تقدم الشقيقات من عائلة آل رشيد صورةً مثيرة للتأمل عن مستقبل السعودية الذي يعتقدن أن النساء سيقدنه يوماً ما
نشر للمرّة الأولى داخل عدد شهر يونيو 2018
رغم نشأتهن في بيئة واسعة الثراء، إلا أن الشقيقات آل رشيد لسن أبداً ممن يعتمدن على ثراء عائلتهن. وبجانب ما يتمتعن به من امتيازات عديدة بلا شك، فإنهن يعشن حياة يغمرها الحب، ويحظين بالدعم والاستقلالية كذلك. وهن جميعاً يدرن أنشطتهن التجارية الخاصة، والتي تُعنى بمجال الإبداع – من أولى شركات التصميم الداخلي التي تؤسسها امرأة في السعودية، إلى إنشاء أكبر معهد للفنون بالرياض، فضلاً عن إطلاق علامة لتصميم القفاطين، وتشييد صالة فنية في لندن.
تجلس ثلاث من الشقيقات في دائرة، يأكلن الحلوى التي قدمتها لهن شقيقتهن الكبرى هناء التي تضحك قائلةً: “لا أستطيع أن أتحرّك من دون الشوكولاته!”. فيما تبدو بجلاء العلاقة القوية التي تجمع بينهن، حيث تتدخل هناء، ووفاء، ومشاعل في الحوار الدائر فقط لتدعم كلٌ منهن رأي الأخرى أو تثني عليه، مع إحساس بالفخر بما حققته كل منهن.
لقد أسس والدُهن، عبد الله رشيد الرشيد، مجموعةَ الرشيد التي تملك حصصاً ضخمة في شركات وطنية وعالمية تعمل في مجالات الإنشاءات، والهندسة، والعقارات، والتكنولوجيا. ونظراً لنشأتهن في عائلة سعودية مسلمة ومعتدلة تعيش في أكثر الدول تمييزاً بين الجنسين في العالم، فقد رسخ الوالدان في نفوس أبنائهما فكرة أنهم “مختلفون”. وتوضح وفاء: “لم يرغبا في تصنيف الناس على أساس ’محافظ‘، لذا قالا لنا إننا مختلفون لأننا نسافر كثيراً ولدينا تجارب تختلف عن أقراننا. وعلّمانا ليس فقط أن نظل دائماً على اتصال بالواقع، بل وأن نحلم بأن نكون أفضل مما نحن عليه. وقدما لنا دعماً هائلاً، ما جعلنا أكثر قوة أيضاً”. وتوافق مشاعل على كلامها بإيماءة برأسها، وتقول: “غرست والدتنا فينا مشاعر الاستقلالية فيما ألهمنا والدنا أن نواصل سعينا ونبذل المزيد من الجهد”.
يعدّ الأشقاءُ الستة –وهم: هناء، وسناء، ووفاء، وياسمين، ومشاعل، وأخوهم رشيد (الذي تشير إليه شقيقاته المحبات بمودة باسم “الولد”)، والذين نشأوا في مدينة الخُبَر الواقعة في المنطقة الشرقية المطلّة على الخليج العربي- خيرَ مَن يمثل أبناء السعودية كدولة حديثة، إذ يمكننا من خلالهم أن نلقي نظرة على مستقبل المملكة حين تتحقق الإصلاحات الطموحة التي دعا إليها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود –والمعروفة باسم رؤية 2030- وتتمكن ما يقرب من 14 مليون امرأة من تحقيق كل ما يطمحن إليه في الحياة مع احترام ثقافة الدولة والاحتفاء بها؛ دولة تتيح لجميع سكانها الإسهام في مسار التنمية.
مع هذه التغييرات التي لا تشمل فقط الإصلاحات الثقافية مثل رفع الحظر عن قيادة النساء للسيارات وتخفيف القيود على ملابسهن والولاية عليهن، بل وتحقيق التنوع الاقتصادي ومكافحة للفساد، يقدم آل الرشيد نموذجاً يمكن أن نستدل من خلاله على ما ستشهده السعودية في السنوات المقبلة.
