لكل مدينة معالمها المميزة، ولبيروت مسجدها… مسجد محمد الأمين المميز بتصميمه وبموقعه الجغرافي وسط المدينة، على مقربة من الأماكن الدينية المسيحية والإسلامية ومن شوارعها المركزية.
مسجد الأمين هو تحفةٌ فنية بذل من أجل إتمامها بهذه الصورة الرائعة المهندس الداخلي اللبناني نبيل دادا جهداً كبيراً ووضع فيه إبداعاً وأفكاراً خلّابة وعصارة سنوات طويلة من العلم والخبرة.
ولد نبيل دادا في بيروت وفيها أمضى أياماً حفرت آثاراً عميقة في حياته، فهو يقول: “تأملت تفاصيل هذه المدينة حتى حفظتها عن ظهر قلب!”. حاز نبيل دادا عام 1970 شهادة في الهندسة الداخلية، هو الذي رسم كلّ ما كانت تقع عليه عينه. انطلقت حياته المهنية عام 1972 وأسس صالة عرض استقطبت أسماء كبيرة ولامعة في عالم التصميم. بين بيروت المترنحة تحت ثقل الحرب والسعودية، تنقل دادا كثيراً. أسس في الرياض صالة عرضٍ لبى من خلالها الذوق السعودي الكلاسيكي، ثم افتتح مكتباً في باريس ثم صالة عرض للتحف القديمة في بيروت. وبعد ذهابٍ وإيابٍ بين الرياض وبيروت، قرر الاستقرار في وطنه.
في بيروت نفّذ للشهيد رفيق الحريري مشروعاً شخصياً فحاز ثقته، ثقةٌ خوّلته تصميم السراي الحكومي ومشاريع أخرى في أوروبا ولبنان وأهلته لاحقاً لاستلام مسجد محمد الأمين، وعن هذا المشروع يقول دادا: “كان حلم الشهيد الحريري بناء مسجد واسع جداً وسط البلد، فعرضت عليه إتمام دراسة للمشروع وكان أوّل جامع أقوم بتنفيذه”.
ومسجد الأمين، يتعدى اليوم كونه داراً للعبادة، فبعد الثورة التي شهدها لبنان برهن المسجد أنه حضنٌ يجمع مختلف الانتماءات الدينية ويؤمن الملجأ الآمن للجميع عند الضرورة. يقول نبيل دادا: “أنا فخور جداً بهذا الجامع وموقعه في ساحة الشهداء، ومؤخراً بعد ثورة أكتوبر ٢٠١٩ انتشرت صور الجامع في مختلف الوسائل العالمية والمحلية. أعتز حين أفكر أن اسمي سيرافق هذا المعلم الديني الذي يفتخر به لبنان أجمع. هذا الجامع سيقبى ذكرى في أذهان أحفاد أحفادي تعرفهم على شخصي وأعمالي”.
خُصصت ميزانية ضخمة للمسجد حفزت الحس الإبداعي لدى دادا فأراد بناءً مهيباً يرقى إلى مستوى هذه الميزانية، وهو يقول: “كانت النية بناء مجسد يتميز بعظمة مهيبة تضمن له الخلود. وعند المباشرة في التنفيذ تبيّن لي مدى عظمة هذا الصرح وأهميته، فمع كل خطوة تنفيذ كانت جمالية المسجد تظهر وتتبلور”.
وفكرة تصميم هذا الصرح المهيب وليدة أبحاث طويلة وزيارات كثيرة لجوامع وكنائس حول العالم شكلت نبعاً لا ينضب لأفكار خصبة استفاد دادا منها كثيراً أثناء العمل. قدّم دادا وفريق عمل مهندسي “أوجيه” عدة تصاميم اختار الشهيد الحريري من بينها التصميم العثماني. يقول دادا: “أسعدني الاختيار، فأنا أتردد كثيراً على اسطنبول ومفتون بسحر جوامعها”. بعد اعتماد التصميم، كثف دادا زياراته إلى اسطنبول واطلع على أعمال المهندس “سينال” المتعددة، مصمم الجامع الأزرق. ركّز على التفاصيل التي تهمّ المصلين، درس المشروع وطوّره ووضع أكثر من 600 خريطة على مدار خمسة أشهر، واختار أفخم المواد كالكوارتز للبلاط الشهير بمقاومته العوامل الطبيعية وقدرته على حفظ درجة الحرارة الباردة على مدار السنة وجمال لونه رغم مرور السنوات. وعند اختيار موزاييك الإزنك للواجهات والأبواب، الذي أبى دادا إلا أن يتطلع على صناعته عن قرب، فهو يقول: “يعود تاريخ الإزنك إلى أكثر من 200 عام. سافرت إلى مدينة إزنك التركية لأتعرف عن قرب على كيفية صناعته”.
