تابعوا ڤوغ العربية

لحظات من الحنين تلقي بنا في أحضان الكاتب والفنان والفيلسوف جبران خليل جبران

حتى أرز لبنان قد ينتهي به المطاف رماداً في موقد، حتى جبال لبنان الشامخة قد تتآكل وتتحول إلى تراب منثور… وحده جبران خليل جبران يبقى ذكره وأثره أبدياً لا يزول أبد الدهر… اسم جبران خليل جبران أكبر بكثير من أي يختصر فناً أو مجالاً أو رمزاً… إنه عصارة آلام أحرقت داخله، ووحدة روحٍ زادت من حواسه؛ إنه ببساطة جبران خليل جبران!

يمكن اختصار محطات حياة جبران ببضع سنوات، ففي عام 1883 كانت ولادته وتحديداً في السادس من يناير، وفي عام 1895 انتقل مع والدته وإخوته إلى الولايات المتحدة، عام 1902 عاد إلى لبنان لإتمام تعليمه واختبر شعور الفقد على أثر وفاة أخته وعمّق عام 1903 هذا الشعور بوفاة أخيه ووالدته، عام 1904 نشر أول مقالاته في إحدى الصحف الصادرة باللغة العربية وأقام أول معرض رسمٍ خاص له في بوسطن بدعم من المصور الفوتوغرافي فريد هولاند داي الذي عرّفه على ماري هاسكل. ابتسمت له الدنيا عام 1908 وأرسلته ماري هاسكل ليتابع تخصصه في الرسم على نفقتها الخاصة في مدرسة جوليان الشهيرة في ذلك الوقت، وفي باريس التقى بالنحات أوغست رودان، الذي قيل إنه أطلق عليه ذات مرة لقب «ويليام بليك القرن العشرين». عام 1912 انتقل إلى نيويورك بمساعدة هاسكل أيضاً، وبعد ذلك العام تتالت أعماله، فكتب باللغة الإنكليزية واللغة العربية وأنتج الكثير من اللوحات. وفي عام 1923، نشر صديقه الناشر ألفريد كنوبف كتاب النبي The Prophet الذي أصبح فيما بعد العمل الأشهر لجبران.

أعمال جبران الفنية والأدبية ما هي إلا نتاج شخصيةٍ مفعمة بلبنان! فقد أغنت بلدة بشري حيث ولد جبران مخيلته وأثرتها بجبالها الشامخة وواديها المهيب ونهرها وضبابها وأثيرها وفصولها المتميزة، فكان أثرها واضحاً في ألوان ريشته التي نقلت أجمل الصور عن ضيعته. وفي بشري كتب: «أحب مسقط رأسي ببعض محبتي لبلادي، وأحب بلادي بقسم من محبتي لأرض وطني، وأحب الأرض بكليتي لأنها مرتع الإنسانية، روح الألوهية على الأرض». هي كذلك نتاج رجلٍ عاش طفلاً مع أبٍ كان من أقوى رجال بشري يخافه الجميع، القريب قبل الغريب. نال والد جبران قسطاً متواضعاً من التعليم إلا أنه كان بالغ الجاذبية ببشرته الفاتحة وعينيه الزرقاوين، لم يكن حكيماً بما يكفي ليحافظ على مُلكه الضئيل بل بدده في المقامرة والخمور، إنما ألهم في المقابل جبران بالرؤية الحكيمة وبرفض الظلم.

تمكن الشاعر والطبيب سليم الضاهر من ملء بعض الفراغ في حياة جبران فقد لمس في وقت مبكر ظمأ الصبي للمعرفة. وقد ذكره جبران، الذي حرم من التعليم الرسمي في السنوات الاثنتي عشرة الأولى من حياته بكلمات: «بعض الناس في غاية الروعة حتى إني لأتساءل ما إن كانت حياتهم ليست خلقًا
على الإطلاق. أتذكرون سليم الضاهر؟ كان شاعرًا وطبيبًا ورسامًا ومعلمًا، بيد أنه لم يشأ قط الكتابة والرسم كفنان، بل كان يحيا في حيوات أخرى. كان الجميع يختلفون حين يعرفونه. كانت بشري بأسرها مختلفة. وأنا مختلف. أحبه الجميع حبًا جمًا. وأحببته حبًا جمًا، وجعلني أشعر بكل حرية في الحديث إليه».

