تعيش السينما التونسية حالة نشاط غير مسبوق. نحن أمام شلّة جديدة، أعمار سينمائييها بين الثلاثين والأربعين، تشاء نفض الغبار عن السينما وإعادة تشكيل الأولويات بلغة متصلة بالواقع.
أحلام الشباب
أجلس مع محمد بن عطية في نهج الحبيب بورقيبة، أشهر جادات تونس العاصمة. أخطفه من صحافي كان يستعدّ لمحاورته، إلا أنّ أمراً طارئاً حال دون حدوث المقابلة بينهما. في الحادي والأربعين من العمر، أنجز بن عطية فيلمه الروائي الطويل الأول، «بحبّك هادي»، الذي نال عنه جائزة العمل الأول في مهرجان برلين العام الماضي. منذ ذلك الحين، لم تتوقف باكورته عن التنقل، من مهرجان إلى آخر، وصولاً إلى عرضها في «أيام قرطاج السينمائية»، أواخر العام الماضي. لقاء المُشاهد المحلّي له دائماً أفضلية في قلب الفنان، فما بالك إذا كان هذا المُشاهد تونسياً معروفاً بتذوّقه السينما وعشقه لها؟ عشقٌ نشأ داخل نوادي السينما المنتشرة بكثرة في تونس بدءاً من السبعينات. يروي بن عطية أنّ صناعة الفيلم كانت «مغامرة»، الكلمة – الوصف التي تتردّد على لسان أكثر من سينمائي في بلاد تحاول النهوض مجدداً، لا سيما اقتصادياً، بعد مرحلة صعبة. يُعلمني أنّه فضّل أن يناقش سينمائياً أحلام الشباب في تونس وتوقعاتهم. «وددتُ أن أجري مقارنة بين “ثورة” هادي ومشكلات الشباب التونسي، منها صعوبة الاختيار. اهتممت بالتقرّب من الشخصية، بلمس الديناميكية التي طرأت على حياتنا، وسمحت لنا باكتشاف أنفسنا والآخرين. قبل ذلك، كان كلّ شيء مستتراً. وددتُ تصوير هذا الغليان من خلال هادي».
يحضر سؤال مثل “ما الذي تغيّر؟” كلازمة في معظم أطروحات السينمائيين التونسيين. إنه الحدث الذي لا يمكن القفز فوقه، وعلى الأرجح سيبقى ماثلاً لفترة طويلة في الوجدان. «ما نقوله اليوم كنا نقوله. مع الفرق أنّنا مارسنا الرقابة الذاتية. الأفلام الوثائقية كانت غائبة، خلافاً للآن. الآن فقدنا الحجّة، بمعنى أنّه لم يعد في إمكاننا اعتبار أنفسنا ضحايا وبالتالي الاختباء. دخلنا مرحلة مصارحة. سابقاً، كنا نستعين بالغموض لتناول أمور واقعية».
عن الصراع الخفي بين جيلين من المخرجين، أحدهما قديم يعيد صوغ الكليشيهات نفسها عن تونس، والآخر يأتي برؤية جديدة، يقول بن عطية أنّه لا يحبّذ تصنيف السينما بين قديم وجديد. «لا أعتقد أنّه يصحّ ربط الإبداع بسنّ المخرج. نوري بوزيد مثلاً أنجز أفلاماً متنوّعة ولم يكتفِ بسينما من صنف واحد. ثمة شباب يُنجزون أفلام مسنّين، ومسنّون ينجزون أفلام شباب. لا أؤمن بمفهوم الصراع بين الأجيال. فعلاً لا أشعر به ولا أؤيده. ليس لدينا في تونس هذا الترف، كوننا ننتج عدداً محدوداً من الأفلام. كان في الإمكان خوض صراعات مماثلة لو أنّنا نقدّم مثلاً 50 فيلماً كلّ سنة».
