حالفني الحظ بالسباحة مع السلاحف البريّة في زنجبار، وأطعمتُ زرافات روتشيلد في كينيا، ومارستُ الإبحار المظلي فوق المحيط الهندي في موريشيوس، وسبحتُ مع أسماك الراي العملاقة (أسماك شيطان البحر) في المالديڤ، وتنزّهتُ سيراً على الأقدم عبر أنحاء مدينة البتراء الموغلة في القدم، وفعلت كل ذلك وأنا أرتدي الحجاب.
نُشِر للمرة الأولى على صفحات عدد أبريل 2019 من ڤوغ العربية.
لا أنظرُ مطلقاً لارتداء الحجاب أو الأزياء المحتشمة كعائق، إنه جزءٌ طبيعيٌّ وأساسيٌّ من حياتي، مثل عضوٍ من أعضاء جسمي – أحتاج إليه، لكنه لا يحدد مَن أكون. إنه طريقة للحياة ومنظورٌ لها، وينمُّ عن اتخاذ موقفٍ محدَّدٍ وليس مجرد قطعة قماش. ولم يكن الحجاب يوماً وسيلةً لتحديد ماهية امرأة ما، أو منعها من أن تكون “ظاهرة”، ولا هو شيءٌ تختبئ المرأة خلفه. أختارُ بكامل إرادتي وبسعادةٍ العيشَ بهذه الطريقة. إنني امرأة واثقة وحجابي لا يختزل ماهيتي. لذا، في المرة القادمة التي ترون فيها امرأة ترتدي الحجاب، افتخروا بها. يجب ألّا يكون الحجاب سبباً للتمييز أو النقد أو الحكم على الأخريات أو الشعور بالشفقة عليهن. إنه أمرٌ باعثٌ على التمكين أن تحظي بالتقدير لجوهركِ الداخلي وليس لمظهركِ الخارجي. ولم يمنعني الحجاب مطلقاً عن القيام بأي شيءٍ أرغب به، أو السفر إلى أي مكانٍ أريده، أو المشاركة في جميع الأنشطة. في الواقع إنه يبعث في نفسي التمكين.
لا أختار بتاتاً وجهةً للسفر أو نشاطاً ما بناءً على ما إن كان سيتم تقبُّلي كامرأة محجبة فيه، وما إن كانت طريقتي في ارتداء الملابس ستجذب نظرات الآخرين إلي، أو إن كنتُ سأبدو مختلفة عنهم في المطارات أو الوجهات السياحية. أحياناً أحقق جميع النقاط المذكورة آنفاً، فتكون الوجهات التي أقصدها مكاناً يتقبلني على الفور، ولا أحد يلاحظ وجودي فيها، حيث أتماهى تماماً مع الحشود، وهذا بالضبط ما حدث في الهند.
بعد رحلةٍ جوية استغرقت ساعتين إلى دلهي، وثلاث ساعاتٍ مبللة بالعرق بسيارة أجرة، واتصال من الفندق لإيقاظي في الخامسة صباحاً، ورحلة بالسيارة استغرقت 20 دقيقةً، وصلت أخيراً إلى تاج محل المهيب. للوهلة الأولى، أدركتُ أنني كنتُ لأسافر أبعد من ذلك بكثير لمجرد عيش بهجة هذه التجربة، وكانت آمالي كبيرة – لكن الواقع تخطّاها بكثير.
ورؤية تاج محل للمرة الأولى لحظة سيتذكرها جميع زوار أغرا إلى الأبد. وبعد نزولي في فندق ذه أوبروي أمارڤيلاز (تبدأ أسعاره من 399 دولارٍ أمريكيٍّ لليلة، Oberoihotels.com)، أخذتُ أراقب في خشوعٍ غروب الشمس خلف هذه التحفة المعمارية المهيبة. وتحول لون الضريح إلى ورديٍّ غسقيّ بينما كنتُ أصغي إلى صوت الأذان الذي يصدح في الأفق، وتتردَّد أنغام موسيقى بهايجان المحلية على تراس فندق أوبروي.
وبفضل خدمة الاتصال الهاتفي لإيقاظ النزلاء مبكراً التي يقدمها الفندق، تمكنتُ من استكشاف تاج محل عن قُرب للمرة الأولى بالإضافة إلى تجارب شخصية أكثر في هذا المكان. يمكن أن يستقبل الضريح نحو 40 ألف زائرٍ في اليوم الواحد، لذا من الأفضل ضبط موعد رحلتكم للوصول قبل شروق الشمس، لتتمتعوا بزيارةٍ سحرية في أجواء يعمها الصفاء والسكينة قدر الإمكان. وعندما تنثر أشعة الشمس ضوءاً رومانسياً خافتاً على الضريح المصنوع من الرخام الأبيض، فإنه يظهر على أرض الواقع أكبر كثيراً عن الصورة المتوقعة عنه.