تشعر الشقيقات بالتفاؤل إزاء مستقبل السعودية تحت قيادة ولي العهد؛ وتتبدى سعادتهن وحماستهن عبر عبارات الأمل والارتياح التي يقلنها بتحفظ جليل. تقول وفاء: “منذ عشر سنوات، عندما كان يسألني الناس ما الذي تحتاجه البلد كي تتغير، كنت أجيب: معجزة”. وتستطرد قائلةً: “اليوم، أؤمن بأن المعجزات يمكن أن تتحقق. ولو كان أحدهم قد قال لي بأنه سيحدث…”، هنا يتهدج صوتها، وتصمت الشقيقات في محاولة لمغالبة مشاعرهن. وتؤيد هناء رأيها قائلةً: “لم أتخيل هذا قط. نحن نعيش أحداثاً تاريخياً. ونحن فخورات للغاية بذلك، فالدولة بأسرها تحثّ على المزيد وترغب في المزيد، ونتوق حقاً إلى التغيير. وكنا دائماً نظن أن ذلك سيحدث في زمن أطفالنا أو أحفادنا. بيد أننا كنا نعلم أن التغيير قادم ولكنه كان بطيئاً للغاية. ونحن سعيدات بأنه يحدث في حياتنا، فقد كان حلماً بعيد المنال بالنسبة لنا، وكان يقف أمام تحقيقه كثيرٌ من العقبات مثل الثقافة الاجتماعية”. ولعل هذه التغييرات الجذرية في البلاد قد أتت كإحدى المفاجآت التي قد تحدث بين عشيّة وضحاها بالنسبة إلى سائر دول العالم، ولكن في السعودية، كان كل مواطن يستعد لها منذ سنوات. تقول وفاء: “كانوا يعدّون لها خلف الأبواب المغلقة، وفي اللحظة التي أُعلنت فيها التغييرات، كان الكل مستعداً. وفجأة، تم افتتاح معارض للفنون ومطاعم”. وتضيف هناء: “وكان كل ما يتطلبه هذا التغيير هو الإرادة السياسية”.
“نحن فخورات للغاية بما يحدث، فالدولة بأسرها تحثّ على المزيد وترغب في المزيد، ونتوق حقاً إلى التغيير”
حقّقت الدكتورة وفاء الرشيد، على مدى أعوامها الثمانية والأربعين، أهدافاً أثرت سيرتها الذاتية المبهرة. فقد حصلت على درجة الدكتوراه في العلاقات الدولية والدبلوماسية، ودرست في عدة معاهد وجامعات مرموقة منها جامعة هارفارد، ومعهد نيويورك للتمويل، وكلية لندن للاقتصاد، وجامعة أوكسفورد. وتُولي وفاء لتمكين المرأة عناية كبرى في مجال عملها المتشعّب، منذ عملها في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لمدة تسع سنوات حتى منصبها كمساعدة في منظمة اليونسكو بباريس. وأثناء عملها في المجال المصرفي، أسست وفاء أولَ قسم استثماري للنساء، في المصرف الذي كان يحمل اسم البنك السعودي الأمريكي. وتقول: “كنت دوماً من المناصِرات لحقوق المرأة، وأعمل على الارتقاء بوضعها”. وأحدث ما قامت به في هذا الصدد هو إنشاء معهد رافلز للتصميم في الرياض، والذي أسسته بالاشتراك مع أفراد عائلتها كما أنشأت مؤسسة رافلز التعليمية. وتقول وفاء بنبرات قوية تلائم مظهرها الجاد: “عندما بلغت الأربعين، قررت أن أكون مديرة نفسي. لم أشأ أن أكون ابنة المدير، كنت أريد أن أثبت للجميع أنني أستحقّ هذا المنصب”.
