تابعوا ڤوغ العربية

داخل عدد شهر مايو: كان يا ما كان في مهرجان كانّ

طبعت الأعطال الكهربائية وعرض فيلم هيتشكوك بالمقلوب، ذكريات انطلاق مهرجان كانّ السينمائي في العشرين من أيلول 1946. يُقال إنّ السينما ولدت مرتين، مرة أمام كاميرا الأخوين لوميير، ومرة ثانية عندما قرّر بعض الفرنسيين تكريس موعد لعرض الأفلام وأصبح أهم تظاهرة سينمائية في العالم، وهي تحتفي في مايو الجاري بدورتها السبعين. 70 سنة من «الغلامور» والبهرجة والاكتشافات والجدل حول أفلام هي تحف مبدَعة. وكلّ مَن شارك في المهرجان، يعي جيداً أنّ خلف السينما الجادة التي نتابعها في كانّ، ثمة آلاف الحكايات الجانبية والأخطاء التقنية والنميمة وقصص الحبّ والصداقة والذكريات، وهذه كلّها تمثّل جزءاً مهماً من تاريخ حدث يُعتبر الثاني في العالم لجهة التغطية الإعلامية.

يجمع كانّ بين المتعة والثقافة و«البزنس»، أي المكوّنات الثلاثة التي لا سينما من دونها. بعد بدايات صعبة عانى خلالها ظروفاً رقابية وتمويلية، نجح المهرجان، كما لم ينجح مهرجان من بعده، بأن يصبح مركز كون السينما، أقله خلال فترة انعقاده، في مايو من كلّ سنة. خلال 12 يوماً، تصبح المدينة محجّاً لأهل الفنّ السابع في العالم. على مدار سبعة عقود، شكّل كانّ نقطة انطلاق لأسماء عظيمة، قامات سينمائية كبيرة خاضت هنا أشرس المعارك. إنّه المنبر حيث تلتقي الثقافات كلّها، لا وجود فيه للحلول الوسطى، يكرَّم فيه السينمائي أو يُهان.

البدايات

منذ الدورة الأولى، كُرِّمت المرأة في كانّ الذي بدا سبّاقاً في إبرازها. حصل هذا عندما تقرّر منح الممثلة ميشيل مورغان جائزة أفضل أداء نسائي عن دورها في”السيمفونية الرعوية” لجان دولانوا، فكُرّمت العينان الجميلتان اللتان سحرتا جان غابان في “رصيف الضباب”. شعارات فضفاضة مغايرة لما هو عليه الوضع اليوم كانت تُرفع آنذاك، من مثل “التقارب بين الشعوب”. في الدورة الأولى، عُرض 49 فيلماً طويلاً و86 فيلماً قصيراً من 19 بلداً. معظمها، كانت يُعرض بلا ترجمة. ولإرضاء الجميع، منحت لجنة التحكيم جائزة أفضل فيلم لكل دولة تمثلت بفيلم أو أكثر. في ظلّ غياب الخبرة والإمكانات، لم تكن الأعطال التقنية حالات نادرة، إذ أوقفت الوثائقي “برلين” 4 مرات يوم عرضه.

في الدورة الثانية، العام 1947، تقلّص عدد أيام المهرجان إلى  12. وللمرة الأولى منذ تأسيسه، تألّفت لجنة التحكيم من مخرجين ونقّاد، في حين أطاحت عاصفة قوية سقف القصر، وتعرقل إجراء الدورة التالية، لأن الدولة رفضت منح سلفة قدرها 15 مليون فرنك، لإيمانها بعدم جواز إجراء مهرجان بهذا الحجم إلا مرة كلّ سنتين، وهذا ما جرى. فبعد سنتين من الغياب، افتتح فرنسوا ميتران، آنذاك نائب سكرتير الدولة لرئاسة المجلس، القصر الذي انتهى بناؤه قبيل موعد الافتتاح بساعات. ثمة شهادات تفيد بأنّ “روائح الدهان كانت تسدّ الأنفاس، ومعدّات البناء كانت لا تزال في كلّ مكان، والسجادة الحمراء الشهيرة لم تكن قد وُضعت في مكانها بعد”. أما المتعهد، فكان يهدّد بأنه سيفلت عمّاله لإثارة الفوضى في حال عدم دفع الدولة له الـ15 مليون فرنك، تكلفة الإصلاح والترميم.  

