التقينا منى السعودي في محترفها، في حديقة سوريالية تختبئ بين المباني المرتفعة في سماء الخريف، جلسنا بين الحجارة والمنحوتات والحروف والقصائد وصور الأحباء والأصدقاء وأشجار الصبّار في قلب بيروت حيث استقرّت منذ عام 1969 وحيث احتفلت بمعارض عديدة سجّلت أبرز محطات حياتها الفنية منذ انطلاقتها عام 1963. وقد كان معرضها الأخير في بيروت أيضاً مناسبة لقائنا. فقد عُرضت تحت الأضواء الدافئة في غاليري صالح بركات (في بيروت) في مساحة مفتوحة بديعة منحوتات ورسوم أنجزتها منى السعودي بين عامي 1995 2017 مكملة ضمن الخط نفسه مسيرة غنية يطبعها الإصرار والحزم والاستسلام التام للموهبة والفن.
خارج الزمن
صديقة الحجر والمشغولة بفعل التكوين تمضي الأيام وهي تبحث عن “احتمالات الشكل” كما كتبت الناقدة خالدة سعيد. “طبعاً أتأثر بما يحدث في العالم حولي لكن الإصرار على الحياة الإبداعية رفض لهذا الانحطاط الذي نشهده، هو تمسّك بالعمق الجوهري النظيف. يتجه عملي نحو التجريد وليس المباشرة، هكذا أحمي نفسي من القاذورات. منذ بدأت حياتي الفنية، صمّمت على أن أشغل حياتي، التي سأعيشها مرة واحدة، بما يستحقها، وعلى المثابرة والإبداع مهما كانت الظروف. جزء كبير من منحوتاتي أنجزته خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وبيتي في بيروت قريب من منطقة “الهوليداي إن التي شهدت أقسى المعارك. أذكر أنني كنت أسمع أصوات القصف وأنا منكبة على عملي، فألجأ إلى استخدام الآلة التي تصدر ضجةً قويةً متجاهلة أصوات القذائف لاغية الخوف”.
ليس الإصرار على الإبداع في تجربة السعودي تحدياً للموت بل احتفال بالحياة كما تشرح: “يؤكد عملي على أفكار النمو والخصب والتكوين، على كل ما هو حيّ وإيجابي في الحياة. لا أفكر في مرور الزمن. منذ كنت في الثامنة عشرة، وأنا الآن في الثالثة والسبعين، لا أخفي عمري، ولا أفكر في مسألة التقدّم في السنّ”. تقول منى باسمة: “أحسّ بأنني أعيش خارج الزمن”.
الإصرار على الحرية
لأجل “الرغبة في البحث” التي كتبت عنها في نص عنوانه “الحجر الصديق”، لم تضيع منى السعودي أهدافها. “منذ كنت في الثانية عشرة عرفت أنني سأسافر وسأعمل في الرسم والفن والإبداع. وتحديت الجميع. تركت البيت في عمان إلى بيروت التي أردت منها الوصول إلى باريس لدراسة الفن. غادرت البيت بعدما أطلعت أختي التي تكبرني بعامين على خطتي، فأخبرت والديّ حين لم يجداني. وفي بيروت نصحني أخي بأن أكمل عامي المدرسي الأخير، وافقته شرط ألا أعود إلى عمان. فقصدت مدرسة الجامعة الوطنية في عاليه سعيدة بأنني سأكون وحدي في الجبل. ثم في نهاية العام الدراسي خضعت لامتحانات الثانوية العامة (التوجيهي) في مصر. تسكّعت شهراً في القاهرة قبل أن أنتقل إلى باريس حيث أرسلت رسالة إلى أبي شارحة فيها فلسفتي في الحياة. وبرغم أن والدي شخص ملتزم دينياً، لكنه كان يحب السفر وكان منفتحاً فكرياً، ففهمني، لكنه طلب مني أن أعود إلى عمّان في أول فرصة كي لا يبدو أنني كسرت كلمته على أن يوصلني بنفسه إلى المطار في طريق العودة إلى باريس. منذ ذلك الزمن انتزعت حريتي الكاملة في الحياة واعتمدت تماماً على نفسي. فالحرية تنتزع ولا تعطى. وتجاوزي الحدود حرّر نساء في عائلتي. فقد كانت النساء في عائلتنا إذا أنهين الأعوام المدرسية، يكملن الدراسة في دار المعلّمين ليعملن في التعليم. لكن عام عدت من باريس إلى عمّان، عرفت أن ثمة من أرسل ابنته للدراسة في موسكو وأن ثمة من تكمل تعليمها في باريس، ووجدت مَن تعمل في الإذاعة والتلفزيون”.
