تابعوا ڤوغ العربية

المنتجة التونسية درة بوشوشة تحتفل بالعرض الأول لفيلمها الجديد في مهرجان كان السينمائي

المنتجة التونسية درة بوشوشة. صورة من Getty

مساء يوم 14 مايو الماضي، وقفت درة بوشوشة مع زملائها على السجادة الحمراء الشهيرة لمهرجان كان السينمائي، وذلك بمناسبة العرض الأول لفيلم ’ولدي‘ الذي شاركت في إنتاجه شركتُها للإنتاج السينمائي نوماديس إيماج، وأخرجه التونسي محمد بن عطية. ويستكشف هذا الفيلم -الذي حاز على إشادة النقّاد لأنه “يحتفي بقوة الصمود الإنساني بأسلوب مشوّق وهادئ”- حالةَ القلق والاضطراب التي تصيب عائلة إثر هروب ابنها إلى سوريا.

وفي هذا اللقاء، الذي نُشر للمرة الأولى على صفحات عدد فبراير من ڤوغ العربية، تستعيد بوشوشة ذكرياتها وتروي بأسلوبها مشوار حياتها في عالم السينما الذي يشهد مزيداً من النجاحات.

“نعيش في عالم مليء بالمفارقات والمتناقضات. لذا تختلف نظرة الناس إلى السينما حول العالم. وهي غالباً ما ترتبط بالبريق، والشهرة، والثراء، لذا نرى الآباء يدفعون أبناءهم للاصطفاف في طوابير للاشتراك في تجارب الأداء واختيار الممثلين، على أمل أن تتغير حياتهم. فيما يرى آخرون السينما بئراً للحرمان والخطيئة. وقد انخرطتُ في هذا المجال منذ سنوات مراهقتي حتى أصبحت أول امرأة تعمل في مجال الإنتاج السينمائي الذي يحتكره الرجال. كان هنالك بالطبع بعض المخِرجات الإناث، ولكن قلة قليلة منهن عملن في الإنتاج. حتى في فرنسا، لم تدخل النساء مجالَ الإنتاج إلا في العقدين الماضيين فقط. وقد أدركتُ، حين بدأتُ إنتاج الأفلام، أنني عندما أختار فيلماً ما، أنجذب بلا وعي نحو القصص التي تمسني شخصياً. ولعل ذلك يعود إلى الشعور بالذنب الذي يثقل كاهلي منذ طفولتي.

وُلدت قبل ستين عاماً، في منطقة ريفية على حدود مدينة تونس تُسمى منوبة. كانت حينها تبدو لي بعيدة جداً عن المدينة. ولم يكن بها سوى مستشفيات، وقاعدة عسكرية، وحقول. وكان والدي مديراً لمستشفى ووالدتي تدير داراً للأيتام. لذا، أدركت بؤس هذا العالم منذ طفولتي. ورغم أن والديّ ليسا من الأغنياء، إلا أنهما مقارنةً بالعالم الخارجي كانا يبدوان ميسوري الحال، فقد كان الناس الذين أختلط بهم إما فقراء أو مرضى أو أيتام. ومن هذه البيئة تولّد في نفسي أول شعور بالذنب.

التحقتُ بمدرسة ابتدائية تتبع قيوداً صارمة، وبسبب تفوقي التحقت بعدها بالمدرسة الصادقية، التي كانت أشهر مدرسة للأولاد في تونس. كان بها قلة من الفتيات – ربما عشر فتيات أو اثنتي عشرة فتاة مقابل أربعة آلاف ولد. في حين التحقت شقيقتايّ الأكبر مني بالمدرسة الفرنسية. كان مسموحاً لهما بوضع المكياج وترك شعرهما منسدلاً في حين كان يتعين عليّ ارتداء المريلة وعقص شعري إلى أعلى. وكانت المدرسة بعيدة جداً. واخترت أن أستيقظ مبكراً وأستقل حافلتين بدلاً من أن يوصلني سائق سيارة والدي. خشيت أن يسخر مني الأولاد. فقد كانت بيئة المدرسة مختلفة اختلافاً صادماً عن نظام حياتي. كنتُ في المدرسة محورَ اهتمام الجميع. وجميع الطلاب ينظرون إليّ. وسرعان ما حفروا رسومات لقلوب وأسهم تحيط باسمي على طاولات الدراسة. وما زالت الطاولات موجودة حتى الآن لأن معظمها لم يُستبدل قط. خفت أن يرى والداي هذه الرسومات. وشعرت بالخجل – كما لو كنت ارتكبتُ ذنباً. شعرتُ بأنني يجب عليّ أن أتوارى عن الجميع. كنتُ أبلغ من العمر 11 سنة فقط ولكن ترسخ في نفسي ذلك الشعور القلِق بالذنب. كم كانت الحياة المدرسية رائعة. لقد تعلمتُ الكثير، ويجب أن أعترف بذلك.

