يهوى المصورُ حسن حجّاج، الذي يجيد التلاعب بالكلمات ويغلب عليه طابع المرح، جمعَ الناس معاً، لذا يفتح لنا أبواب عالمه الجامح الذي شيّده على أرض المغرب
في أحد أعوام التسعينيات، وجد المصور المغربي حسن حجّاج نفسه وسط جلسة تصوير لمجلة فرنسية في مدينة مراكش؛ فقد طلب منه صديق له تنفيذ جلسة التصوير هذه [بالنيابة عنه] لأن ذلك الصديق كان خارج المدينة في تلك الأثناء، فضلاً عن سبب وجيه آخر وهو أن حسن يجيد تحدث الإنجليزية. وبين ضباب اسبراي الشعر “إلنت” وعصبية فريق العمل بسبب ضيق المكان، توصل المصور إلى حقيقة مهمة. يقول حجّاج: “فوجئت بأن العارضات، ومنسقي الأزياء، وخبراء التجميل والمكياج قد أتوا جميعاً من الغرب، ولم تكن مراكش سوى مكان عجيب في نظرهم”. ولما كانت الأزياء المموّهة، والمرقّطة، والمطبعة بجلود الحيوانات من الصيحات الرائجة آنذاك، شاء حجّاج أن يواكب الموضة فابتكر جلاليب وقفاطين تزدان بتلك الطبعات وقدمها لصديقاته [العارضات] اللواتي أخذن يجبن بها أنحاء المدينة ذات الجدران الحجرية التي تعود للقرن الحادي عشر والمدرجة على لائحة اليونسكو للتراث العالمي. ووسط روائح التوابل والجلود، والحوانيت التي تلتمع بها المنتجات المعدنية، ولهو الحواة بثعابينهم، ورقص القردة من فصيلة مكاك بربري، والأجواء التي تضج بالألوان وتتوقد نشاطاً وحيوية، أخذت عارضات حجّاج يلتفتن ويستدرن أثناء جلسة التصوير التي أسماها بـ”المسألة العربية”. يقول: “أردت أن أقدم ثقافتنا. ولم يكن للأمر علاقة بالسياسة، بل كانت فقط بهدف المتعة ومواكبة صيحات الموضة”.
لم تكن تلك المرة الأولى التي أراد فيها حجّاج تمثيل ثقافته – فقد دأب على فعل ذلك طيلة أربعة عقود تقريباً في واقع الأمر، وهو ما يعد بمثابة ثمار ما زرعه برحيله إلى لندن عام 1973، حين كان يبلغ من العمر 12 عاماً. وكان والده قد سافر إلى العاصمة البريطانية في الستينيات أملاً في جنى بعض المال لشراء أرض في مدينته العرائش، التي تقع في شمال المغرب وتشتهر بمينائها. ولم يكن والد حجّاج يعلم أن حلمه سيستغرق زمناً طويلاً، وطلب من عائلته اللحاق به. وعلى طول شارع بورتوبيللو رود وسوق كامدن، وجد حجّاج المنطقة وتقاطعاتها أشبه بمدينته المغربية بصخبها وضجيجها. يوضح: “لم تكن المغرب في السبعينيات والثمانينيات يُنظر إليها كمكان جميل. لم تكن سوى صحراء، يرتدي سكّانها القفاطين ويشربون الشاي بالنعناع”. لذا تملكته رغبة عارمة في أن يعرف أصدقاؤه من أين أتى، ومن هنا انبثقت أعماله. ويقولها صراحةً: “لم يكن القصد منها أن تكون فناً”.