ولا عجب أن هذا الموقع هو حلم كل مصورٍ فوتوغرافي -وإن توجهتم مباشرةً إلى الجامع الأحمر ناحية اليسار، ستشاهدون منظراً محاطا بإطار لتاج محل دون ظهور حشود كثيرة في الصورة. ابحثوا عن حارس الجامع، فهو يعرف الكثير عن الأماكن المناسبة لالتقاط صورٍ رائعة جديرة بنشرها على انستقرام. قضيتُ ساعةً بهيجةً وأنا أستمتع بذلك المكان برفقة مرشد، وغمرتُ نفسي بقصة حبّ شاه جهان التاريخية، والذي أمر ببناء تاج محل تكريماً لزوجته ممتاز محل كرمزٍ للحب الأبديّ. وتماماً مثل قصة الحب تلك، فإن المناظر الجميلة لا تنتهي.
وبعد ذلك سرت لمدة عشر دقائق على طول ضفاف نهر جمنة لأركب قارباً أشاهد على متنه إطلالةً مذهلة أخرى لتاج محل. ومع وجود بقرة شاردة وحسب تؤنس وحشتي، كنت أشعرُ بشيء من القلق. لكن بحثي أشار إلى أنني سأجد شيئاً جميلاً، لذا واصلت رحلتي. ولدى وصولي إلى القارب، ألقت عليَّ مجموعةٌ من الكهنة التحيّة، بينما شكّلت أنغام موسيقى بهايجان الدينية وضفاف النهر الملوثة مشهداً مفزعاً بعد الهدوء والصفاء الذي ساد في تاج محل. وساعدني الملّاح مانوج في الصعود على متن زورقٍ سريعٍ. وأخذت انعكاسات الضريح المذهلة فوق سطح الماء تأسر قلبي وحواسي.
وبعد هذه التجربة التي لا تُنسى، ركبتُ السيارة لمدة ست ساعات في طريقي إلى جايبور، وتوقفت في بلدة فتح بور سيكري المدرجة على قائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي. وإن وصلتم وقت الظهيرة، ستستقبلكم أنغام موسيقى القوّالي الجميلة التي يتردد صداها على جدران الحصن المصنوعة من تربة سينا المحروقة. ولسوء الحظ، أفسد تجربتي محتالون مشاكسون أخذوا يضغطون عليَّ للتبرع للفقراء في الضريح. ولكن لا حاجة للخضوع لهم، لذا واصلت رحلتي إلى جايبور، المدينة الوردية.
ازدان الطريق إلى هناك بمشهد ثري بالألوان من المناظر الطبيعية المتبدِّلة، مع نساء يرتدين أثواب الساري ذات الألوان الفاقعة، ويوازنَّ فوق رؤوسهن قدوراً فخارية بينما يسرن بجوار البيوت المسقوفة. وتواصلت هذه النزعةُ نحو الألوان الكثيفة عندما نزلت في قصر سوجان راج محل المثير، وهو قصرٌ أسطوريٌّ يمتلكه مهراجا جايبور الحالي (تبدأ أسعاره من 436 دولارٍ أمريكيٍّ لليلة، Sujanluxury.com). ولا يمكنكم زيارة جايبور دون المكوث في قصرٍ! ويمثّل قصر سوجان بهجةً للناظرين، وكلُّ غرفةٍ من غرفه الأربع عشرة مصممة على نحوٍ مميزٍ وتزدان بورق جدران خاص بها يمتاز برسوماتٍ قوية ودرجات من الوردي والفيروزي. كما يقدم وجبات يسيل لها اللعاب، مع وجبات فطورٍ طويلة ومترفة على المروج الخضراء المشذَّبة تضم طبق ألو باراثا، وطبق دوسا، والبطاطس المتبلة.
وتمتاز جايبور بالكثير من المعالم التي تسرُّ خاطر عشاق المواقع السياحية، وعلى رأسها سيتي بالاس بأبوابه العديدة ثرية الألوان. ولن يضركم دفع مبلغ إضافي قليل من المال لمشاهدة الحجرة الزرقاء ومخدع المهراجا. ومشاهدة غروب الشمس في حصن ناهارغاره فرصة يجب ألّا تفوتوها – ولكن لا تقفوا على الجدار لالتقاط أفضل صورة ممكنة وإلا سيكون عليكم مواجهة أحد رجال الشرطة الذين يقومون بجولات حراسة! ولا تنسوا زيارة هوا محل، وهو قصرٌ مشيَّدٌ من الحجر الرملي الأحمر والوردي، ومن الأفضل الاستمتاع بمشاهدته وأنتم تحتسون كوباً من شاي الكرك في مقهى ويندز ڤيو كافيه. وأخيراً ليس بمقدوركم القول إنكم قد زرتم جايبور دون النزول على درج بئر بانا مينا كا كوند، وهو حوضٌ مغرقٌ في القدم لتخزين المياه. ويبدو الأمر كما لو أنكم عالقين في لعبة باك مان.
لقد أرضت الهند شغفي لكنها تركتني عطشى لاستكشاف المنطقة أكثر. ستحتاجون حقاً ألف حياة لاكتشاف الهند بالكامل. إنها أرضٌ مذهلةٌ بشعبها وتاريخها وثقافتها ومأكولاتها الجميلة، تنتظركم فيها المناظر الملهمة واللحظات الساحرة. وهي وجهة ستكافئ مَن يتمتعون بعقلية وتفكير إيجابي. أتحرَّق شوقاً للعودة إليها.
بقلم: سُكَينة راجابالي
والآن اقرؤوا: عبايات تاء مربوطة تعود إلى اللمسات الكلاسيكيّة بالأبيض والأسود