تحدث عديدٌ من الشخصيات على مدار التاريخ عن قيمة التسامح، وأعربوا عن آرائهم العامة تجاهها. وقد اعتبرها المهاتما غاندي من وجهة نظره حقاً لكل إنسان، ولكن ليس من المستحيل أن يكون الجميع على خطأ. وآمن [غاندي] بأننا إذا ما زرعنا في أنفسنا مبدأ التسامح تجاه آراء الآخرين، سنصل لفهم أكثر صدقاً لآرائنا الخاصة.
بعد الإعلان عن عام الخير (2017) في دولة الإمارات العربية المتحدة، جاء عام زايد (2018) الذي كُرِّسَ لترسيخ قيم الوالد المؤسس لدولة الإمارات، واختتمه المطرب الإماراتي حسين الجسمي بالمشاركة في حفل أعياد الميلاد الذي تقيمه الفاتيكان سنوياً. وعلّق الجسمي على هذا الحفل بقوله: “بالتسامح والتعايش السلمي في العالم نعزز رؤية زايد قيادةً وشعباً”. والآن، يُكَرَّس 2019 عاماً للتسامح في أنحاء الإمارات. وبمناسبة شعار العام الجديد، وضع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، في يناير، ثمانية مبادئ للحكم والحكومة ليسير على نهجها مواطنو الإمارات والمقيمون على أرضها من أنحاء العالم والذين تبلغ نسبتهم 80٪ من عدد السكان. وأعلن سموه ضمن هذه المبادئ: “مجتمعنا يسوده الاحترام ويربط كافة مكوناته التسامح، ويبتعد عن العنصرية والتمييز”، مضيفاً: “لا نقبل بمن يصنفون المجتمعات أو يثيرون الكراهية. مجتمع يتميز بالانضباط والالتزام في وعوده ومواعيده وعهوده، متواضعون عند النجاح، مثابرون عند التحديات، ناشرون للخير، منفتحون على الجميع”.
نُشر للمرة الأولى على صفحات عدد فبراير 2019 من ڤوغ العربية.
ويستهلّ عام التسامح فعالياته بزيارة تاريخية؛ ففي ديسمبر من العام الماضي أعلن الفاتيكان أن البابا فرنسيس، رئيس الكنيسة الكاثوليكية، قد قَبِل الدعوة لزيارة الإمارات. وتمثل هذه الزيارة التي يقوم بها البابا هذا الشهر (في الفترة من 3 حتى 5 فبراير) أول مرة يطأ بابا الفاتيكان أرض دولة في شبه الجزيرة العربية. وقد نشر ولي عهد أبوظبي ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية، صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان (الذي التقى البابا عام 2016 في الفاتيكان، حيث وقّع مذكرة تفاهم بين البلدين) تغريدة على موقع تويتر ذكر فيها أن هذه الزيارة: “تعزز الروابط التي تجمعنا والفهم المشترك، وتشجع الحوار بين الأديان، وتساعدنا على العمل معاً للحفاظ على السلام وبنائه بين دول العالم”، ليضع سموه في النهاية نموذجاً يحتذى به في الترويج للإمارات كدولة متسامحة دينياً.
وقد اتخذت جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة موقفاً عالمياً عندما صادقت على إعلان مبادئ التسامح الأممي عام 1995 الذي دعم التعليم باعتباره أكثر الأدوات فعالية في مكافحة التعصّب. وعلى مستوى الدولة، تنص المبادئ على إتاحة الفرص الاقتصادية والاجتماعية لجميع البشر دون تمييز وتؤكد على دور الإعلام وقدرته على تيسير الحوار على نحو حر ومفتوح. ورغم ذلك، نشهد في الوقت الراهن تصاعد مشاعر العنصرية، وكراهية الأجانب، وظهور الأشكال المتطرفة للقومية، والتعصب الديني، والاستبعاد المجتمعي، وهو ما يدل على أن التسامح –كقيمة عالمية مشتركة– تعد مبدأً أساسياً لإقامة مجتمع عالمي مفتوح ومفعم بالرضا في يومنا هذا أكثر أي وقت مضى.