والمدرسة هي أول معهدٍ أكاديميّ لتعليم التصميم في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث يمكن للنساء أن يدرسن أيضاً تصميم الأزياء والمجوهرات، ووسائل التواصل البصري، وكذلك تسويق الأزياء والمتاجرة بها، والديكور الداخلي، وتصميم الألعاب. وفي حين تؤمن وفاء أنَّه كان مقدَّراً لها دخول مجالٍ إبداعي، إلا أنَّ إطلاق مشروعٍ يُركِّز على التصميم في السعودية برهن أنه أمرٌ ليس بالسهل، تقول: “كان الاعتقاد السائد أنَّ التصميم هواية وليس مهنة، ولكن مع افتتاح رافلز، بدأ الناس يدركون أنه [أي التصميم] يمكن أن يدرَّ الأموال؛ وأنه بالإمكان الحصول على شهادة في الموضة أو التصميم الغرافيكي”.
الأخت الكبرى هناء هي مَن تعتني ببقية أخواتها، فتجلب العديد من الأوشحة وتضبطها استعداداً لجلسة التصوير، ثمَّ توزِّع الحلوى بعد ذلك. حديثها عذبٌ، وهي شديدة الفصاحة، وتراعي للغاية شعور الآخرين، وفي حين أنَّ الأخوات لا يحبّذن الحديث عن علاقتهن بالحجاب، إلا أنَّ هناء تعتز بارتداء الحجاب لأنها تفخر بانتمائها إلى السعودية، ولأنه يُضفي لمسةً أنثوية. تقول مبتسمةً: “جميع مَن هنَّ في عمري يجب أن يظهرن بمظهر لائق”. أسرتها وبلدها يعنيان لها الكثير، وتأخذ وقتها للتفكير بإجاباتها؛ فلا تتسرع أبداً. وبصفتها مؤسِّسة صالات كوليكشن وبعدما أطلقت محترَف التصميم الداخلي الخاص بها منذ ثلاثة عقود من الزمن، فقد شاركت هناء التي تبلغ الآن 51 عاماً في مشاريع إقليمية ودولية لا تعدُّ ولا تحصى. أمَّا بالنسبة للتغيرات التي تنتظرها البلاد، تأمل أن تحصل المرأة السعودية على ما تستحقه وما كانت تعمل على تحقيقه: “يسرُّني أننا جزءٌ من هذا. أتمنى أن نجني ثمار انتظارنا طوال تلك السنوات”.
بوجهها المرِح وتسريحة شعرها المميزة ونبرتها الحيادية، تفرض مشاعل نفسها بوصفها الابنة عالمية الأفق للعائلة؛ إذ تبلغ 31 عاماً، وهي أصغر بعقدٍ كامل من أقرب شقيقة لها، وخاضت تجاربها مع العالم بشكل مختلف. بدايةً، التحقت بمدرسة داخلية في أوروبا في حين أن إخوتها نشأوا في مدينة الخُبر والتحقوا بمدارس حكومية. وهي أيضاً تمتلك نفس النزعة الريادية، وقد عملت في مجالات شملت: التمويل، والنشر، والنفط والغاز، والصيرفة، والموضة. وحالياً تمتلك صالة هايست غاليري في لندن، وهي شريكة صديقتها إيكاترينا ماليشيڤا في علامة إيكات سوتس، وهي علامة متخصِّصة في إنتاج بذلات الـ”كات سوت” الضيقة اللصيقة على الجسم (كانت مشاعل وصيفة ماليشيڤا في حفل زفافها على أمير هانوڤر إرنست أوغست الخامس الذي أقيم العام الفائت). وفي تلك الصالة، تشعر مشاعل أخيراً بالرضى وتعمل الآن على جلب معرضها الأحدث، بعنوان بوليفوني، إلى دبي خلال شهر يناير القادم. تقول: “استغرق الأمر وقتاً طويلاً لأتحلَّى بالشجاعة الكافية للقيام بما كنتُ أحبُّه بعيداً عن قيود القوالب المهنية التقليدية”، وتضيف: “ربما أمتلك مهاراتٍ في مجالات أخرى ولكنها هبة وامتياز حقيقيان أن يحصل المرء على فرصة الاستمتاع بما يقوم به كلَّ يوم”.