لم يمرّ تشييد المسجد من دون صعوبات، تعيّن على دادا تعديل التصميم مرات عدة لتناسب رؤية الشهيد الحريري وقد قال: “كان التصميم يضمّ أعمدة ضخمة لم تعجب الشهيد الحريري. إلغاؤها خلق تحدياً. رفع قبة ضخمة بقطر 25 متراً وارتفاع 45 متراً من دون أعمدة أجبرنا على الاستعانة برياضي محترف كان يتسلق القبة وينقل لفريق العمل ملاحظاته حتى تمّ العمل بمستوى الجودة العالي المطلوب.
مع خروج اللبنانيين إلى الساحات في أكتوبر 2019، عاد مسجد الأمين إلى الصورة كلمجأٍ للثوار من مختلف الأطياف. فالمسجد كان بمثابة الحصن المنيع الذي فتح أبوابه أمام الناس من دون استثناء، رحّب بالثوار وحضنهم عند الضرورة وحمى الفارّين من البطش بكل رحابة صدر، فلم يقف أحد بوجههم ولم يُطلب منهم المغادرة إطلاقاً.
لم يشكل المسجد فقط ملجأ للثوار بل استقبل أيضاً مبادرات ومنها مبادرة مطبخ البلد التي عنت بإطعام الجياع حين تمتنع الدولة عن ذلك. أنشأ القيمون على “مطبخ البلد” خيمة في ساحة الشهداء قرب المسجد وحضروا الطعام ليقدموه وجبات يومية للثوار والمحتاجين. ويقول وائل لاذقاني أحد القيمين على هذه المبادرة إن نشاطهم لم يمر من دون مشاكل، فقد تعرضت الخيمة ذات مرة لهجوم دمرها بمحتوياتها ولحريق أتى على أجزاء كبيرة منها، فما كان منهم إلا أن قصدوا المسجد طلباً للمساعدة فلقوا كل الترحاب والخير.
اليوم بعد مرور عقد ونصف على تشييد هذا المسجد، لا ينكر نبيل دادا أنه فكر بتغيير بعض التفاصيل، فهو يقول: “أسافر كثيراً وأخزن في ذاكرتي صوراً وتفاصيل. من الطبيعي أن تتطور نظرتي وأفكاري. إلا أن هذا لا يلغي فخري بهذا العمل الضخم”. وقد ذكر عدم رضاه مثلاً عن الثريات الحالية التي قدّمتها هبة دبلوماسية للمسجد رغم فخامتها وفضّل الإبقاء على التصميم الذي وضعه وحارب من أجل إبقائه.
علاقة نبيل دادا بمسجد الأمين ليست مجرد علاقة صرحٍ بمهندس، فهو يفخر جداً بهذا المشروع الذي نفذه في بيروت التي حفرت في ذاكرته تفاصيل لا تُنسى من سوقها الطويلة حيث كان يساعد والده أسبوعياً وأثناء الصيف في محله التجاري. هناك في تلك الشوارع تشرّب دادا طيبة اللبنانييين وجسدها في أعماله. وقد صرّح دادا قائلاً: “شُيِّد المسجد على أرضٍ اشتراها السلطان عبد الحميد وقدمها مناصفةً للطائفتين السنية والمارونية. بُني تصميمي على أرض ساحة الشهداء! أذكر القلق والحماس الذين رافقا لحظة إقبالي على المشروع، أسترجع مراحل البناء فيعتريني الفخر الشديد!”.
أقرئي أيضاً: يحمل عدد يونيو من ڤوغ العربية رسالة حبّ إلى لبنان، ويزدان غلافه بصورة النجمة الكبيرة ماجدة الرومي