نسترجع هذا اللقاء من أرشيف ڤوغ العربيّة، هو لقاء جمعنا مع الدكتور محمد عبد الوهاب الذي غيّبه الموت هذا الأسبوع إثر أزمة صحّية. يسترجع فيه الزوج المحب ذكرى زوجته النجمة الراحلة فاتن حمامة.
نتذكر «سيدة الشاشة العربية» فاتن حمامة، ونستعين بزوجها الدكتور محمد عبد الوهاب للتعبير عن حنيننا إلى تألقها. «نجمة القرن» كما لقّبت، ومازالت حاضرة في ذاكرتنا، فكيف ننسى الصوت الذي لا يشبه غيره والإحساس الصادق الذي تعبّر عنه قسمات الوجه الجميل؟
كانت امرأة قوية، تعرف ما تريد وتخطط له. برغم أنها عرفت الشهرة طفلة إلا أن الأضواء والبريق لم تشتّت تركيزها، وما أبهرتها أو أٌغرتها إلى حد أن تتيه عن درب الفن الراقي. حافظت على نفسها ملصقة قدميها بالأرض محلّقة بأدوارها، وبنت هوية الممثلة الجدية التي أحسنت اختيار أدوارها، وسعت في مرحلة متقدّمة إلى تقديم أدوار مؤثرة اجتماعياً، أدوار هي بمثابة صرخات تواجه الظلم الذي تعرّضت وما زالت تتعرّض له المرأة العربية. ولعلّ خطواتها الأولى على طريق الفن وهي طفلة خير دليل على موهبة موروثة ولدت متمتعةً بها ودفعت إلى بروزها كاريزما ينطق بها الوجه الآسر. سألنا زوج الراحلة الطبيب محمد عبد الوهاب عن رأيه بسرّ كاريزما فاتن حمامة منذ دورها السينمائي الأول إلى دورها التلفزيوني الأخير، فرأى أن «عناصر عديدة تشرح أسباب هذه الكاريزما منها الجمال الهادئ والصوت الرخيم الدافئ والأناقة الراقية والذكاء الفطري إلى جانب الذكاء المكتسب من الحياة وتجاربها».
ولدت حمامة في 27 مايو عام 1931، وكان والدها يتنبأ لها بمستقبل ناجح ويشعر بموهبتها حتى أنه عرض صورتها وهي في السادسة في مسابقة لانتخاب أجمل طفل، فحصلت فاتن على اللقب. وكانت ترافقه إلى عرض فيلم للممثلة والمنتجة اللبنانية آسيا داغر حين تمنت بينها وبين نفسها أن تكون هي النجمة التي يصفق لها الجمهور. لقد أبهرتها آسيا داغر، “تلك السيدة التي أفنت حياتها في خدمة السينما”، كما عبّرت حمامة في إحدى المقابلات، والتي قدّمت للسينما المصرية أهم المخرجين أمثال هنري بركات وحسن الإمام وحسن الصيفي وكمال الشيخ وعز الدين ذو الفقار زوج فاتن حمامة الأول (ارتبطت به عام 1947) ووالد ابنتها نادية.
عرفت فاتن الشهرة وهي طفلة في التاسعة، عبر دور “أنيسة” في فيلم “يوم سعيد”، إلى جانب محمد عبد الوهاب ومن إخراج محمد كريم، ثم كرّت سبحة الأفلام.
في أربعينيات القرن العشرين، أول عقود العصر الذهبي للسينما المصرية شاركت فاتن الطفلة ثم المراهقة ثم الصبية في اثنين وعشرين فيلماً. كبرت في ظلال النجومية، لكنها ارتقت مع شهرتها، وكأن رقيّها كان دوماً يتجاوز فكرة الشهرة والأضواء. برغم اعترافها بأنها في مرحلة ما شعرت بالغرور حين اكتشفت أنّ أهمّ الأدوار تعرض عليها أولاً. فما الذي يسمح بذلك، بهذه الحصانة أمام الشهرة؟ سألنا زوجها طبيب الأشعة المعروف الذي عاشت معه أعوام النضج في أجواء من الألفة والانسجام. «سبب هذه الحصانة أمام الشهرة هو إحساس فاتن بقيمة الفن ونبله وأهمية دوره، إلى جانب التزامها الفني والأدبي الذي جعل الشهرة تأتي في المرتبة الثانية». وبرغم انشغالها الدائم بتصوير الأدوار العديدة التي كانت تعرض عليها قبل أن تعرض على غيرها من النجمات، تسنّى لفاتن حمامة أن تحقّق هذا التطّور الفكري الذي جعلها تجيد اختيار الأدوار وتسعى إلى أن ترسم لنفسها خطاً مختلفاً ثم تبحث لاحقاً، خصوصاً في مرحلة النضج الفني والإنساني، إلى تقديم أدوار مؤثرة. يعود ذلك إلى «ذكائها الفطري»، يقول عبد الوهاب، و«إيمانها بأن الفن قادر على التغيير وعلى بثّ رسائل مهمة دفعها إلى تبنّي القضايا التي تهمّ المرأة من أجل تحقيق العدالة الأسرية والاجتماعية، فهي كانت من دون أي شك مؤمنة بقضايا المرأة». فيلم “أريد حلاً” شجع على إقرار قانون حقّ الخلع بعد مرور أربعة عشر عاماً على تقديمه، وفيلم “لا عزاء للسيدات” يشير إلى ظلم التقاليد. هذه الأفلام التي تطرح قضايا اجتماعية مهمة يفضّلها محمد عبد الوهاب بين أفلام زوجته الراحلة. «أفضّل أفلام مرحلة النضج في مسيرة فاتن. أحبّ مشاهدة “أريد حلاً” و”يوم حلو يوم مرّ” و”لا عزاء للسيدات”. أما فاتن، فكانت تحبّ “الحرام” و”دعاء الكروان”. وكنا من باب الترفيه مستسلميْن للحنين إلى الماضي نشاهد أفلامها القديمة. لكن الماضي لم يشغل فاتن حمامة ولم يحرّكها الحنين إليه الذي يصل إلى حد التعلّق به والعيش في الذكريات. اعتبرته مرحلة زمنية مضت وأصبحت تاريخاً، واهتمّت بالحاضر والمستقبل».