وفي ديسمبر الماضي، سجلت الصحفية المصرية نيرة ياسر ردود الأفعال المختلفة لمواطني بلدها على افتتاح كاتدرائية السيد المسيح التي تبلغ مساحتها 7500 متر مربع –أكبر كاتدرائية في المنطقة– وتضم لوحات دينية أيقونية، وأعمدة خشبية لولبية، وزجاجاً معشقاً أبدعه 40 فناناً. وقُدرت تكاليف إنشاء هذه الكاتدرائية، التي استغرق بناؤها عامين، أكثر من 215 مليون جنيه مصري، تبرعت بها الحكومة والقوات المسلحة. وتقول نيرة: “أقيم قداس يناير، الذي أذاعه التلفزيون، بين اثنين من أحداث العنف. فقبل يوم واحد من افتتاح الكاتدرائية، قُتل شرطي وجُرح اثنان أثناء محاولتهم تفكيك قنبلة، كانت قد وضعت قرب كنيسة في شرق القاهرة. كما حوصر عدد من القساوسة وتعرضوا لمضايقات خلال نفس الأسبوع في محافظة المينا”.
وتواصل نيرة تسجيل ملاحظاتها وتتحدث عن التعليقات التي أبداها الجمهور سريعاً على المسجد الكبير الذي تم بناؤه بالتزامن مع بناء الكاتدرائية وافتتح بعد يوم واحد فقط من إقامة أول قداس بالكاتدرائية الجديدة. ويستوعب مسجد الفتاح العليم أكثر من 16 ألف مصلٍ. ويذكرنا هذان الصرحان الدينيان الجديدان بمسجد محمد الأمين وكاتدرائية سانت جورج المارونية في بيروت، اللذين أقيما جنباً إلى جنب كرمز للتعايش بين الأديان. وتشعر نيرة بالتفاؤل وتقول إن الكثيرين يعتبرون افتتاح هذه الكاتدرائية الجديدة في مصر مؤشراً غير مباشر على السياسة الجديدة التي تنتهجها الحكومة في بناء مزيد من دور العبادة المسيحية في جميع أنحاء البلاد.
ومن ناحية أخرى، يقول الأب جان درويل، مدير المعهد الدومينيكي للدراسات الشرقية في القاهرة، إن الحث على التسامح والمواطنة المشتركة التي لا تستند إلى العقيدة الدينية – يعد أمراً أساسياً لإقامة مجتمع واسع الأفق وأكثر انفتاحاً. “المزيد من الناس في القاهرة يرفضون تعريفهم بحسب انتمائهم الديني. ويتمنون، بدلاً من ذلك، أن يتم التعامل معهم كمواطنين سواسية أمام القانون، وليس على اعتبارهم ’مسلمين‘ أو ’مسيحيين‘”، ويصف الرسائل الرمزية التي بعث بها افتتاح الكاتدرائية الجديدة (ودعوة البابا لزيارة الخليج) بـ”الجميلة”. وقبل زيارة البابا فرنسيس للإمارات، التي يعيش بها قرابة مليون مسيحي كاثوليكي، أعرب المطران بول هندر، النائب الرسولي في جنوب شبه الجزيرة العربية (الإمارات، وعُمان، واليمن) عن رأيه في تعقيدات المجتمع العالمي اليوم قائلاً: “البابا شخصية واقعية ومدرك أنه في عالم تكثر فيه الهجرات، يجب على الناس أن يتعلموا التعايش معاً، سواء كانوا مسيحيين بين مسلمين أم مسلمين بين مسيحيين، وحتى غير المؤمنين الذين يعيشون بين أفراد يعتنقون الديانات السماوية الأخرى يجب أن يتعايشوا معاً”. واعتبر زيارة البابا -حيث يجتمع مع أعضاء مجلس حكماء المسلمين ويقيم قداساً جماعياً– نموذجاً أساسياً للسلام، وقال: “دون هذه المبادرات والخطوات الشجاعة لتنظيم اللقاءات، تجازف البشريةُ بإعادة ما حدث في التاريخ، حيث كنا نتحدث بالأسلحة بدلاً من الكلمات”.
وفي منتصف شهر يناير، نشرت الفاتيكان 500 صفحة جمعت أقوال البابا فرنسيس عن الهجرة، وهو موضوع محوري في جدول أعماله منذ أن اعتلى كرسي البابوية في مارس 2013. “إن تنقلات البشر، رغم ما تنطوي عليه من تحديات ومعاناة، تثري جالياتنا، وكنائسنا المحلية، ومجتمعاتنا في كل قارة”. وبقدوم البابا إلى أبوظبي، تذكرنا هذه الكلمات الواردة في كتابه الضخم الجديد بإيجاز بالإمكانات التي تزدهر في المجتمعات الدينية التي تحتفي بحرية المعتقدات ومبادئ التسامح، والتعايش العرقي، والتعدد الثقافي.
والآن اقرؤوا: ناشطة لبنانية تبرز أهمية الحراك البطيء للموضة في مؤتمر بالأمم المتحدة