Italian actress Gina Lollobrigida visits London for the Italian Film Festival, 5th July 1952. Original Publication : Picture Post - 5952 - Stars Bring Fashions From Italy - pub. 1952. (Photo by Haywood Magee/Picture Post/Hulton Archive/Getty Images)

جينا لولوبريجيدا. Getty

الخمسينات

مع بداية الخمسينات، استبدل المهرجان توقيته، فصار يُعقد في الربيع. في تلك الحقبة، كانت الحوادث الديبلوماسية كثيرة (فيلمان، الأول سويسري والثاني سوفياتي سُحبا في إحدى الدورات)، على الرغم من أنّ اللجنة كانت لا تزال تعمل بسياسة المراعاة ولا تترك جهة تغادر المهرجان وسلّتها فارغة! مع ولادة التلفزيون العام 1954، راح المسؤولون في كانّ يطرحون تساؤلات عن سبل تغطية حفل من هذا الحجم عبر الشاشة الصغيرة. جان كوكتو ترأس اللجنة في تلك الدورة، وأعلن خلال الافتتاح، أنّ “هذه الدورة ستُعرف باللطافة”. وبالفعل، ثمة مَن شاهده وهو يُهدي نجوماً كانوا إلى جانبه، وروداً رمى بها إليه بعض المعجبين! شيئاً فشيئاً، بدأت ضغوط الرقابة، وتمثلّت في المرة الأولى بمنع عرض فيلم “قبل الطوفان” للبلجيكي أندريه كايات. فتم جمع تواقيع ورفع عريضة تحمل شعار “حماية حرية التعبير”.

العام 1955، وُلدت “السعفة الذهب”، ومُنحت بالإجماع لفيلم “مارتي”، إخراج دلبر مان. وفي السنة عينها، سجّلت المنافسة النسائية بدايتها بين النجمتين الإيطاليتين جينا لولوبريجيدا وصوفيا لورين، بينما مرّ جيمس دين وفيلمه “شرق عدن” لإليا كازان، مرور الكرام، وسط حشد من الفتيات اللواتي وصلن إلى الريفييرا الفرنسية لإلقاء نظرة أخيرة على هذا النجم الذي توفي بعد أيام قليلة في حادث سير. أما الفضيحة الكبرى، فأثارها فيلم “كارمن جونز” لأوتو بريمينغر، إذ اعتبر بعض المحافظين أنّه لا يجوز تشويه عمل “بيزيه” الأوبرالي الذي ينتمي إلى التراث الثقافي الفرنسي، وإفراغه من هويته.

بعدها بسنة، أثارت كيم نوفاك الدهشة في صفوف الوافدين إلى كانّ. من أصغر مصوّر وصحافي إلى أكبر عضو في لجنة التحكيم، مروراً بفرنسوا تروفو الذي كتب عنها في مجلة “فنّ”: “تجمع بين جاذبية ماريلين مونرو وبرستيج لورين باكال. ذكية، مثقفة. من دون إعطائها التعليمات، يمكنك أخذ 10 لقطات منها في 10 ثوانٍ”. هذا الانبهار بالظاهرة النوفاكية انعكس سلباً على النجمات الأوروبيات، فبدت كلّ من ميشيل مورغان وبريجيت باردو وايدويغ فويير كأنهن “خارج الموضة”!

وظلّ كانّ يفرش السجادة أمام النجمات الأميركيات، إذ أحدث وصول جاين منسفيلد إلى مطار نيس، ازدحاماً ضخماً، مما اضطر السلطات الأمنية إلى تفريق حشد المصوّرين الذين رافقوا مسار هذه الممثلة الفاتنة من نيس إلى كانّ، على الدراجات النارية، محاولين التقاط الصور لها. واختُتمت الخمسينات بتكريم جاك تاتي عن شريطه “عمي”، وعنه كتب الناقد اندره بازان: “إنها سينما آتية من كوكب آخر”.

