير على جوهرك وتدميره وفصله، أو أن تتجاهلهم.
عشتُ في مجتمع يعتبر الإعاقة ضعفاً، ويحكمه الكمال، حيث يتم تلقين المرأة بعبارات رنانة، “كوني جذابة، كوني مثالية أو أقرب ما يكون إلى الكمال”، ولكنني اكتشفت أنّ الكثير من القوة يكمن في التنوع، فعلى سبيل المثال، الأوركسترا التي تعزف نوتة واحدة مملة ولا إبداع في ذلك. هناك قوة وجمال في كونها مختلفة.
كان التحدي الأوّل إلى جانب التحدي الجسدي هو العودة إلى المقاعد المدرسية، لكن بدعم من عائلتي وأصدقائي، عدت بعد سنة من إصابتي. عدتُ إلى عالم مليء بالعقبات والتحديات الجديدة. كلما مررتُ بجانب الطلاب كانوا ينظرون إليّ بشفقة، أو أسمعهم يهمسون. في فترات الاستراحة، قضيت معظم الوقت داخل قاعة الصف لأنه كان من الصعب عليّ الصعود والنزول على الدرج، لأن طرفي الاصطناعي في ذلك الوقت كان بدائياً ووزنه 7 كيلوغرامات وليس عملياً ليساعدني على المشي. أمّا الذي جعل الأمر أكثر صعوبة بالنسبة لي فهو مدير المدرسة الذي وجدني غير مؤهلة لمواصلة دراستي لأنه كان يريد أن أحقق أعلى الدرجات، لذا فصلني في السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية. وهنا لم أفقد ساقي فحسب، بل فقدت مدرستي وأصدقائي ومستقبلي. لكن هذا لم يمنعني من الاستمرار! ذهبت إلى مدرسة أخرى مع زملاء دراسة جدد ومعلمين جدد، ونعم أثبت أنه مخطئ، وتغلبت على التحدّي وتخرجت بمعدّل جيد.
لقد تعايشتُ مع صعوبات ساقي الاصطناعية التي كانت بدائية والتي كان يستغرق لبسها حوالي 30 دقيقة مصحوبة بالألم والضغط، ولكني كنت مصمّمة على تحقيق أحلامي وبناء مستقبل أفضل لنفسي. أكملت تعليمي وبدأت أمارس مهنة التأمين حتى حصلت على سيارة وبدأت في القيادة بنفسي أيضاً. في عام 2006 تزوجت من رجل رائع، زوجي رمزي، ونقلتني الشركة التي كنت أعمل لديها إلى الإمارات العربية المتحدة. لدي طفلان هما حياتي، ولد عمره 11 عاماً وبنت تبلغ من العمر 6 أعوام.
“لا يمكن لأحد أن يمنحك القوة اللازمة للمضي قدماً، عليك أن تنظر بداخلك وأن تركز على ما يمكن تقديمه”
بعض الناس يستخفون بقدرة أن تصبح أمــاً، إنـه أفضل تدريب على الإطلاق، تتعلم القيام بمهام متعّددة والعمل تحت الضغط، لكن الأمومة لا تسرقنا من تحقيق أحلامنا، بل تمكننا من أن نصبح نساء أقوى في جميع جوانب الحياة.
بعد ستة أشهر من ولادة ابنتي، سقطت في المطبخ وكسرت فخذي. لقد كانت تجربة مدمّرة؛ اعتقدتُ أنني لن أسير مرّة أخرى أبداً، أخبرني الأطباء أنه يجب أن أخضع لعملية وعليّ البقاء على الكرسي المتحرك لمدة ثلاثة أشهر حتى يتم شفاء عظام الفخذ. خلال هذه الفترة، كان لديّ وقت للتفكير في حياتي وتقييمها، إلى أين كنت ذاهبة بأسلوب حياتي غير الصحي، وكيف سمحت لنفسي بأن أصبح أسيرة للوجبات السريعة وعدم ممارسة الرياضة؟ قال الطبيب إنني لن أستطيع تحمل السقوط مرة أخرى لأن عظامي ليست قوية جداً، وأنني بحاجة لطرف اصطناعي متطور، لكن عليّ أن أمتلك جسماً رياضياً مثالياً لمواءمته.
