تكشف الإعلامية والروائية رولا جبريل عن أهمية قول الحقيقة في مواجهة المواقف المتطّرفة في الشرق والغرب.
كيف بدأتِ الكتابة ولمَ تكتبين؟
القراءة والكتابة وجهان لعملة واحدة. بدأت بقراءة غسان كنفاني ومحمود درويش وإدوارد سعيد وغيرهم للهروب إلى عوالم الشغف والتأمّل والفضول والعزلة. القراءة أنقذت حياتي لأنّ هؤلاء الكتّاب شقّوا الطريق للأرواح المعذّبة والصامتة، في وقت كان يمكن لكآبتي أن تقضي عليّ. وفي مرحلة لاحقة هربت عبر كتاباتي إلى العوالم التي تبنيتها متخطّية عالمي. لكنني ككاتبة استطعت أن آخذ الآخرين معي، زملائي في الهروب. هكذا أصبحت الكتابة رحلتي ورحلة القرّاء أيضاً. كما أنّ للكلمات تأثيراً عميقاً، أرى أنها يمكن أن تدفع إلى التغيير. تبعث كلماتي الحياة في الذكريات والقصص والصراعات تاركة آثاراً وبصمات للآخرين، كي لا يقتلع روايةَ شعبي المشروعُ الكولونيالي الاستعماري في وطني.
هل في الكتابة بحث عن الحقيقة؟
لا يمكن أن أكتب أكاذيب أو أنصاف حقائق للتعبير عن عواطف أو لنقل أحداث تاريخية أو سياسية. لا يمكن أن أقبل بأنغام متنافرة أو أن أخرج من مكاني. حتى عندما أكتب أحداثاً روائية، أكتب عن مشاعر إنسانية حقيقية، كيف نحب، ونتعذّب، ونناضل ونتجاوز الصعاب. تجذبنا هذه الحقائق في الكتابة. ما تعنيه لي هاتان الكلمتان يختصر ببساطة عالمي كلّه: أرى العالم وأعبّر عنه بصراحة تامة، وبأسلوب أتمنى أن يتمتع بالسلاسة الفنية وبالرقيّ، إن كان في مقالاتي الصحافية أو في أعمالي الإبداعية. لهذه الأسباب كتب كيتس أنّ الجمال هو الحقيقة وأنّها كل ما نريد أن نعرفه. بالنسبة إليّ الكتابة هي الحقيقة.
ما يحدث في الولايات المتحدة يعني العالم كلّه. ما الذي يدفعك إلى التعبير بصراحة ووضوح عن معارضتك للعديد من مواقف الإدارة الجديدة؟
واجبي أن أرفع صوتي لأنني أستطيع أن أعتلي منابر عالمية. فأنا هذه المرأة العربية المسلمة التي تظهر عبر وسائل الإعلام الأميركية لتنتقد بصراحة التمييز العنصري والخوف من الإسلام وتفنّد الأكاذيب وتتحدّى دعاة الخوف والحروب الذين يتخذون جرائم المتطرّفين ذرائع للتمييز ضد الأقلّيات وإعلان الحروب عليهم. لكن يجب أيضاً أن نحذر من لوم أميركا، كأنها كتلة واحدة، كي لا نقترف الذنب نفسه. كي أكون واضحة، أنا أحيّي المواقف الأميركية إذا كانت تستحق المديح والتحية، مثلما أنتقد انتهاك حقوق الإنسان في كل وقت وزمان. أسعى إلى الاستفادة من موقعي كصحافية عربية لمواجهة الآراء المبنية على مغالطات وسوء فهم خصوصاً في ما يتعلّق بالسياسات الأميركية والإعلام الأميركي.