الإزميل والتكوين
قررت منى في باريس أنها تريد أن تصادق الحجارة وتعمل في النحت. “قررت أن أنحت الأشكال التي كنت أرسمها وكان كل مَن يراها يقول إنها أشكال نحتية. أذكر أنني كنت قد زرت [النحات اللبناني] ميشال بصبوص في قرية راشانا وسحرت بهذا العالم”. ومنذ تلك المرحلة البكرة عكست أعمال السعودي معاني إنسانية شاملة وثنائيات هي جوهر الوجود. ولم تتغيّر علاقتها بما تقدّمه منذ أنجزت أعمالها النحتية الأولى. “ما زالت الأشكال نفسها تسكنني، أول منحوتة أنجزتها عام 1965 كانت ناضجة (منحوتة أمومة الأرض)، وها أنا أستمرّ بالروح نفسها. تأخذ منحوتاتي أشكالاً كثيراً، وعندما أنحت لا أفكر في المعنى، أفكر في التكوين، كيف أكوّن المنحوتة، ثم أعطيها معنى قريباً لها أو عنواناً يكون مفتاحاً”.
لكن لماذا الإصرار على التجريد؟ نسأل. “أنا ابنة هذه المنطقة”، تقول منى، “نحن شعراء منذ آلاف السنين، عقلنا تجريدي. هذا ما تدلّ عليه المنحوتات القديمة، منحوتات الأنباط الموجودة في الأردن، والتماثيل السومرية، والمصرية كلها أعمال تجريدية إذا قارناها بالنحت اليوناني الذي بدا لفترة محددة تقليداً للنحت المصري، ثم تحوّل أشكالاً واقعية. في أوروبا حتى أوائل القرن العشرين، حتى رودان كانوا ينحتون ما يستمدونه من الواقع. أول من كسر هذا النمط في الغرب هو [النحات الروماني] برانكوشي”.
“العمل بالحجارة يحتاج إلى قوة روحية وتصميم وليس إلى قوة جسدية”
قوة الروح
هذا الإصرار هو “القوة الروحية” التي تتحدّث عنها منى. لا تعلّق على أنها امرأة نحاتة وعلى مَن يسأل عن دور القوة الجسدية في النحت، نحت الرخام والجرانيت والأحجار المختلفة. تقول إن “العمل بالحجارة يحتاج إلى قوة روحية وتصميم، وليس إلى قوة جسدية، فكثر بدأوا نحاتين ولم يستطيعوا الاستمرار. أما أنا، فلا أرى نفسي إلا في عالمي هذا. هذه حقيقتي ومهنتي التي أجتهد فيها حتى أن اسمي ارتبط بها منذ البداية كشكل من أشكال الاعتراف باجتهادي منذ عام 1971، منذ معرضي الأول في باريس في متحف الفن الحديث. كنت في بداياتي، وقدّمت طلب الانضمام إلى هذا المعرض الذي يضمّ أعمال أشهر الفنانين مثل جياكوميتي وبيكاسو وغيرهما. وقد قبل طلبي مباشرة، وعرضت منحوتة من رخام أشير إليها في المقالات التي كتبت عن المعرض. وقبل ذلك، منذ البداية الأولى معرضي الأول في لبنان سجّلت نجاحاً مفاجئاً. نظّم المعرض عام 1963 “في كافيه دو لا برس”، كنت في الثامنة عشرة وتجرأت عل عرض رسومي ولوحاتي التي كُتب عنها في أهم الصحف. ما أقصده هو أنني لا أطارد الشهرة، بل أعمل، واجتهادي في العمل جواز سفري في عالم الفنون. هذه طريقتي في الحياة، لا أفكر في التفرّد أو الشهرة. ما يهمّني هو الاستمرار في النحت، في البحث عن الأشكال بحثاً مجرّداً ومجتهداً بشكل حقيقي وأصيل وعميق ومسؤول. أعمل لأرضي وجودي أولاً، ولا أفكر في الآخرين في مَن يعجبه ومن لا يعجبه. لهذا أنا مقلّة في تقديم المعارض، أفضل أن أمضي وقتي في العمل. في معرضي الأخير هذا قررت أن أقدّم مختارات من أعمال أنجزتها بين 1995 و2017. رأيت أنني غبت عن ساحة المعارض وقتاً طويلاً، منذ عام 2005”.