وخلال سنوات المراهقة، عملتُ كمتطوعة في أقدم مهرجان في إفريقيا والعالم العربي. وكان قراراً رائعاً مني لأن مهرجان قرطاج السينمائي منحني فرصة مشاهدة جميع الأفلام. وواظبتُ على ذلك لسنوات طويلة. وكانت هذه الأفلام نافذتي على العالم. إلا أنني كنتُ أحب القراءة أكثر من مشاهدة الأفلام. وفي صغري، اعتدتُ أن ألتهم الكتب التهاماً. وبعد المدرسة، سافرتُ، في نهاية المطاف، إلى إنجلترا لدراسة الأدب الإنجليزي، ثم عدتُ إلى تونس لاستكمال دراستي. أدركتُ حينها أنني لا أستطيع العيش بعيداً عن تونس. ولما كنتُ طالبة، بدأتُ ترجمة الأفلام إلى الإنجليزية لأصدقائي والقناة الرابعة في إنجلترا. وهكذا ارتبطتُ بالسينما – وكتابة السيناريو. ثم التقيتُ المنتجَ السينمائي أحمد عطية الذي طلب مني قراءة السيناريوهات له. وكانت هذه لحظة فارقة في حياتي. فقد ترك هذا المنتج أثراً بالغاً في نفسي، دون أن أعي ذلك، وولّد داخلي الرغبة في إنجاز شيء مثير للاهتمام.

وفي عام 1994، عملتُ في الفيلم الطويل ’صمت القصور‘ إخراج مفيدة التلاتلي. وشاركتُ في كل شيء في هذا الفيلم – الأزياء، والإنتاج، واختيار موقع التصوير. كنتُ لا أزال هاوية. ولم أكن أتخيلُ آنذاك ماذا يعني العمل كمنتجة. ودائماً ما أقول الآن أنه ربما لو كان أحدهم قد شرح لي ما هو الإنتاج، لاخترت مهنة أخرى. ولكني فكرت في رغبتي في اختيار قصص لأرويها للعالم. لذا أسستُ شركة للإنتاج باسم ’نوماديس إيماج‘ عام 1995. وانغمستُ عبرها كلياً في كتابة السيناريوهات ومراجعتها، وعملتُ يداً بيد مع المخرجين. فكيف ستقنعين الناس بالاستثمار في قصة فيلم إن لم تشاركي أنتِ بنفسكِ في القصة بقدر مشاركة المخرج؟ وأنا عندما أقتنع بسيناريو فيلم، أستطيعُ حينها أن أقنع الجميع.

عندما أقتنع بسيناريو فيلم، أستطيعُ حينها أن أقنع الجميع.

قبل الثورة، لم يتم إنتاج سوى القليل من الأفلام الوثائقية في تونس بسبب الديكتاتورية وغياب حرية التعبير. وكانت الطريقة الوحيدة لتوجيه انتقاد خفي هو استخدام البناء الخيالي. اليوم، أنتجتُ أربعة أفلام وثائقية منذ سنة 2011 وفي سبيلي لإنتاج ثلاثة أفلام أخرى. وفيلم مانكا مورو يروي قصة المجتمعات الصقلية التي هاجرت إلى تونس في القرن الماضي ثم عادت إلى فرنسا أو إيطاليا في الستينيات بعد الاستقلال. وقد نشأت مخرجته ريم التميمي، التي ولدت لأم صقلية وأب جزائري، في تونس وتجتمع فيه مع أقاربها الصقليين للحديث عن حياتهم في تونس فيما يرددون دائماً مانكا مورو – أي “أفتقد المور” (مصطلح شعبي يطلق على سكان المنطقة المغاربية). فيما يعكس فيلم على العارضة للمخرج سامي التليلي وجهة نظره كمخرج نحو عاميّ 1977 و1978 الحافلين بالأحداث في تاريخ تونس، عندما كانت الدولة تعاني حالة اضطراب وعلى شفا قيام ثورة. وفي الوقت نفسه، تأهل المنتخب القومي التونسي لكرة القدم للمرة الأولى للعب في كأس العالم. وكانت تلك المرة الأولى التي يتأهل فيها فريق إفريقي. واستطاعت رحلة الفريق الناجحة أن تحفظ النظام من أسوأ أزمة يواجهها منذ الاستقلال. أما رجال السكك الحديدية فهو الفيلم الوثائقي الثالث والأكثر تحديّاً لي لأني لم أنته منه حتى اليوم، رغم أنني بدأت إنتاجه عام 2013. ولأول مرة تجد المخرجة صعوبة في العثور على بِنية فيلمها الوثائقي، وإخراجه، ومغزاه وأجد تحدياً حقيقياً في الانتهاء منه.

