تمسّك المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد بشغفه الأول السينما ونجح في تقديم أفلام قطفت جوائز عالمية. من المهرجانات الأوروبية والعالمية الأشد عراقة وصل هاني إلى هوليوود ليخرج فيلماً بعنوانThe Mountain Between Us “الجبل بيننا” يجمع بين النجمة البريطانية كايت ونسليت والممثل البريطاني المبدع إدريس إلبا وننتظر عرضه في أكتوبر المقبل.
في بداية ثمانينيات القرن الماضي هاجر هاني أبو أسعد، الذي ولد في الناصرة، إلى هولندا حيث درس الديناميكا الهوائية Aerodynamics وعمل في هندسة الطيران، لكنه عاد إلى شغفه الأول السينما. يعترف هاني بأنه، مثل أي شخص آخر، يحبّ أن يقول إن ثمة حدثاً مهماً غيّر مساره المهني، لكن الأمور بدت بالنسبة إليه واضحة ومنطقية. “العامل الأساسي الذي دفعني إلى تغيير مهنتي هو أن الهندسة التي درستها تتطلّب خيالاً واسعاً من غيره لا يمكن تصّور الفيزياء والرياضيات، لكن هذا الخيال نتيجته محددة، واحد زائد واحد يساوي اثنين أينما ذهبت، في أي بلد في العالم المفاهيم هي نفسها لا تتبدّل. لكن الإبداع كما أفهمه نتيجته ليست محدّدة وواضحة وهو في نظري مبني على التواصل المباشر مع الإنسان. هذا النوع من الإبداع يلائمني أكثر، فهو يسمح لي بالتواصل مع نفسي ومع الآخرين”.
اكتشاف العالم من خلال السينما أثر فيّ
ولدت علاقة هاني أبو أسعد بالصورة منذ كان في سنّ صغيرة. “عندما كنت في الخامسة لم نملك تلفزيوناً في البيت، ولقائي الأول بالشاشة ورسومها وصورها المتحرّكة جرى في السينما. أدهشتني الصور الملوّنة لأشخاص يتحرّكون. يمكن أن أقول إنني صُعقت لأنني لم أستوعب أن هذه المشاهد لا تحصل في الحقيقة. وكان الفيلم الأول الذي شاهدته وما زلت أذكره فيلم “وسترن” أميركي، يتخلّل أحداثه إطلاق رصاص. خفت حين ارتفع صوت إطلاق النار. خفت أيضاً من الأحصنة وأحسست بأنها ستهاجمني، وحين خرجت من قاعة السينما بحثت عنها وعن النهر الذي رأيته في الفيلم، وليس ثمة نهر في الناصرة. ما أحسست به غيّرني منذ تجربتي الأولى. تعلّقت بالسينما. وفي الناصرة كان هناك صالة سينما واحدة، وكنا يوم الأحد نلتقي هناك لأن البطاقة الواحدة في ذلك اليوم من الأسبوع تسمح لنا بحضور فيلمين. كنا نتجمّع ونشكّل جمهوراً من الأطفال بين الخامسة والرابعة عشرة حتى يبلغ عدد رواد السينما الألفين وصالتها تتسع لخمسمئة كرسي. وكانت تدور معارك على كرسي السينما التي نقصدها لاكتشاف مصر ولبنان وتركيا والصين وأميركا وأوروبا. اكتشاف العالم عبر السينما أثر فيّ. لم أزر المتاحف مع أهلي كي أتذوّق الفن التشكيلي، ومكتبتنا في البيت كانت صغيرة، فلم تكن الكتب الموجودة تسمح لي بأن أطوّر معارفي وخيالي وتواصلي مع عالم آخر. السينما كانت وسيلتي السهلة والمتاحة للخروج من عالمي إلى العالم الواسع”.
قضية الفن
الحاجة إلى التواصل حرّكت أبو أسعد والسبب كما يشرحه هو أنّ “الإنسان المقموع، من الدولة أو النظام أو الاحتلال أو الأهل، يحتاج إلى التعبير عن مخاوفه. وقضية الفلسطيني واضحة. في السبعينيات والثمانينيات حين بدأت أعي العالم حولي كان الكفاح المسلّح قد تحوّل نضالاً بالقلم والفكر والثقافة والإبداع والسياسة والدبلوماسية. فكان اتجاهي إلى السينما محاولة لأن أكون جزءاً من هذا النضال وبحثاً عن الاعتراف بقضيتنا كقضية حقّ ووجود. الفن سلاح مهم، كتب غسان كنفاني على سبيل المثال ستبقى محفورة في التاريخ لأنها أعمال أدبية رفيعة وفي الوقت نفسه تخدم قضية واضحة. الفن يلعب دوراً في ترسيخ القضية، خصوصاً عندما يكون أفق الحلّ مسدوداً وحلم التحرير بعيداً، ويسمح بحفظها للأجيال الشابة وأجيال المستقبل”.