CANNES, FRANCE - MAY 23: Director Abdellatif Kechiche attendsthe photocall for 'La Vie D'Adele' during the 66th Annual Cannes Film Festival at The Palais des Festivals on May 23, 2013 in Cannes, France. (Photo by Dominique Charriau/WireImage)

عبد اللطيف كشيش. Getty

الستينات  

1960 كانت سنة فيديريكّو فيلليني، إذ حصل فيلمه “الحياة العذبة” على “السعفة الذهب”، على الرغم من الاستقبال السيئ الذي حظي به، كونه شكّل انتقاداً “لاذعاً ومهيناً” لتصرّف الصحافيين ــ الباباراتزي. وظلّ الإيطاليون الأشاوس يهيمنون على كانّ، لدرجة أنهم لُقِّبوا بأبنائها المدللين.

لمناسبة مرور 20 سنة على تأسيس المهرجان، تألفت لجنة التحكيم من أعضاء في “الأكاديمية الفرنسية”، فاعتبر البعض أنّ الإدارة أخطأت في تعيين أشخاص “لا يرتادون السينما أكثر من ثلاث مرات في السنة”. المفاجأة الكبرى في العام 1966 صنعها كلود لولوش، مخرج فرنسي شاب تقاسم “السعفة الذهب” عن فيلمه “رجل وامرأة” مع الايطالي بياترو جرمي، مخرج “هؤلاء السادة السيدات”. ومع بدء حوادث أيار 1968 في باريس، تعكّر صفو المهرجان وانعكست الثورة عليه، فحدثت حال من الهلع أدت إلى استقالة لجنة التحكيم. تحول كانّ منبراً لمواقف المخرجين السياسية، انتهت أحياناً بالمواجهات الكلامية الحادة. اختُتمت الدورة قبل أوانها.

السبعينات

في نهاية الستينات وبداية السبعينات، كانت الأفلام السياسية قد انقضّت على المهرجان، ومنها “لوّ” لليندسي أندرسون و”ز” لكوستا غافراس، و”ماش” لروبرت ألتمان، قبل أن يحدث الإيطالي ماركو فيريري في العام 1973 ما يُمكن اعتباره ربما الصدمة الكبرى في تاريخ كانّ مع فيلمه “الوليمة الكبرى”. ومع بلوغ المهرجان الثلاثين، وجّهت إدارته دعوة إلى روّاد السينما الهوليوودية: فريد أستير، كاري غرانت، جين كيلي، إلا أنّ الحدث الأبرز يبقى فوز “سائق التاكسي” لمارتن سكورسيزي بـ“السعفة الذهب”، وولادة سينمائي كبير. وبعد سنتين من المعاناة التصويرية كادت تقضي عليه، وصل كوبولا إلى كانّ متأبطاً بكرات فيلمه الأسطورة “القيامة الآن” ليتقاسم “سعفة” كانّ 1979 مع فولكر شلوندورف الذي أبهر العالم بفيلمه “الطبل”.

الثمانينات

انتقال المهرجان إلى مقرّه الجديد في العام 1983 انعكس سلباً على الأجواء التي وُصفت بـ”المتوتّرة”، وسادت خصوصاً بعد الاستقبال السيئ الذي حظي به روبير بروسون، أحد أعلام السينما الفرنسية، وفيلمه “المال”. وبعدما تم اكتشاف أمير كوستوريتسا في العام 1985، سلّم كانّ، وللمرة الأولى في تاريخه، رئاسة لجنة التحكيم إلى ممثل، وهكذا اغتنم ايف مونتان الفرصة لمنح موريس بيالا “السعفة”، على رغم الاحتجاجات والأصوات التي وصفت الأمر بـ”الهرطقة”. وعندما اعتلى بيالا المسرح لتسلّم الجائزة، وجّه للجمهور إهانة من خلال حركة منافية للأدب، قائلاً له: “إذا لم تحبوني فأنا أيضاً لا أحبّكم”. ينبغي القول إنّ الجوائز كانت دائماً عرضة للهجوم في كانّ. فمثلاً، عندما سلّم رومان بولانسكي 3 جوائز لـ”بارتون فينك” للأخوين كووين، تمت مهاجمته، ما أثار سخطه، فأعلن أنّ كانّ ليس جمعية خيرية توّزع المنح على المشاركين على نحو متساوٍ.