“كنا من باب الترفيه وللتلّصص على الماضي نشاهد أفلام فاتن القديمة”
تألقت موهبة فاتن حمامة في زمن ولادة النجمات، وفي العصر الذهبي للسينما المصرية التي ساهمت في تشكيل ذاكرة عربية مشتركة. وقد منحها النقاد وهي في عز شبابها لقب «سيدة الشاشة العربية». في تلك المرحلة بدأ الجمهور يتطلّع إلى الممثلات على أساس أنهن أيقونات الشهرة والأناقة والجمال ورفيقات أحلام أجيال واكبت ظاهرة النجومية الجديدة. وكانت فاتن حمامة تحديداً أيقونة السينما والأناقة أيضاً، فظهرت في أجمل الإطلالات في أفلام الأبيض والأسود. مَن لا يذكر أناقة فساتينها في كلّ من أفلامها، في فيلم “لا أنام” على سبيل المثال؟ هي أناقة بسيطة تبرز رقتها برقيّ وتواضع. وقد أصبحت هذه الأزياء جزءاً من المشاهد التي بقيت لنا من أفلام أحببناها، نذكر القميص الأحمر والبنطلون الأسود في مشاهد من “إمبراطورية ميم” والقميص المخطط بالأبيض والأسود في “حكاية وراء كل باب”. وكانت حمامة قد أكدت في مقابلات أجريت معها مشاركتها في اختيار أزياء أفلامها وتدقيقها في التفاصيل كلّها منذ “كتابة العمل الفني وصولاً إلى الموسيقى والديكور والأزياء”.
النشأة أمام الكاميرا علّمتها تفاصيل العمل السينمائي والتلفزيوني، هي التي قدّمت خلال ستين عاماً نحو مئة فيلم، واختيرت أكثر من عشرة من أفلامها بين الأفلام الأكثر تأثيراً في تاريخ السينما المصرية. نسأل زوجها إذا كانت «سيدة الشاشة العربية» تكرّس الكثير من وقتها للاهتمام بمظهرها وباختيار أزيائها؟ «نعم، كانت مثل أي امرأة تهتمّ بمظهرها، ويضيف إلى ذلك طبيعة مهنتها التي تحتمّ عليها أن تظهر في أبهى حلّة. وكانت فاتن تحسن اختيار الألوان وتنسيقها، كما كانت أناقتها تتسم بالرقة والبساطة الجميلة». هذه الأناقة انسحبت على علاقتها بالجماليات، فكانت تحبّ الديكور حتى أن التصميم الداخلي كان إحدى هواياتها، كما يؤكد عبد الوهاب. «كان التصميم المنزلي إحدى هواياتها، وبرغم أن التمثيل مهنتها التي منحتها حياتها لكنه بقي أيضاً الهواية الأساسية. وكانت فاتن تحب أيضاً الموسيقى الشرقية التي نشأت على الاستماع إليها، وتحديداً موسيقى سيد درويش وعبد الوهاب وأغاني أم كلثوم ووديع الصافي وفيروز. كما أحبت الموسيقى الغربية والكلاسيكية. أما الممثلتان اللتان أحبت أداءهما، فكانتا كاثرين هيبورن وإنغريد برغمان».
كانت كلماتها لطيفة كصوتها وحضورها وروحها، «أحببت كلمة حبّ قبل أن أفهم معناها»، قالت حمامة خلال حوار صحافي وصفت فيه أيضاً علاقتها بزوجها الأول المخرج ذو الفقار بعلاقة التلميذة بأستاذها، وأضافت أنها اكتشفت الحبّ عند لقائها بعمر الشريف الذي ارتبطت به عام 1955 لتنجب منه ابنها طارق عام 1957 وتنفصل عنه عام 1974. وفي منتصف السبعينيات ارتبطت برفيق أيامها الدكتور محمد عبد الوهاب الذي عاشت معه حتى اللحظة الأخير حياة هادئة، يجمعهما حبّ واحترام وتفاهم وانسجام وألفة وهناء. تكاد تحلّ الذكرى الثالثة لغيابها وما زال حضورها واضحاً في حياة الطبيب الذي وصفته النجمة «بالإنساني»، وما زالت كلماته تنبض بعشقه لدور البطولة الذي لعبته فاتن حمامة في حياته.
نشر هذا المقال للمرّة الأولى في عدد شهر ديسمبر 2017 من ڤوغ العربيّة.
نجمات في الشمس… حوار يجمع يسرا ونيللي كريم ودرة داخل عدد شهر نوفمبر