وانغمس حجّاج في الساحات الفنية الثائرة على الأعراف –سواء في الموضة أم الأفلام أم النوادي– وافتتح متجراً للأزياء بحي كوڤنت غاردن، أطلق عليه اسم “آر إيه بي” R.A.P. (اختصاراً لعبارة Real Artistic People، أي: “فنانون حقيقيون”)، حيث كان يرحب بالجميع، بصرف النظر عن لون بشرتهم، ومعتقداتهم، وانتماءاتهم السياسية، وجنسهم، وأصلهم، وجميع الصفات الأخرى التي تهدف إلى التمييز (ربما) والتي لا مكان يصلح لها سوى تحت قبة البرلمان. لذا فلا عجب من أن ينفر فنانٌ يتبنّى بشدة هذا الاتجاه من فكرة تدعم التباعد والانعزال، مثل انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. ففي أبريل من العام الماضي، أقام حجّاح معرضاً بعنوان ’المسيرة‘ بصالة عرض نيو آرت إكستشينج في نوتنغهام، رداً على قرار المملكة المتحدة. ويعلل ذلك قائلاً: “جميع موضوعاتي واتتني فكرتها في إنجلترا، بعضها ولد أو نشأ هنا، وبعضها من البرازيل، والصين، وأماكن أخرى. وقد كان هدفي من معرض ’المسيرة‘ إبراز فكرة الوحدة بدلاً من الفرقة. إنه بمثابة إجابة صغيرة؛ ورد فعل”.
وتصف صني رهبار، الشريكة المؤسسة لغاليري الخط الثالث في دبي، والتي التقت حجّاج عام 2007 حين زارت الاستوديو الخاص به في لندن، قائلةً: “إنه يقلب الصور النمطية رأساً على عقب بتحويل الكاميرا بكل بساطة نحو المشاهد وطلب مشاركة ذلك المشاهد في عالمه، هذا العالم الذي يمكننا أن نتعايش فيه جميعاً بسعادة ومرح وصدق”. وتضيف: “أيقنت على الفور أننا سنعمل معاً لأني أردت أن أكون من المشاركين في رواية قصته”. وبعد ثلاثة عشر عاماً على هذا اللقاء، باتت أعمال حجّاج بارزةً بين مجموعات متحف بروكلين في نيويورك، والمتحف البريطاني بلندن، ومتحف ڤيكتوريا آند ألبرت، ومتحف مقاطعة لوس أنجليس للفنون، وغير ذلك من الساحات الفنية.
ويمكن أن نتعلم ثلاثة دروس مهمة من ممارسات حجّاج، وهي: أن يلتزم الإنسان بالصدق، وأنه بحاجة إلى بعض اللهو، والفخر بأصله. يقول المصور: “تتميز مراكش بحماس متقد. وهذه جذوري. إنها موجودة، في الناس، والتقاليد، والتصرفات، إنها جميعاً موجودة. أنا فقط أطهوها، وأعدّها بمختلف الأطباق. وأحاول أن أقلب الأشياء رأساً على عقب ولكني أحرص على أن تحتفظ بأصالتها. يجب أن أظل صريحاً وصادقاً مع كل مَن وما حولي. فأنا أرد الجميل للمجتمع. وأعشق ذلك”. وفي فبراير الماضي، نظم حجّاج معرضاً لشابات مغربيات من المصورات الصاعدات كجانب من فعاليات معرض الفن الإفريقي المعاصر “54-1” الذي أقيم بمراكش.
ويعد اللهو جوهر حياة حجّاج ويظهر ذلك جلياً في أعماله؛ فكل شيء يبدو سعيداً في الشوارع التي يتخذها خلفية لصوره البراقة، حيث تظهر المغرب واضحة المعالم. إنها صور لطيفة، وعصرية، وتنقلك فوراً إلى عالمها – ولكن ما مدى علاقة ذلك بالثقافة الشعبية؟ منذ سنوات مضت، أطلق أحدُ الصحفيين على حجّاج لقب “آندي وارهول مراكش”، ربما بدافع الإشادة به، إلا أن كثيراً من العرب والفنانين (الآخرين) رأى أنها مقارنة جانبها التوفيق. فالاستشهاد بأوجه الشبه بين فنان غربي وآخر قادم من منطقة أخرى لا يؤيد قيمة أعماله أو يثبتها. ومرة أخرى، أخذها حجّاج كدعابة، وفيما يمكن أن نعتبره مشهداً من فيلم للمخرج وودي آلن، أدى تلاعبه بالكلمات إلى ولادة علامة تجارية.