إلا أن العوض الأكبر كان وجود الأم كاملة رحمة التي عوّضت دور الأب المتهالك في حياة جبران الطفل، فرغم جسدها النحيل الرشيق ووجهها الشاحب وعينيها الحزينتين وحزنها بعد وفاة زوجها الأول ووالد ابنها البكر بطرس، كانت هذه المرأة أمًا مُحبّة رحيمة، أرادت الأفضل لأطفالها. فأغدقت عليهم بذكائها وحكمتها وأثرت بجبران الذي نهل الكثير من ثقافتها إذ كانت تتقن اللغتين العربية والفرنسية كما كانت فنانة وموسيقية، ومن الحكايات والأساطير الشعبية اللبنانية وقصص الكتاب المقدس ومن فطرتها الروحانية وتدينها العميق.

بصمة هذه الأم المناضلة التي أبت أن يضيع مستقبل أولادها في ظلّ رجلٍ مقامر واضحة وضوح الشمس في أعمال جبران. نذكر مثلاً أنه عبر في الأجنحة المتكسرة The Broken Wings عن عمق تقديره وإعجابه بالأمومة قائلاً: «إن أعذب ما تحدثه الشفاه البشرية هو لفظة «الأم»، وأجمل مناداة هي:’يا أمي‘. كلمة مملوءة بالأمل والحب والانعطاف وكل ما في القلب البشري من الرّقة والحلاوة والعذوبة. الأم هي كل شيء في هذه الحياة؛ هي التعزية في الحزن، والرجاء في اليأس، والقوة في الضعف، هي ينبوع الحنو والرأفة والشفقة والغفران».

بعد وفاة والدته كاملة، ملأت ماري هاسكل الفراغ. كانت بمثابة الأم والصديقة والراعية والحبيبة، كانت تتناقش حول أفكاره المتعلّقة بكتاباته ورسومه وتهتم لأسلوب عيشه، وتسهر على شقيقته مريانا في بوسطن حين يكون متغيّباً في نيويورك. إنها رفيقة جبران في حياته وحتى مماته، ربما هي من قال فيها: «أنا مديون بكل ما هو أنا عليه إلى المرأة منذ كنت طفلاً حتى الساعة. المرأة تفتح النوافذ في بصري والأبواب في روحي. لولا المرأة الأمّ، والشقيقة، والصديقة لبقيت هاجعاً مع هؤلاء النائمين الذين ينشدون سكينة العالم بغطيطهم،» وفي رسالة إلى صديق قبل رحيله إلى باريس في 1908، وصف جبران هاسكل بكل وضوح بأنها «ملاك يهديني إلى مستقبل مشرق ويشقُ لي طريق النجاح الفكري والماديّ على حد سواء». بعد وصوله بأيام، خطّ جبران قائلاً: «إن اليوم الذي سأقول فيه لقد أصبحت فناناً بفضل ماري هاسكل قادم لا محالة».

ترجم جبران في كتاباته نزعاته المختلفة، فيمكن للقارئ أن يشعر بنزعته الوطنية والقومية اللبنانية عند قراءة مقالات مثل «الويلات السبع»، و«لكم لبنانكم ولي لبناني»، و«يا بني أمي». ولن يضل قارئ إطلاقاً عن نزعة جبران الإنسانية التواقة إلى الحرية المطلقة وكشف الوجود الإلهي، أو عن نزعته الصوفية التي طورها بتمرده ورفضه لسنن المجتمع وهروبه من الواقع المعيش، فعكس في أعماله صورة عن حالته النفسية وإحساسه العميق ومشاعره المرهفة. ناهيك عن النزعة الثورية والتمردية على كلّ ما فيه ظلم للإنسان وانتقاص من حقوقه.

وأشهر أعمال جبران على الإطلاق كتاب «النبي» الذي حاز إعجاب الملايين حول العالم وترك في نفوسهم أثراً عظيماً هو خير جامع لنزعاته المختلفة. صدر هذا الكتاب عام 1923 إلا أنه لم يحقق الانتشار الكبير إلا لاحقاً حتى أنه تُرجم إلى أكثر من 40 لغة، حتى أن سطّر جبران خليل جبران في عداد الفلاسفة الذين وضعوا نهج حياةٍ عنوانه الحبّ والتسامح والتواضع ومساعدة الآخر.