هاني أبو أسعد الذي استقرّ في هولندا وجعلته أفلامه مواطناً عالمياً يتمسّك بهويته الفلسطينية في زمن تعدّد الهويات. “أنا متمسّك بهويتي الفلسطينية كهوية عربية وكهوية شعب تعرّض للظلم، هي هوية تحتاج إلى التحرّر من وطأة الاستعمار. نحن في العالم العربي نخضع لخطط غيرنا، وكي نبني كياننا المستقلّ ونحمي كرامتنا يجب أن نتحرر من تخلّفنا وأن نطوّر عقولنا. أرى التمسّك بالهوية تعبيراً عن الشعور بالاحتلال وعن الإيمان بأننا ما زلنا في العالم العربي نجد مَن يسعى إلى الدفاع عن هويته ومبادئه الإنسانية”. وبرغم وضوح مواقفه يقول هاني إنه يتفهّم سعي البعض إلى حماية مسارهم المهني. “أتفهم خوف البعض. أنا أيضاً دفعت الثمن. ربما لو تخلّيت عن مبادئي لكانت أجنحتي أكبر. هناك من يغيّرون أسماءهم وخلفياتهم من أجل الشهرة والانتشار. ونحن لا نعرفهم لأنهم يغيرون أسماءهم، كثر وصلوا إلى النجومية وهم من أصول عربية لكنهم يهربون من جذورهم. نعم أنا متمسّك بهويتي لكنني أسعى إلى أن تفرض أعمالي نفسها، عندها أفرض نفسي على الجميع”.
مفردات هوليوود
لا شك أنّ هاني أبو أسعد فرض نجاحه حتى أوصله إلى هوليوود. فقد رُشح فيلماه “الجنة الآن” و”عمر” لجائزتي أوسكار عن فئة الفيلم الأجنبي، وحصد “الجنة الآن” جائزة غولدن غلوب عام 2006، وعرف النجاح في مهرجان برلين السينمائي الدولي وفي مهرجانات عدة حول العالم. كما نال فيلم “عمر” جائزة لجنة Un Certain Regard في دورة عام 2013 من مهرجان كان السينمائي. “لقد أثبتُّ نفسي في عالم السينما، وهذا الاعتراف بي في المهرجانات العالمية فتح لي الأبواب.
وكنت قد حاولت من قبل ولم أنجح، فلم أكن قد فهمت النظام. الآن تعلّمت مفردات هوليوود حتى اطمأنوا إلى أنني أسعى إلى تقديم مشروع ناجح فنياً وتجارياً. السعي إلى تطوير المهنة أمر أساسي، فلا يمكن أن أعتمد على موهبتي وعلى ما أنجزته منذ عشر سنوات بل أسعى دوماً إلى تطوير لغتي السينمائية. وثمة أيضاً عامل مهم هو الحظ. هذا المشروع ولد في هوليوود منذ سبعة أو أربعة أعوام، وأنفق عليه ثلاثة ملايين دولار، لكنه أوقف. جئت لإنقاذه، ولو لم آت لأوقف نهائياً برغم ما أتفق من أموال”.
يعبّر أبو أسعد عن سعادته بالتجربة الهوليوودية التي يصفها بالمذهلة. “صوّرنا خلال 45 يوماً، وكانت المرة الأولى التي أشعر فيها بأنني مخرج فقط. ميزانية كل من أفلامي السابقة كانت ضئيلة، وكنت مسؤولاً عن جزء من الإنتاج وعن تحديد المواقع ومعظم التفاصيل. الآن تركّزت مسؤوليتي على الإخراج، فكانت التجربة لذيذة”.
هذه التجربة سمحت لي بأن أفهم أسباب قوة هوليوود
هنا يفرض نفسه السؤال عن طبيعة العمل مع ممثلين مشهورين عالمياً. “مهام الإخراج نفسها إذا كان الممثلون مبتدئين أو قديرين مثل كايت وإدريس. فالأمور التي يجب أن أحكم عليها كمخرج هي نفسها: التمثيل والصورة والإضاءة وغيرها. وانا لا افرض رأيي، ولم أفرضه على فريق العمل في أفلامي السابقة. هناك في نظري طريقتان للإخراج، الأولى تقوم على فرض المخرج رؤيته في شكل تام، والثانية تقوم على فكرة أن فريقاً كاملاً مسؤول عن العمل، وهو مؤلّف من مصوّرين وممثلين ومبدعين أصحاب طاقات، يمكن أن أفرض عليهم تنفيذ رؤيتي حرفياً أو أن أفجّر مواهبهم في الاتجاه الذي أريده، وفي نظري هذا ما يقوم به المخرجون المهمون. المخرج هو كابتن السفينة، هو الذي يوجهها، والجميع يجدّف في اتجاه واحد. يجب أن أستمع إلى الجميع، وإذا كانت الآراء تقود إلى الاتجاه الذي اخترته أشعرهم بأنهم جزء من هذا الإبداع، عندها يبدعون أكثر”.