DOHA, QATAR - NOVEMBER 01: Actor/director Elia Suleiman poses at the Museum of Islamic Art during the 2009 Doha Tribeca Film Festival on November 1, 2009 in Doha, Qatar. (Photo by Andrew H. Walker/Getty Images for Doha Tribeca Film Festival)

إيليا سليمان. Getty

التسعينات

دورة العام 1992 فرشت السجادة الحمراء أمام شارون ستون التي بوصولها إلى كانّ، أعادت إلى الأذهان أسطورة المرأة الهوليوودية اللعوب التي اختفت عن الشاشة. في غضون ذلك، كان العنف الصريح والواضح بدأ يشق طريقه إلى المهرجان، وتجسَّد من خلال فيلمين هما “بالب فيكشن” لكوانتن تارانتينو و”الملكة مارغو” لباتريس شيرو. الدورة الأخيرة قبل اليوبيل الذهب، شهدت صراعاً حامياً بين مخرجين: ثيو أنغلوبولوس وأمير كوستوريتسا، إلا أنّ “السعفة” ذهبت إلى الصربي، تاركة اليوناني في حال صدمة وخيبة. الدورة الخمسين كانت احتفالية بامتياز، فردّ كانّ الاعتبار إلى كبار الأسماء التي لم تنل “السعفة”. وتشكّلت لهذه الغاية لجنة من جميع السينمائيين الذين نالوا “السعفة” لمنح جائزة أطلق عليها “سعفة السعفات” إلى إنغمار برغمان، في حين تم تكريم يوسف شاهين بجائزة “يوبيل كانّ الذهبي”.

سنوات الألفين

في الدورة التي عُقدت في مطلع الألفية الثالثة، جاءت المفاجأة من لارس فون ترير وفيلمه “راقصة في الظلام”، ويقال إنّ ترير وزّع كتيباً صغيراً طلب فيه من الصحافيين عدم ذكر ختام القصة للقراء. الدورة 55 تميزت عن الدورات السابقة، لكونها تضمّنت أكثر من خمسة أفلام عربية، ولها عاد الفضل في عرض فيلم المخرج الفلسطيني إيليا سليمان وإطلاقه إلى العالمية، بدعم كبير من الصحافة الفرنسية.

فاز فيلم مايكل مور “فاهرنهايت 9/11” (2004) بـ”السعفة” التي تسلّمها من كوانتن تارانتينو، علماً أنّ هذا الفيلم جاء في مرحلة دقيقة يجتازها العالم، أيّ ما بعد اعتداءات 11 أيلول والغزو العسكري للعراق. العام 2006، أحدث الجزائري الفرنسي رشيد بوشارب سجالاً مهماً بفيلمه “بلديون”، عن الأفارقة الذين حاربوا إلى جانب فرنسا في الحرب العالمية الثانية، ما اضطر رئيس الجمهورية جاك شيراك إلى إعادة النظر في القانون المتعلق بالمحاربين القدامى. عربيٌ آخر، عبد اللطيف كشيش، أثار صدمة هائلة مع “حياة أديل” العام 2013، فنال “السعفة” بقرار من ستيفن سبيلبرغ ولجنته، وسط دهشة عامة.

هذه السنة، يترأس بدرو ألمودوفار الدورة السبعين. ويبدو جائزة ترضية إسناد هذه المهمة إلى المخرج الإسباني الذي لم ينل يوماً “السعفة” على الرغم من مشاركاته المتكرّرة في المهرجان العريق.

بقلم: هوفيك حبيشان

شاهدي هنا أجمل الإطلالات على السجادة الحمراء لمهرجان كان السينمائي.

الاقتراحات
مقالات
عرض الكل
مجموعة ڤوغ
مواضيع