خدم جبران خليل جبران مسقط رأسه بشري خاصةً ووطنه لبنان عامةً في حياته وكذلك بعد وفاته. فقد حمل اسم بلدته ووطنه رايةً عاليةً في أمريكا حيث أقام وتعلّم وأبدع، وكان دائماً يحلم بالعودة إلى أرض لبنان وأوصى بنقل جثمانه إلى بشري إن توفي بعيداً عن أرضها. وبهذا ضمن أن يبقى اسمه ملازماً لاسم لبنان إلى أبد الآبدين. وكان جبران من الحكمة وبعد النظر بمكان، إذ طلب شراء دير مار سركيس في بشريٍ لتحويله إلى متحفٍ يضم أعماله وأغراضه الشخصية. أراد النابغة العبقري أن يرقد إلى جانب أعماله في أرضٍ أحبها حباً جماً وحملها في قلبه، ومن يدري ربما كان يعلم أن نقله مع أعماله إلى بشري سيضع بلدته على خارطة السياحة العالمية وستجذب إليها محبي الفنّ والأدب.

وفي لفتةٍ مميزة من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، حظي متحف جبران بمنحة لترميمه ولصون المقتنيات وترميم القطع الفنية، بالإضافة إلى تزويده بأحدث تقنيات العرض المتحفيّة. وطبعاً لم يكن صاحب السمو حاكم الشارقة أول أو آخر المهتمين بإرث جبران الفني والأدبي، فكثرٌ من سبر أغواره وحاول أن يبني منه عملاً يعرّف الأجيال على فرادة جبران وعبقريته. ومن ضمن قافلة المهتمين نذكر المؤلفين الشقيقين غريس وروب شلهوب الذين كرسا بهدف تضمين قصة المهاجر العربي المحيرة في النسيج الأمريكي الكثير من أعمالهما للحديث عن خليل جبران، الكاتب والفنان والفيلسوف المحبوب الذي يحظى بشهرة واسعة.

وغريس شلهوب مخرجة أفلام مستقلة نشأت في بوسطن بولاية ماساتشوستس، حيث حازت بكالوريوس الآداب والعلوم من كلية بوسطن، ثم دكتوراه في القانون من كلية نيو إنغلاند للحقوق. ركزت غريس الكثير من أعمالها على جبران خليل جبران. في عام 2011، تأهل سيناريو عملهما «جبران» إلى الدور ربع النهائي في مسابقة «زمالة نيكول في كتابة السيناريو» التابعة لأكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة ومن ثم بيع لمجموعة Creative Projects Group في هوليوود. وفي عام 2021، كتبت غريس الفيلم الموسيقي الطويل «الأجنحة المتكسرة» الذي يستند إلى قصة جبران القصيرة الشهيرة والمسرحية الموسيقية الأصلية التي تحمل الاسم نفسه في لندن.

في مسلسلهما التلفزيوني، يؤمن خليل جبران بشدة بأن لديه شيئًا مميزًا يتشاركه مع العالم، رسالة عالمية يمكن أن توحد بين مختلف الأشخاص، وتلهمهم للعيش في وئام، يشرح الأخوان عملهما فيقولان: «توصيل رسالته كان أشبه بالمستحيل نظرًا لظروفه المتواضعة والبائسة. لكن رغم الصعاب، كرّس جبران حياته لتحقيق هدفه، فكتب في النهاية كتابه «النبي». ولأول مرة على الإطلاق، نبين أنه من دون حب ومساندة راعيته ومحبوبته ماري هاسكل لما حدث ذلك أبدًا».

وأضافا: «يصادف عام 2023 مرور 100 عام على نشر كتاب «النبي» لأول مرة عام 1923. وأرى أنه لا وقت أفضل من الآن لإنتاج «حديث جبران» وتقديم رؤية خيالية لحياته ومجموعته الكبيرة من الأعمال. ومن المؤكد أن موقف جبران التقدمي تجاه الحركة النسوية واللغة والدين والروحانيات ستلقى صدى في نفوس جمهور الشباب اليوم. والأهم من ذلك، لقد قدمنا بطلاً يستطيع بصدق واحترام تمثيل الأجيال العربية الشابة التي ضاقت من مشاهدة الأدوار البغيضة التي يلعبها العرب في عالم الترفيه».

يستهدف عمل «حديث جبران» كل واحد منا، وفي عالم يعاني انقسامات عميقة ويأسًا، يتأمل الشقيقان أن يبعث رسالة أمل وسلام في وقتها المناسب، وأن ينجح في تغيير الطريقة التي تنظر بها الثقافة الشعبية إلى من لا صوت لهم ومن يُساء تمثيلهم والمساعدة في إلهام فكرة أن الوحدة في التنوع في جميع أنحاء العالم وعلى مر العصور، وحسب إيمان الشقيقان شلهوب جبران خليل جبران هو البطل المثالي لهذه الغاية.

 

الموضوع نشر للمرة الأولى على صفحات المجلة عدد شهلا فبراير 2023 

الاقتراحات
مقالات
عرض الكل
مجموعة ڤوغ
مواضيع