تابعوا ڤوغ العربية

قوارب الهجرة غير الشرعية أو قوارب الموت واقع مؤلم يهز لبنان

أعلى الطفل سفيان، أصغر ضحايا البحر، ابن السنتين الذي اضطر أبواه بعد موته جوعاً وعطشاً إلى تركه في الماء

قوارب الموت واقع مؤلم يهز لبنان في كل فترة ويخلق صدمة ووجعاً بين الناس، ضحايا ومفقودون يبتلعهم البحر ويتركون خلفهم أهلاً وأحبّة مفجوعين. عائلات، أطفال ونساء وشباب يهربون من واقع قاسٍ ويبحثون عن مستقبل أفضل خلف البحار، سبيلهم الوحيد إليه قوارب صغيرة تحملهم تحت جنح الظلام في مسيرة هجرة غير شرعية محفوفة بالمخاطر. لكن البحر الغدار وظروف الهجرة القاسية غالباً ما تنهي المسيرة باكراً وتلقي بهم أجساداً عائمة على سطح البحر.

قوارب الهجرة غير الشرعية التي كان اللبنانيون يسمعون عنها بعيداً عن شواطئهم، باتت منذ بضعة سنوات واقعاً لا يمكن نكرانه وحلماً يسعى إليه الكثيرون من أهل لبنان والمقيمين على أراضيه من سوريين وفلسطينيين. موجة هجرة مستجدة بدأت تنطلق من شمال لبنان، بين طرابلس وعكار، عبر قوارب صغيرة غير معدّة للإبحار مسافات طويلة وشبكات من المهربين وجدوا في سعي الناس إلى الهجرة وسيلة لتحقيق الربح المادي. قوارب وصل بعضها بمشقّة إلى شواطئ الأمان في أوروبا لا سيما قبرص واليونان والجزر المنتشرة بينها، وأخرى كانت على موعد مع الموت والخطر المتربص في البحر فتحولت رحلتها إلى كوارث حصدت عشرات الضحايا والمفقودين.

مع بدء الأزمة الاقتصادية في لبنان وبالتزامن مع جائحة كورونا اشتدت موجة الهجرة من شواطئ لبنان الشمالية، وبات ركاب القوارب معظمهم من اللبنانيين بعد أن كانت الهجرة مقتصرة سابقاً على السوريين الفارين من الحرب والمآسي التي طالت بلدهم والفلسطينيين الهاربين من سوء الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشونها في لبنان. ومنذ العام 2019 بدأت تخرج إلى العلن قضية الهجرة غير الشرعية حتى بلغت أفظع تجلياتها مع أول حادثة غرق لمركب وسقوط ضحايا في سبتمبر 2020.. حينها ابتلع البحر أصغر ضحاياه الطفل سفيان ابن السنتين الذي اضطر أبواه بعد موته جوعاً وعطشاً إلى تركه في الماء…

«حلم الوصول إلى أوروبا يقول ابراهيم يحيى أحد أبناء طرابلس من الذين يعايشون واقع الشباب يومياً، هاجس يسيطر على الشباب وأرباب العائلات ويدفع بهم إلى المخاطرة بحياتهم من أجل تحقيقه. الحوادث القاتلة لم تثنهم يؤكد يحيى وكل من ركب البحر مرة ونجا من حادثة غرق مستعد لمعاودة التجربة بمركب مختلف أكثر أماناً، المهم أن يهربوا من واقعهم ويصلوا إلى هناك، إلى حيث الرزق والأمان».

فاطمة السعيد عاشت المأساة وشهدت وجهيها في آخر قوارب الموت التي انطلقت هذا الصيف. القارب الصغير حمل صهرها (زوج شقيقتها) وابنيه، وكان يفترض بها وبعائلتها الصغيرة مرافقتهم نحو الشواطئ الأوروبية لكن ظروفاً خاصة حالت دون ذلك. وُعدوا بمركب آمن مجهز بكل وسائل الملاحة وقيل لهم إن ربان المركب ينقل عائلته على متنه وأن عدد الركاب سيكون قليلاً منعاً لتحميل المركب فوق طاقته. لكن الوعود كانت كلها مجرد أكاذيب ولم يلبث المركب المثقل بحمولة مضاعفة أن تاه عن مساره وواجه ظروفاً جوية صعبة أسهمت في غرقه أمام السواحل السورية مخلفاً بذلك ما يزيد عن ٩٠ ضحية وأكثر من ثلاثين مفقود.

حين سمعت فاطمة وشقيقتها بخبر حادثة الغرق انتابهما الذعر والقلق. أين الوالد وابناه؟ لم يعرف أي من الناجين عنهم شيئاً، لم يُعثر على جثثهم. اتصال مفاجئ ورد من إحدى مستشفيات طرطوس: إنه أمجد ابن شقيقة فاطمة يتحدث إلى أمه يطمئنها عنه وأنه سبح ساعات طوال حتى وصل إلى الشاطئ. يطمئنها أنه شاهد والده وشقيقه يقفزان في البحر لكنه لم يعد يراهما أو يعرف ما حلَ بهما. نجا أمجد من الغرق لكن الوالد والشقيق لم يعرف مصيرهما ولم تظهر جثتيهما حتى اليوم.