وفي لقاء على الغداء مع المغني الجزائري الراحل رشيد طه عام 2000، أحضر حجّاج طبعات لأعمال سابقة له تضمنت منتجات عربية. ولم يكن لدى طه شيء يقدمه لحجّاج، فمازحه قائلاً: “ما عَندي والو”، وتعني “ما عِندي شيء” باللغة المغربية الدارجة. وأزال حجّاج “ما” وكذلك حرف العين، وهكذا وُلدت علامة آندي والو (بعد تحويل الفتحة فوق حرف العين إلى حرف ألف ممدود “آ”). وباستخدام علب مسحوق الحليب نيدو، وصناديق الكوكاكولا، وإشارات الطرق، والأشياء التي جمعها من المدينة، أبصرت العلامة المستمدة من الثقافة الشعبية النورَ، كما أقيم لها بار في باريس عام 2003، والذي صممه حجّاج باستخدام نفس تلك العناصر البسيطة. وبعدها ببضع سنوات، طرأت له فكرة إحياء “رياض يمة” انطلاقاً من فندق قديم في المدينة. وخلال ثلاثة أعوام، أقام حجّاج داراً رائعة تحتضن غاليري صغيراً يعرض فيه أعماله الفنية، وأثاثه، ومنتجاته، هذا فضلاً عن غرفة لتناول الشاي تقع وسط سوق التوابل. وهناك يلتقط صوره في الطابق الأرضي؛ فيما جعل من الطابق الثاني مساحة عرض؛ ومن الطابق الثالث غرف نوم، حيث يزخر هذا الطابق بالأقمشة، والملابس، والصور؛ أما سطح الرياض الذي يشرف على أسطح الأبنية فجعله مساحة لاستضافة الندوات النقاشية.
وربما إرضاءً للنزعة الاستهلاكية التقليدية، أحيا المصور التذكارات المغربية عبر أُطُر صوره النابضة بالحيوية. أما اختيار صف علب الكوكاكولا الحمراء، وعبوات الهريسة، وعبوات الكاتشب المزينة بأشكال الطماطم فيشبهه المصور بـ”مسألة البيضة أولاً أم الدجاجة”، قالها ضاحكاً مؤكداً على أنها أولاً وأخيراً أهم نماذج التصوير. وأكثر شيء يثير متعته هو موضوع التصوير نفسه. وعن ذلك يقول: “كثير من الناس الذين أصورهم هم فنانون بالفعل، ما يسهل عملية التصوير ويجعلها تبدو مثل عرض فني”. ويقول بإنه وافق على تصوير غلاف عدد شهر مارس بسبب نجماته. يؤكد: “مدهش ما تفعله كل واحدة منهن. إنهن ساحرات وكان من الرائع التقاط صورهن”. ولديه كل الحق في ذلك، فقد كانت الشيخة حور بنت سلطان القاسمي، والمطربة أصالة نصري، والفنانة يسرا يغنين ويرقصن جميعاً على أنغام موسيقى شعبية حية عزفتها إحدى الفرق طوال جلسات تصويرهن.
ويتغلغل مفهوم إعادة المعالجة وإعادة تناول الموضوعات داخل فلسفة حجّاج، وإلى حد ما، التلاعب بالكلمات أيضاً – وقد عادت “المسألة العربية” من جديد في سبتمبر عام 2019، في البيت الأوروبي للتصوير الفوتوغرافي في باريس. وفي فبراير هذا العام، سافر حجّاج إلى متحف فوتوغرافيسكا في ستوكهولم. ويعد هذا العنوان تلاعباً ذكياً بالموضة، والسياسة، وربما بسياسية الموضة، وقد استعرضها جميعاً في أعماله خلال ثلاثة عقود. وتهيمن المرأة على العرض، بل وتمثل، بالمعنى الحرفي للكلمة، صيحات الهوية، والسياسة، والتقاليد. ويتطلع حجّاج أيضاً إلى المستقبل، إذ سيُعيد “آر إيه بي” بالتعاون مع كاديلاك ومعرض سول دي إكس بي. وفي نهاية اللقاء يؤكد حجّاج: “أريد أن أقدم المزيد عن المنطقة. فأنا مؤمنٌ بها – كما آمنتْ بي”.
نُشر للمرة الأولى على صفحات عدد مارس 2020 من ڤوغ العربية
اقرئي أيضاً: عدد أبريل من ڤوغ العربية.. رسالة مفعمة بالأمل في زمن الحجر الصحي