الجوهر والشعر
منى التي كانت ساحة المدرج الروماني في عمّان ملعب طفولتها، تهتم بالجوهر أكثر من اهتمامها بالتفاصيل، هذا ما يقوم عليه فنها. “هناك من يهتم بالتفاصيل، وهناك من يهتم بالجوهر، لا بد أن نرى الأمور الإيجابية برغم الانحطاط والخراب الكبير اللذين نشهدهما. هناك أيضاً انحطاط فني. بعض الأعمال تعتمد على الفكرة التي تبدو أكبر من الشكل، لكن في الفن يجب أن يكون الشكل أكبر من الفكرة. لا أحب هذا الفن الذي أسمّيه Junk art، أين الفن في التفرّج على شخص ينام على عدد كبير من الفُرش؟ هذا الاستسهال لن يطول زمنه”.
تلهم القصائد منى فتتحوّل صورها منحوتات. “كل عملي الفني يأتي من ذاكرة شعرية، فلا أحاكي الصورة بل أبتكر أشكالاً للأفكار، هكذا تولد كائناتي الحجرية. وأنا أقرأ الشعر منذ كنت في الرابعة عشرة لأن أخي البكر كان يحب الشعر، وكانت مجلتا شعر والآداب موجودتين في بيتنا. قرأت لأدونيس وأنسي الحاج ثم تعرّفت إليهما في بيروت وأصبحنا أصدقاء”.
بين الصور الفوتوغرافية خلف الأطر المعلّقة بين المنحوتات صورة للشاعر الراحل محمود درويش. كثر رحلوا أقول لمنى، فتردّ: “يبقى الشاعر بيننا”، وتضيف: “هذا ما أشعر به. أرأيت صورة محمود درويش؟ كأنه معنا. حين أستمع إلى قصائده بصوته لا أستطيع أن أمنع نفسي من البكاء. كان يزورني مع أدونيس وسمير الصايغ، نجتمع كلّنا هنا في حفلة شواء. وكان أدونيس ومحمود بارعين في لعبة الطاولة، كانت ممتعة مراقبتهما وهما يتبارزان”.
“عملي الفني يأتي من ذاكرة شعرية، فلا أحاكي الصورة بل أبتكر أشكالاً للأفكار، هكذا تولد كائناتي الحجرية”
لكن هل أثرت علاقة منى السعودي بالحجارة في علاقتها بالبشر؟ “منحوتاتي اختزال، فيها تركيز واختزال، علاقاتي بالناس أيضاً مختزلة، عملي يتطلب أن أكون وحيدة. لا وقت للاجتماعيات، ولا أحب إطلاقاً الثرثرة أو التدخل في حيوات الآخرين. أحس بأنني أنجزت جزءاً صغيراً مما كان ينبغي أن أنجزه. وحين أقف أما حجر للمرة الأولى، لأبدأ العمل فيه، أحس بأنني أنحت للمرة الأولى. أعيش بين الحجارة، أنثرها حولي حتى بقيت لي في بيتي في بيروت مساحة صغيرة لأتحرّك فيها. هذا ما دفعني إلى بناء بيت خارج بيروت، في منطقة المشرف سيكون معرضاً دائماً وبيتاً لأعمالي”.
نشر هذا اللقاء للمرّة الأولى على صفحات عدد شهر نوفمبر 2017، من ڤوغ العربيّة. بقلم هالة كوثراني.
الأسبوع السعودي للتصميم ينعش الأجواء الإبداعيّة في مدينة الرياض