كلمة واحدة تود فاطمة أن تقولها لأمجد ابن شقيقتها الناجي من الموت «ما بقى تعيدها» لأنها تعرف أن شباناً كثر سوف يعاودون الكرة. «ثمة أشخاص في بلدان أوروبا يرغّبون الشباب هنا بالحياة هناك تقول فاطمة. رفاق لهم يحثونهم على الهجرة ويخبرونهم أن مراكب كثيرة نجحت بالوصول إلى هناك. لقد حاولنا كثيراً إقناعهم بعدم الرحيل وجدوا مركباً يحملهم، باعوا ما يملكون لتسديد كلفة الرحلة التي قادتهم الى الهلاك». الألم عند العائلة ممزوج بالأمل، أمل عودة المفقودين وظهورهما من جديد في حياة العائلة الأمل موجود تقول فاطمة: «فقدان إنسان عزيز وعدم معرفة مصيره أصعب من الموت…»

لقطة من فيلم The Swimmers. (L to R) Manal Issa as Sara Mardini, Elmi Rashid Elmi as Bilal, Nathalie Issa as Yusra Mardini in The Swimmers. Cr. Laura Radford/Netflix © 2022

اليوم قوارب الهجرة شبه متوقفة لا لخوف منها أو لعدم رغبة الناس المقهورين في تحدي مصيرهم، بل لأن الشتاء موسم راكد. لا أحد فيه يجرؤ على تسيير مركب في طقس متقلب وبحر غدار قد يتحوّل إلى وحش يبتلع القوارب ومن فيها. الأزمات الحياتية تشتد ومعها الضغوط والفقر والبؤس والناس يبحثون عن سبل هروب من الواقع «لن تتوقف مراكب الهجرة قالها حسين وهو فلسطيني من مخيم نهر البارد أمام الشاشات، اليوم قدمت ابني ضحية ومستعد أن أقدم الخمسة الآخرين أيضاً لأنقذهم من حال البؤس التي يعيشونها هنا».

مآسي الهجرة غير الشرعية حركت مشاعر العالم أجمع سواء عبر الشاشة لنقل معاناة المهاجرين أو عبر العمل الفعلي على الأرض لإنقاذ هؤلاء وتقديم المساعدات الإنسانية لهم. فيلم «السباحتان» الذي يعرض على منصة نتفليكس يختصر صورة الهجرة بآلامها وأمالها، ويروي قصة الشقيقتين يسرى وسارة مارديني اللتين تحدتا البحر والموت وسبحتا حتى الإرهاق للنجاة بحياتهما من أهوال الحرب التي عاشتاها وأهوال البحر الذي خاضتا غماره. وقد حصدت قصة الشقيقتين تفاعلاً عالمياً وأثبتت شجاعة المهاجرين ومثابرتهم وروحهم الإنسانية لتحقيق أحلامهم.

من جهة أخرى، وفي طريقم البحري المحفوف بالمخاطر وسط أمواج المتوسط، تشرق على هؤلاء المهاجرين ومضة أمل تتجلى في المنظمات الإنسانية التي تجوب البحار لنجدة المهاجرين التائهين في الماء. Sea Watch منظمة إنسانية تجوب المتوسط على متن سفنها الخاصة لنجدة المهاجرين وإنقاذهم من البحر وحملهم إلى مخيمات اللاجئين في الدول المحيطة مثل اليونان وإيطاليا. وقد باتت جزيرة ليسفوس اليونانية مرفأ خلاص لهؤلاء حيث أقيمت مخيمات لاستقبالهم والعناية بهم.

تشرح هيلينا التي تعمل في إحدى المنظمات الإنسانية العاملة في الجزيرة مسؤولية هذه المنظمات وطريقة عملها قائلة: «همنا أولاً إنقاذ المهاجرين ومساعدتهم وتأمين احتياجاتهم الأساسية والعناية الصحية المطلوبة لهم ومساعدة من يحتاج إلى عناية طبية لا سيما من خلال منظمة «أطباء بلا حدود» ووضع تقرير صحي بحالتهم، ومن ثم وعبر وسيط ثقافي يتكلم لغة المهاجرين يتم إجراء المقابلات معهم لمعرفة هوياتهم وأسمائهم وفهم أوضاعهم ومن أي بلد أتوا. بعدها يتم توجيههم إلى مراكز المفوضية العليا لشؤون اللاجئين لتسجيلهم وتسجيل معلومات عنهم. بعدها يُرسل هؤلاء إلى المخيمات أو يتم تأمين مأوى لهم وتزويدهم بالطعام والشراب والملابس. وأضافت: «واجب المنظمات الإنسانية الأول مدّ يد الإنقاذ لأي شخص في وضعية خطر أما الشؤون السياسية وقبول البلد للمهاجرين أو ترحيلهم عنه فذلك شأن الحكومات المحلية، لكن المنظمات الإنسانية تعمل قدر المستطاع على مساعدة الحكومات في حال لم تتوفر لديهم الموارد المالية أو اللوجستية لاستقبال وإيواء المهاجرين». فقط لو يتخيل العالم نفسه مكان هؤلاء المهاجرين لاستطاع القيام بالكثير من أجلهم.

 

نشر الموضوع للمرة الأولى في عدد شهر يناير 2023

الاقتراحات
مقالات
عرض الكل
مجموعة ڤوغ
مواضيع