الجمهور المحلي يمثّل تحدياً آخر أمام المخرج التونسي. إقناعه ليس مهمّة سهلة. فهذا المُشاهد صعب جداً، في رأي بن عطية، يُحاسب الأفلام التونسية أكثر ممّا يحاسب أيّ فيلم من أيّ بلد آخر. «هو أصلاً يدخل لمشاهدة الفيلم وليُمسك عليك شيئاً ما. يقارب عملك انطلاقاً من وجهة نظره، لا من وجهة نظرك. النقاشات التي تلي العروض تصبح أحياناً أطول من الفيلم نفسه وتصل إلى ثلاث ساعات. بعض المشاهدين يشعرون بنوع من الحرمان، جراء عدم توافر الـ”جانرات” (الأنواع) في السينما التونسية. آخرون يتهموننا بأننا نناقش الموضوعات نفسها. الكلام عينه عن الحمّامات. يقال إنّ أفلامنا عن الحمّامات، علماً أنّ هذا غير صحيح».
يحضر سؤال “ما الذي تغّير؟”في معظم ما يطرحه السينمائيون التونسيون
كتابة التاريخ
التقيتُ علاء الدين سليم للمرة الأولى في قصر المؤتمرات بتونس، فور الانتهاء من عرض فيلمه «آخر واحد فينا» الذي كان مخصّصاً للصحافة. عرضٌ حاشد تلاه لقاء مرتجل مع الصحافة نوقشت فيه خيارات المخرج بطريقة عبثية تدعو إلى القلق على مستقبل الصحافة في تونس. الفيلم سبقه صيته، بعد فوزه بجائزة «أسد المستقبل» في مهرجان البندقية. سليم اكتشف السينما في التاسعة عشرة. هو الآن في الثالثة والثلاثين. بخجل يتلوّن به وجهه، يعترف أنّه لم يتعرّض لصدمة عند اكتشافها. هذا المعجب بالتايلاندي أبيشاتبونغ فيراسيتاكول والأميركي فينسنت غالو، لم يعمل مساعد مخرج لإيمانه أنّ هذا الفنّ تتعلّمه وأنت تصنع أفلامك لا أفلام الآخرين، وهذا مبدأ يمكن نقاشه. مع بعض الأصدقاء، أسسّ سليم شركة إنتاج، وخاض تجربة إتمام أول فيلم روائي طويل له يُعدّ خروجاً صارخاً على الصيغ المألوفة في السينما التونسية.
«لم يُكتب السيناريو وفق الأصول المهنية والفنية المتّبعة، لم يتعدَّ عدد صفحاته الـ18 صفحة. صحيح أنّنا لم نحظَ بموازنة ضخمة، إلا أنّ هذا لم ينعكس على الإنتاج. فجميع التقنيين في الفيلم أصحاب خبرة، من مهندس الصوت إلى مدير التصوير. ما عوّض عن قلة الإمكانات، هو الغضب الذي أمسك بنا. شعرنا أنّها اللحظة المناسبة للانتقال إلى الطويل، بعدما ضقنا ذرعاً من الوضع الذي نحن فيه. كانت هذه أول تجربة صناعة فيلم لـ95 في المئة من الذين عملوا معنا. أجرينا العديد من التعديلات خلال التصوير. لم نكن نعرف مثلاً كيف سنختم. أحب العمل على هذا النحو. إنه خياري. كأنّك ترسم أوتوستراد ثم تقود عبره سيارتك على نحو متعرّج. لم نخرج عنه، ولكن كان يحق لنا المشي داخله كيفما نريد».
تصوير الفيلم في الغابات البعيدة من أيّ حضارة معاصرة، فرض علينا بعض الحديث عن علاقة سليم بالطبيعة. يقول: «كانت علاقتي متينة جداً بالمدينة، خصوصاً تونس في الليل. لكنّ التغيير الكبير الذي طرأ عليها جعلني أشعر بأنه لم يعد في إمكاني العيش فيها كما في السابق. حاولتُ الهروب، فكان سبيلي إلى الطبيعة. لي ذكريات كثيرة تعود إلى الطفولة، حين أمضيتُ وقتي في المنزل الريفي لأهل أمي. كنا نقطن في منطقة سياحية، ولهذا السبب لم نكن نقصد البحر في الصيف، بل الجبل. المدينة اليوم بتُّ أتقيّؤها، وأكتشف احتمالات العيش في أماكن أخرى. الأرض التونسية في هذا الفيلم هي للعبور فحسب. أعتقدُ أنني أصفّي هنا مشكلتي مع بلدي الآن. كنا قبل نعلم جيداً مَن هو عدونا، اليوم لم تعد الأمور واضحة».