فغالًبا مانتعلّم أفضل الدروس من أصعب الأيام. قف قوياً، حاول قدر المستطاع، ففي بعض الأحيان يجب أن تواجه نقطة منخفضة في الحياة لتتعلّم درساً جيداً لا يمكنك تعلًمه بأي طريقة أخرى. هناك خطوة أولـى في كل شـيء، فـإن اتخاذ الخطوة الأولى هو أصعب شـيء، إذ حان الوقت للتحدي الكبير الآن. لقد عـدُت إلى نقطة الصفر. كان عليّ أن أتخذ إجراءً سريعاً لتغييره، وكان ذلك الحادث منبّه الاستيقاظ الأخير، وكان عليّ القيام بذلك من أجلي أولاً. قرّرتُ الخضوع لبرنامج إعادة تأهيل مكثف، بدأت أتردّد على صالة الألعاب الرياضية كل يوم، وأتناول طعاماً صحياً، لم يكن الأمر سهلاً، لكن كان عليّ فعل ذلك من أجلي، وتدريب نفسي على التفكير بنفسي أولاً، ونسيان ما فقدته والتركيز على ما أملك، وإعادة البناء، والاستيقاظ كل يوم مع خطة لتحقيق ذلك.
فقدت 25 كيلوغراماً، وكنت قادرة على ارتداء الطرف الاصطناعي الجديد والمشي مرة أخرى من دون ألم. لقد كان شعوراً مدهشاً أن أشعر بالأمان مع كل خطوة أخطوها، كان الخوف يتضاءل شيئاً فشيئًا. نعم فعلاً! الآن حان الوقت للطيران. جميع المشقات والجهود تؤتي ثمارها. لا شيء قادر على إيقافي، بدأتُ في وضع هدف تلو الآخر ورفع مستوى التحديات. أول شيء قمت به، هو إزالة الغطاء التجميلي عن ساقي الذي كان يزيد من وزن الطرف الاصطناعي. لقد حرّرت نفسي من محاولة إرضاء المجتمع، وتمكنت أخيراً ولأوّل مرة في حياتي منذ أن أصبحت مبتورة الطرف أن أرتدي كل ما أريد وأي شيء يجعلني مرتاحة. وأكثر العبارات التي كانت تضايقني وما زالت هي عبارة ”للأسف”،أما أحّب وأقرب كلمة إلى قلبي فهي هذه الكلمة التي تحمل الكثير من الأمل والتشجيع والتقدير في حياة كل شخص، فهي عبارة “أنت مذهلة”.
لقد وجدتُ شغفي، لنشر الإلهام والتحفيز للجميع وخاصة الأشخاص الذين يعانون من إعاقات. بدأت أمارس نشاطي على وسائل التواصل الاجتماعي، قمت بحملة توعية في مدرسة ابني وبنتي العام الماضي، وتحدّثنا مع الأولاد عن التنمر وكيفية محاربته، لأنني شخصياً واجهت نوعاً من التنمر وهو نظرات الشفقة. لذلك من خلال انفتاحي على العالم وثقتي بنفسي الآن، أنا أغيّر فكرة أنّ الإعاقة هي ضعف من خلال ممارستي للرياضات التي قد تكون صعبة على الإنسان العادي الذي لم يخسر أطرافه. نبدأ في الشك في قدراتنا والتركيز على السلبيات، والمحادثات في رؤوسنا تسيطر على عقولنا ومشاعرنا، “لماذا أنـا؟، لا أستطيع أن أفعل ذلك، لقد سيئمت، والحياة غير عادلة، يوجد أحد يفهمني”، نعتقد أننا وحدنا وأن العالم كله يدور حولنا. في آخر الحكاية أنا أؤمن بأنّ لا شيء يدوم في الحياة، ونصيحتي لكل امرأة تعاني أو تعتقد أنّها مختلفة: “لا تستسلمي وابحثي دائماً عن أي شيء إيجابي في حياتك اليومية، وركّزي عليه، كما أن اللحظات السعيدة تنتهي وتزول، فلا بدّ للإحباط أن ينتهي أيضاً إذا قرّرت ذلك بنفسك“.
فعندما تبدأ في التفكير بطريقة إيجابية، فجأة لا يوجد شيء مستحيل. عندما فقدت ساقي لأول مرة، كنت أحاول جاهدة التمسك ببربر القديمة ورفضت الحياة الجديدة، لم أتقبل التغيير ورفضته بطريقة أو بأخرى، وهذا ما خلق المعاناة. لكن عندما قبلت وأحببت ما لدي، تغّير كل شيء. كنت أبحث دائماً عن نموذج أحتذي به في حياتي، شخص أتعلّم من تجربته حول كيفية تعامله مع الإعاقة، لكنني توّقفت وفّكرت أن كل هذه النماذج والقادة هم أشخاص واجهوا صعوبات وتحديات ولم يستسلموا أبداً، فقلت لنفسي، لماذا لا أكون نموذجاً يحتذى به، يمكنني أيضاً أن أقود الطريق وأنقل رسالة قوّية إلى العالم مفادها أن الإعاقة هي قدرة استثنائية تجعل المستحيل ممكناً. فباختصار تؤّكد بربر أن “كل تحدٍّ مؤلم نمرّ به اليوم هو القوة التي نشعر بها غداً”.
فريق التصوير:
تصوير سابرينا رايانس
تنسيق الأزياء محمد حازم رزق
شعر ومكياچ راكال سيارو