ماذا عن كايت ونسليت تحديداً؟ “أصغي إلى كايت ونسليت، وإذا كانت نظرتها إلى مشهد ما بعيدة عن الاتجاه الذي اخترته أشرح لها رؤيتي للمشهد حتى تقتنع. أوضح لها رؤيتي، وأحدّد إذا كانت فكرتها تخدم هذه الرؤية أو تعيقها. وكايت تعاملت مع أهم المخرجين في العالم، لا يمكن أن أستمع إليها وأوافق على اقتراحها ثم أنسى ما قالته. هذه الحركات تعرفها تماماً. بل أستمع إليها ونتناقش”.
صراع للبقاء وأسئلة أخرى
فيلم The Mountain Between Us “الجبل بيننا” الذي بنيت أحداثه على رواية لتشارلز مارتن تحمل العنوان نفسه صوّر في كندا في مناطق جبلية مكسوة بالثلوج في فانكوفر وفيكتوريا (كولومبيا البريطانية). “كان التصوير صعباً حيث درجة الحرارة تصل إلى أربعين تحت الصفر. تقلّنا سيارة من الفندق في رحلة تستمر خمسين دقيقة إلى مدرج حيث تنتظرنا طائرة هليكوبتر تحملنا إلى موقع. ولا تطير الهليكوبتر إلا حين تكون الرؤية واضحة. في إحدى المرات خلال الطيران تغيّرت الرؤية فجأة، وتلبّدت الغيوم، وكان علينا أن نعود، أحسست بأننا لن نستطيع العودة سالمين، وبأنني سأموت هناك بين الجبال”.
يعرض الفيلم الجديد قصة صراع للبقاء بعد تحطّم طائرة بين الجبال البيضاء ونجاة جرّاح ومصوّرة صحافية كانا على متنها. “ما سرّ الحياة؟ هل يتجاوز دور الإنسان صراع البقاء؟ في نظري هناك ما هو أهم من التمسّك بالحياة، فثمة من يضحي بحياته من أجل تطوير الإنسان ومن أجل المستقبل. هناك الإيمان بواجب خدمة الأهل أو الوطن. فكرة الخدمة هذه بهتت حتى أصبحت مخجلة بالرغم من نبلها. مهم أيضاً أن نتواصل ونتفاهم وأن نفهم أنفسنا وأمور دنيانا. التضحية والتواصل والتفاهم أهم من فكرة صراع البقاء التي يعالجها الفيلم خصوصاً أن تفاصيلها مشوّقة وتحفز على متابعة القصة، لكن ضمن الأحداث تُطرح أسئلة أخرى. أحب هذه الأفلام التي تطرح الأسئلة وتسمح للمشاهد بأن يخوض عبره تجربة لن تقدمها له الحياة العادية”.
تصوّر مشاهد The Mountain Between Us معاناة وصموداً وعناداً إنسانياً في مواجهة قسوة الطبيعة والحاجة إلى الآخر، الذي يصبح وجوده جزءاً من وجودنا، والحاجة إلى الحب أيضاً. الصمود والعناد من مفردات حياة أبطال أفلام هاني أبو أسعد السابقة الذي يختبرون كل يوم عاصفة وجودية. “أفلامي تدور حول ناس عاديين يعيشون ظروفاً غير عادية. أحبّذ الأفلام التي تشير إلى مشكلات الإنسان من دون أن تفقد عنصر المتعة. وأشجّع الجاذبية المسلّية من دون أن يكون الفيلم هابطاً. يهمني ألا يجترّ الفيلم نفسه من الناحية الفنية، وأنا لست ضد الأفلام التي تهتم فقط بالفن واللغة السينمائية، لكنني لا أحبذ فقدان التواصل مع المتلقي، وأهتمّ في الوقت نفسه بطرح أسئلة مهمة”.
تختلف تجربة انتظار عرض الفيلم الهوليوودي عن تجارب الانتظار السابقة. “طاقم التسويق في أفلامي السابقة كان يتألف مني ومن زوجتي، في حين أن فريق التسويق الآن يتألف من نحو خمسين شخصاً. أما موعد عرض الفيلم في الصالات فتاريخه محدّد. لا نحتاج إلى أن نشير إلى تأثير هوليوود في العالم. هذه التجربة سمحت لي بأن أفهم أسباب قوة هوليوود. وما يختلف أيضاً هو أنني لم أهتمّ في السابق بالإيرادات، بل اهتممت بأن تقبل أفلامي في المهرجانات العالمية البارزة. بلغت ميزانية “الجبل بيننا” 45 مليون دولار، ويجب أن تتجاوز الإيرادات هذا المبلغ. هذا ما يهمّ في هوليوود وهو ما ننتظر معرفته”.
يعيش هاني أبو أسعد حيث يصوّر أفلامه التي تنقله من بلد إلى آخر ومن مدينة إلى أخرى. “أحس بأنني وطني في العالم العربي من المحيط إلى الخليج، وفي العالم الثالث أشعر بأنني في البيت. تنتظرني مشاريع كثيرة، ولم أحدّد بعد مكاني المقبل”.
نشر هذا المقل للمرّة الأولى في عدد شهر سبتمبر من ڤوغ العربيّة. بقلم هالة كوثراني.