على سيرة القدامى، أطرح على سليم ما طرحته على زميله عطية لعلّي أحصل على جواب مختلف: هل انتهى زمن سينمائيي الجيل السابق؟ بدهاء شديد، التقط المخرج السؤال من الآخر، ليردّ على ما يضمره من فخّ: «لا أعتقد أنّ على كبار السنّ التوقف عن العمل. طالما أنّه لديهم اقتراحات مميزة، فمرحباً بهم. لا يحق لي إقصاءهم. كلّ واحد ربي يعينه. ولكن يجب أن نحصل على دعم رسمي مادي. فالسينما تكتب التاريخ. ما يحصل الآن هو عكس ذلك. ثمة تجاهل لسينمائيين شباب واعدين. الجمهور التونسي منفتح، المشكلة ليست معه، بل مع مَن يوجّهون أفكاره ويوظّفون بعض الأعمال الفنية للوصول إلى أهداف معينة».
ثمة َمن يتح ّمس لتمويل أعمالنا ليشاهد صورة معينة عنا رسمها ّفي مخّيلته
المصالحة والالتزام
أعرف مهدي حميلي من الـ«فايسبوك». هو أصغر المخرجين الثلاثة الذين قابلتهم. لم يتجاوز الثلاثين بعد. يحب كن لوتش وجون كاسافيتيس وفيليب غاريل. عندما التقيته وجهاً لوجه، شرح لي صعوبة أن تقول كلّ شيء في الفيلم الأول. كتب حميلي «تالا مون أمور» في 2012 وصوّره في 2014، وجرى عرضه الأول في «أيام قرطاج» العام الماضي. تطلّب البحث عن التمويل (150 ألف يورو) بعض الوقت. أراد فيلماً من دون الكليشيهات المعتادة. «ما دفعني إلى إنجاز الفيلم هو وجود عدد من الأعمال التي ابتعدت تماماً عن الحقيقة. وأنا أردتُ مصالحة التوانسة مع أنفسهم».
بصريح العبارة، قال: «قُدّمت أفلامٌ فاشلةٌ في الأعوام الأخيرة. أحبّ نوري بوزيد، ولكن فيلمه “ما نموتش” لا يعبّر البتة عمّا حدث في تونس». ويعتبر حميلي التمويل الأجنبي مشكلة، لأن بلداً مموّلاً كفرنسا يعطيك المال ليرى صورة معيّنة رسمها في مخيّلته عنك. «لستُ ضدّ التمويل الأجنبي، ولكن ضدّ الذي يفرض شروطه عليك. فرنسا تدعم ما يُعرَف بـ”سينما الجنوب”. هي تمنح المال لأشخاص معيّنين. ثمة جمهور للسينما التونسية، ولكن يحتاج إلى أن يرى شيئاً يعبّر عنه. ليس “زيزو” لفريد بو غدير النموذج الأفضل. صحيح أنّه فيلمٌ مسلٍ، ولكن لا يمكنك أن تتسلّى بموت البشر…الغرب يريد أفلاماً عن الشباب والتغيير، فيما أنا أرى أنّ لا شيء تغيّر في واقعنا، خصوصاً في الأحياء الداخلية. فتالا، حيث صوّرتُ، أفقر مدينة في تونس. أنت كمخرج، لديك مسؤولية تاريخية ولا تستطيع الغشّ. لو كذّبتُ، لَحظيَ عملي بانتشار أوسع. كنت أنانياً جداً وأنا أنجزه، أردتُ أن أحيّي الأبطال الحقيقيين، ولكن بلا غشّ ومن دون أن أُفقدهم البراءة. فيلمي عن الالتزام، يطرح أسئلة حول أبعد نقطة يمكن بلوغها في التزامنا. هو أيضاً فيلم عن الإحساس بالمرارة والخيبة».
بقلم: هوفيك حبيشان
نعود إلى الماضي ونطلّ على الأعوام الذهبية في عمر السينما المصرية