درة بوشوشة مع زوجها كامل الفراتي وابنتيهما ماليك وكنزة. الصورة بإذن من درة بوشوشة

 في الماضي، كنتُ إذا استلمت أي سيناريو، أجعل ابنتيّ كنزة وماليك أول من تقرآنه لي. وكانتا تقولان لي رأييهما. كما اعتدتُ أن أصحبهما معي إلى مواقع التصوير. فقد كنتُ دوماً شغوفة بعملي (وغالباً ملتصقة بهاتفي)، وأعتقدُ أنهما عانيتا قليلاً من ذلك. تحدثت مع ماليك في هذا الأمر… إنه ذلك الشعور بالذنب الذي حملته منذ طفولتي وعاد يتسلل إليّ من جديد. اليوم، النساء العاملات هن القدوة، وهن ما يجب أن تكون عليه النساء. والشعور بالذنب الذي يتملككِ بسبب غيابكِ كأم أو لأن لديكِ مهنة تأخذ من وقت أطفالكِ اختفى مع الزمن. ولكني أنتمي إلى ذلك الجيل الماضي، وكان قاسياً أن أسبح عكس التيار. وأتساءل أحياناً إن كنت قد افتقدت شيئاً. لم نكن نصنع الكعك معاً في الظهيرة ولكننا اشتركنا معاً في أشياء أخرى نمت بيننا.

ورغم الكتب العديدة التي قرأتها طوال حياتي، فإن أكثر الكتب التي تركت أثراً في نفسي تلك التي قرأتها في شبابي. منها القصة القصيرة إلى الغرفة التاسعة عشرة للكاتبة دوريس ليسينغ. إنها قصة امرأة عملت في مجال الدعاية وحققت نجاحاً كبيراً. وهي جميلة ولديها زوج وسيم وميسور الحال. ولأن لديهما أبناء، فقد قررا ترك أعمالهما ليتفرغا لرعايتهم. وبدوا سعداء، ولكن بالطبع تطورت الأحداث ثم تحولت إلى مأساة. إنها قصة أخرى تذكرني بعقدة الذنب. بمشاركة لينا، كتبتُ رسالة إلى السيدة ليسينغ، عندما كانت لا تزال على قيد الحياة، وطلبتُ منها شراء حقوق القصة – ولكننا لم نكن أثرياء. وقد أجابت: “اكتبي السيناريو وأرسليه لي. إذا أعجبني، سنناقش أمر المال”. كان ذلك صعباً للغاية. يمكنني مراجعة السيناريوهات، ولكني لست كاتبة سيناريو. بطريقة ما – كان ثمة رابط بين القصة وذنبي. ذلك الشعور بالذنب، الذي أحسست به منذ عمر مبكر، والذي صار يتبدى بأساليب أخرى. ورغم ذلك، أصبحت بفضله ما أنا عليه الآن”.

مشوار درة بوشوشة بالتواريخ

1957 وُلِدَت درة بوشوشة في تونس العاصمة

1983 تزوجت كامل الفراتي ورزقت بابنتيها كنزة الفراتي نجمة غلاف ڤوغ العربية، وماليك

1995 أسست شركتها للإنتاج السينمائي، نوماديس إيماج

1997 أسست سود إكريتور (كتّاب الجنوب)، وهي ورشة عمل تُعنى بكتابة السيناريو علّمت أكثر من 200 شخص من صناع الأفلام

من 1997 إلى 2016 أنتجت ستة أفلام طويلة، وستة أفلام وثائقية، وعدداً كبيراً من الأفلام القصيرة، عرض بعضها في مهرجانات برلين، وكان، والبندقية

2008، و2010، و2014 ترأست مهرجان قرطاج السينمائي

2016 فاز فيلم نحبك هادي، الذي أنتجته هي وأخرجه محمد بن عطية، بجائزة أفضل عمل أول بمهرجان برلين السينمائي

2017 اُختيرت عضوة في لجنة التحكيم الكبرى لمهرجان برلين السينمائي

2018/2019 – ستعرض ثلاثة أفلام وثائقية هي مانكا مورو، وعلى العارضة، ورجال السكك الحديدية، والفيلم الطويل ولدي للمخرج محمد بن عطية

نشر للمرة الأولى على صفحات عدد فبراير من ڤوغ العربية

هيفاء المنصور تدخل من جديد صفحات التاريخ

الاقتراحات
مقالات
عرض الكل
مجموعة ڤوغ
مواضيع