ما مصدر قوة دفاعك عن مواقفك؟ وهل قصّتك الشخصية وما عشتِه علّماك أهمية قول الحقيقة في مواجهة القوة؟
يمكن أن تكون مضجرة الكليشيهات التي تدور حول مواجهة محن الطفولة الصعبة بالقوة والعزيمة. لكن لا شك أنّ مأساة رحيل أمي وأنا في سنّ صغيرة وانتقالي للعيش في دار للأيتام ومراقبتي معاناة مَن حولي ظروف الاحتلال العسكري الوحشي، دفعتني إلى الاختيار بين الانكسار أو الصلابة. لم أنكسر. لذا عندما أسائل قائداً سياسياً أو أنتقد سياسات ظالمة من دون أن أجفل، يبدو على وجهي أن لا شيء يخيفني، لا شيء. يتطلّب الإصرار على سؤال يسعى سياسي إلى التهرّب منه نوعاً من العناد درّبتني حياتي عليه.
أما بالنسبة إلى أهمية مواجهة القوة بقول الحقيقة، في كل وقت وفي ظروف مختلفة وعديدة، هناك، كما قالت حنّة آرنت، أشخاص من دونهم يهلك العالم، هذا هو دوري كإعلامية، هذا ما ولدت لأنجزه وما أسعى إليه بكل نسيج من كياني.
كيف ساهمتْ في تحديد شخصيتك حقيقةُ أنك منفية أو أنك تنتمين إلى الأقلّية المهمّشة؟
سمحت لي ظروفي بأن أتعلّم الفصل بين الحقيقة والرواية الرسمية، وأن أعرف أن هناك مَن يقرّرون الأخبار، وهناك في المقابل مَن يتحرّون إذا كانت هذه الأخبار بناء أسطورياً صُمّم لتأكيد الوضع القائم الذي يشجّع على التمييز العنصري والجنسي والطبقي. كما رأيت بوضوح اختلال توازن القوى في العالم. هناك تقصير في تمثيل الأقلّيات العربية والمسلمة في الولايات المتحدة وفي الغرب في الإعلام وعلى الساحة السياسية. وأنا أحسّ بمسؤولية كبيرة، مسؤولية المجاهرة بالحقيقة في وجه القوة لتمثيل مَن لا صوت لهم والمهمّشين من الأقليات. واجبي أن أخفّف عن المحبطين وأقلق المطمئنين لسيطرتهم على الحقائق الواضحة ووجهات نظر المهمّشين والمفروض عليهم الصمت.
العالم وطني. عائلتي في إيطاليا، وعقلي وقلبي كانا وسيكونان دوماً مع الشعوب العربية
هل يمكن أن تصفي تجربتك كامرأة عربية تعمل في الغرب؟ وهل تغيّرت النظرة إلى المرأة العربية في العالم الغربي؟
تختلف الإجابة عن هذا السؤال بين أوروبا والولايات المتحدة. في أوروبا، برزت صحافيات عربيات في وسائل إعلامية مختلفة. لكن في الولايات المتحدة، أنا الفلسطينية والمسلمة الوحيدة التي تظهر بانتظام على شاشات التلفزيون وفي الصحافة المطبوعة، ولا أشبه الصورة التي قد يتخيّلها الأميركيون ويرسمونها بناء على الصورة النمطية السلبية. حتى هيلين توماس، أشهر صحافية أميركية من أصول عربية، لم يدل اسمها على أنها عربية. أمتلك فرصة نادرة هي فرصة تقديم وجهة نظر امرأة عربية تحطّم أساطير بعض الأميركيين عن الشرق الأوسط والمسلمين وعن مجتمعاتنا وتاريخنا. لكنني أيضاً أدفع ثمن التعصّب والتمييز الجنسي والخوف من الإسلام، عبر الأضواء المسلّطة باستمرار وبقسوة ضاغطة على حياتي الشخصية والمهنية. لديّ قصص لا تُحصى عن منتجين يستخدمون في كلامهم معي ألفاظاً وعبارات تدينهم بالتمييز على أساس الجنس، كأنّ شكلي أهمّ من كلّ ما يمكن أن أقوله. هناك أيضاً مَن يريدون منعي من الظهور لأنني لا أتملّق للنظرة التقليدية المسيطرة ولا أقبل بمحاربة طموح الفلسطينيين إلى العيش بكرامة.