وفي حين أنَّ التغييرات الاجتماعية التي تطرأ على المملكة هائلة، إلا أنَّ التحديّات التي تواجه المرأة ما تزال كثيرة. تقول مشاعل: “إنها طبقة أخرى من الاضطهاد”، وتضيف: “علينا إثبات جدارتنا في بيئة أقسى بكثير”. إذ يتوجّب على المرأة أن تكون جيدة ضعفيّ الرجل ليُنظَر إليها على أنها مساوية له – وتردف بالقول: “وهو أمرٌ رائعٌ بفضل جيل النساء المتعلِّمات”. مع إشارة وفاء إلى أنَّ 68% من حملة الشهادات العليا في البلاد هنَّ من النساء، إلا أنَّه ما يزال عليهن المشاركة في قيادة عجلة التغيير.
تقول وفاء: “من أهم أولويات الحكومة وضع النساء في الصدارة”. وتضيف: “النساء اللواتي برزن إلى الآن فعلن ذلك بجهودهن الشخصية، فقد عملن بجد، إلا أنَّ الأمر سيستغرق جيلاً. ما يزال هناك الآلاف من النساء اللواتي ينبغي تقديرهن؛ الآلاف منهن يمكن أن يتبوأن المقاعد الأولى، لكن من حُسن حظنا أننا نعيش في زمنٍ تدرك فيه القيادة أننا بحاجةٍ إلى المزيد من النساء في الحكومة وفي قطاع الأعمال”.
وخلال ذاك النضال، كان هناك دوماً مخرجٌ. تقول وفاء: “كان عليكِ فقط أن تجدي المخرج المناسب لكِ. لم تكن الأبواب موصدة حقاً، وإلا لما كنَّا في المكان الذي نحن فيه اليوم. بعض النساء استسلمن، لقد كنَّ متشائمات وتخلّين عن كلِّ شيءٍ ببساطة، في حين كانت الأخريات عاقدات العزم ولم يتركن أي بابٍ لم يقرعنه إلى أن وجدن الباب الذي سيقود إلى الاعتراف بجهودهن وتقديرها. نحن نمكِّن أنفسنا ونبني نظاماً يناسبنا. ما زلنا شابات ونتمنَّى تحقيق المزيد، وبالمعدل الذي نمضي به، أنا على يقينن بأننا سنصل”. وتشير إلى أنَّ النساء يصبحن جزءاً هاماً ومؤثراً في اقتصاد البلد، مع كثير من الأمهات العازبات [الأرامل والمطلقات] وأكثر من 20% من الأسُر تديرها النساء مالياً. تقول: “الإحساس الذي تشعرين به الآن هو السعادة والتطلع إلى أمرٍ لم نعتقد يوماً أنه سيحصل”.
حان وقت المغادرة – قَدِمت مشاعل بالطائرة من لندن وأختاها الأكبر سناً قلقتان عليها، وهي تحترم مشاعرهما ولكن من الواضح أنهنَّ يستمتعن برفقة بعضهن البعض ويسارعن إلى مائدة العشاء فيما بعد. تُرى، ما المكان الراقي من فئة الخمسة نجوم الذي ستتناول فيه بنات الرشيد الطعام الليلة؟ يضحكن. إنه مطعم SALT (أي: المِلح، وهو مطعم شعبي مقام على شاحنة)، وذلك على عكس الصورة النمطية المأخوذة عن المرأة السعودية.
سبق عالمي.. سمو الأميرة هيفاء بنت عبد الله آل سعود تزيِّن غلاف عدد يونيو من ڤوغ العربية