نعم النظرة إلينا تتغيّر. أريد أن يساهم دوري في هذا التغيير. كما نستمع في أميركا اليوم إلى أصوات مسلمين ناجحين أمثال فريد زكريا، وعدد من النساء الأميركيات المسلمات اللامعات في أعمالهن واللواتي اقتحمن أخيراً ميدان السياسة.
ولدت في فلسطين لكنك درست وتعلّمت في أوروبا والولايات المتحدة. أين تحسّين بأنك في وطنك؟
هذا السـؤال صعب، ولن يجد الإجابة عنه سهلةً مَن عاش ظروفاً تشبه ظروف حياتي. تولد أفكاري باللغة العربية، وأحتضن الثقافة الفلسطينية وصراعنا الجماعي، وأحسّ بين أبناء شعبي بأنني في وطني. لكنني تعلّمت في الغرب، في بولونيا في إيطاليا، حيث اكتشفت حرية التعبير عن نفسي كشخص مستقلّ. وتعيش في إيطاليا عائلتي بالتبنّي التي منحتني منزلاً وحتى هذا اليوم ترعاني وتساندني. لذا أرى أن الإجابة الفضلى هي أن العالم وطني، عائلتي في إيطاليا، وعقلي وقلبي كانا وسيكونان دوماً مع الشعب الفلسطيني وشقيقاتنا وأشقائنا المكافحين في الشرق الأوسط. أنا واثقة بأنّ هذه المشاعر ستحرّك كل مهاجر أو لاجئ انتقل من عالم إلى آخر، ثم عانق العالم الجديد من دون أن يغادر تماماً عالمه القديم.
هل يحدث أن تفقدي الأمل في مواجهة الكراهية والتعصّب اللذين نشهد عليهما؟
أتخلّى عن الأمل باستمرار، لكن خلال فترات قصيرة، أحياناً مرتين أو ثلاثةً في اليوم الواحد. كلّنا تتعبنا وتحبطنا النكسات. كيف لا نتأثر ونحن نرى كما عبّر بطلاقة الأمير زيد بن رعد الحسين واصفاً «تسليح التعصّب الأعمى»؟ لكن لا يمكن أن أتخلّى عن الأمل في المدى البعيد. فتاريخ النضال الإنساني، كما كتب فريديريك دوغلاس، يميل نحو التقدّم والعدالة. بإبقاء الأمل والحقيقة حيّين يصحّح البشر أخطاءهم ويتقدّمون.
تحرصين على أناقة مظهرك، ما الذي تعنيه لك الموضة؟ وهل تواجه صورتك المفاهيم الخاطئة المرتبطة بصورة المرأة العربية؟
الأزياء التي نرتديها للظهور أمام الكاميرات هي أزياء عملنا الذي يتطلّب منا مستوىً معيناً من الأناقة، والاهتمام بالمكياج، فليس مسموحاً أن نظهر من دونه. ولا أخجل من القول إنني أحبّ الموضة وأهتمّ مثل معظم النساء بأناقة أزيائي، فما نرتديه يعبّر عنا. وأستمتع بصدم البعض عندما أرتدي أزياء من تصميم عز الدين عليّة أو إيلي صعب ويسألونني: أهذا ما ترتدينه في بلدك؟ فأجيب: المصمّمون العرب ليسوا متعصّبين ولا قبليين. أشعر بالفخر حين أرتدي أزياء المصممين العرب المبدعين الذين انطلقوا من ثقافتهم وتراثهم وانفتحوا على العالم.
ما هي أفضل نصيحة يمكن أن تعطيها لابنتك؟
تثقيف القلب والكيان يستمرّ طوال العمر، وما يبدو مهمّاً الآن يخسر قيمته لاحقاً. حين نكتشف أن أموراً بسيطة تمنحنا السعادة، حضن العائلة وتربية الأولاد. أما الأمور الأخرى، كالثروة والشهرة والمستوى الاجتماعي، فكلّها أمور عابرة. الأهم هو أن تعانق كل لحظة لأنّ الحياة ثمينة، وكلّنا نستمتع بنعمها إن أدركنا ذلك أو لم ندركه.