تابعوا ڤوغ العربية

الليدي كوكرن، دافعت عن إرثها حتى الرمق الأخير

غابت سيدة القصر وعاشقته…تركت تحفتها الفنية جريحة وسط مدينة تعاني الدمار. فما مصير هذا الإرث بعد رحيلها؟ هل سيترك لغبار الأ ّيام أم سيجد يداً حنونة تعيد له عزه؟

الليدي كوكرن

جلسة الشاي مساء الرابع من أغسطس لم تكن كتلك الجلسات الهادئة التي اعتادت إيفون سرسق أو الليدي كوكرن الاستمتاع بها في إحدى أنحاء قصرها المهيب في منطقة الأشرفية في العاصمة اللبنانية بيروت. عكّر الدخان المتصاعد صفو جلستها قبل أن تُصعق بصوت انفجار هائل هزّ العاصمة بيروت وأرعب سكانها ورمى بسيدة القصر على بعد أمتار فأصيبت بجروح وكدمات جسدية وجروح معنوية بسبب الدمار الهائل الذي لحق بقصر هو فعلاً تحفة فنية شهدت على حقبات زمنية طويلة تغير فيها وجه لبنان مرات عديدة بدءاً من الحرب العالمية الأولى والثانية، مروراً بالاحتلال العثماني، والانتداب الفرنسي وصولاً إلى استقلال لبنان. وبين الصدمة الجسدية والنفسية ضعف قلب الليدي واستسلمت للموت بعد أسابيع من الانفجار.

اسم “سرسق” ليس بالاسم الغريب فلا شكّ أن كثراً سمعوا بعائلة سرسق العريقة وسبق أن شاهدوا صوراً للقصر العظيم، ولكن قلة من الناس تعرف تفاصيل عن إيفون سرسق وعن حياتها وأعمالها وإنجازاتها، سيدة شهدت على حقبات كثيرة من التاريخ اللبناني وتركت أثراً كبيراً على صفحته.

ولدت إيفون سرسق في عائلة أورثوذكسية أرستقراطية في 18 مايو 1922 وهي ابنة اللبناني ألفرد بيه سرسق الذي أدى دوراً مهماً أيام الأمبراطورية العثمانية والأرستقراطية الإيطالية دونّا ماريا دي كاسانو التي “عاشت حياة ملتهبة في الدوائر الرسمية ومارست الأعمال الخيرية” حسب ما صرّح ردوريك ابن اللايدي كوكرن. توفي والدها حين كانت في الثانية من عمرها فأشرفت مجموعة من نساء العائلة على تربيتها تربية تقليدية ضمت والدتها النبية الإيطالية التي تأثرت بها كثيراً وسارت على نهجها في الحياة لاحقاً، وخالتيها إيزابيل ومالفينا، ودوقة أوزيس بالإضافة إلى معلمات مدرسة بريطانية في لندن ولعل هذا ما زرع فيها حساً نسوياً عالياً.

 تنقلت إيفون سرسق في حياتها بين نابولي والبيرو ولندن وإيرلندا وأماكن أخرى واختارت مدينة بيروت لتمضي بقية حياتها. في العام 1946، تزوجت إيفون من السير الإيرلندي ديسموند كوكرن، ضابط في الجيش البريطاني، خلال مأدبة غداء في منزل ابنة عمها ليندا سرسق وأنجبا ثلاثة صبيان مارك وألفريد ورودريك، ثم ابنة واحدة هي إيزابيلا بعد سنوات فترة طويلة زيّنت العائلة بطابع أنثوي طفولي فريد وأسرت قلب والدها.

ورثت “الليدي كوكرن” قصر سرسق وإرث العائلة العريق وعاشت فيه حتى مماتها، اهتمت به وأشرفت شخصياً على ترميمه بعد أن عاث به فساداً أشخاص لا خبرة لهم في الشأن التراثي وأساءت إليه إدارة كارثية تولتها والدتها وخالتها إيزابيل، وقد صرّح ابنها رودريك: “ثقتها بعمل الغير كانت معدومة لم ترد أن تسلّم أي أعمال لمن لا يقدّر القيمة التراثية التي تمثلها هذه الأبنية فهي لم تكن إطلاقاً على استعداد لتقديم أي تنازلات في هذا الشأن. “وهذا ما تؤكد عليه مديرة مكتبها السيدة ألين حداد حين قالت: “كانت اللايدي سرسق طريحة الفراش في المستشفى حين سألت عن حالة القصر بعد الانفجار. خوفاً عليها أخفينا عليها حجم الأضرار التي طالت مكاناً تعلقت روحها به تعلقاً شديداً. لمسنا الأمل بصوتها وهي تؤكد عزمها على إعادة بناء القصر”.

قصر سرسق وإرث العائلة لم يكن محور اهتمام إيفون سرسق الوحيد، فهي تعتبر من الشخصيات البارزة في بيروت منذ الستينيات فقد كانت رائدة في مجال الثقافة ومدافعة مندفعة عن تراث بيروت والأبنية المعمارية القديمة في وجه الهجمات العمرانية التي غيرت ملامح بيروت القديمة والأثرية ولطالما تأسفت على وجه بيروت العمراني قائلةً حسب ما ذكر ولديها: “كان النمو الذي شهدته بيروت في القرن العشرين عبارة عن فوضى إسمنتية ملوٍّثة دمرت النسيج العمراني الجميل وقضت على منظر البحر الذي احتضن بيروت،” واتهمت مراراً وتكراراً عملية إعادة بيروت بعد الحرب بتدمير مئات المباني التاريخية معتبرة أن هذه العملية مجرد “بدعةٍ” أخفت جشعاً وطمعاً كبيرين. ومرة أخرى نستشف حبها لبيروت وأبنيتها القديمة من حديث مديرة مكتبها ألين حداد التي أخبرتنا: “اتصلت بي قبل يومٍ من وفاتها تستعجلني الحضور إليها، كانت بدأت تفكر بخطةٍ لإعادة إعمار ما تهدّم من منازل وتريد إطلاعني عليها لنبدأ سريعاً بالعمل،” وأضافت: “ما هذه المرأة! امرأة في الثامنة والتسعين من عمرها ولا تزال معطاءة تفكر بالخير وبالمستقبل”.

وبالفعل لم توفر “سيدة القصر” جهداً أو وقتاً، فقد وقفت في وجه محاولات تشويه التراث اللبناني، وإعادة بناء التراث المعماري الذي دمرته الحرب الأهلية، وخاضت مسيرة طويلة من النضال الثقافي والفني، حولت في خلالها قصر سرسق إلى متحف حيّ ومولت ترميم قصر الصنوبر ومضمار سباق الخيل والكثير من الأعمال العمرانية الأخرى.

شغفها بالعمران وحرصها على العناية بالتراث المعماري والمحافظة عليه هو ما أعطى لهذه السيدة شهرتها في المجتمع اللبناني، إلا أن لإيفون سرسق وجه آخر تحدث عنه ولديها إيزابيلاً ورودريك. فهذه السيدة الأرستقراطية التي فتحت باب قصرها أمام أفراد المجتمع الراقي في بيروت، كانت في الوقت ذاته تعشق الملابس المريحة وتمضي ساعات طويلة في ملابس خفيفة تسهل فيها الحركة.

حرصت السيدة إيفون على تأمين أفضل تعليم لأطفالها فأرسلتهم في عمرٍ مبكرٍ إلى الخارج ليشرف على إعدادهم مربيات إنجليزيات أو سويسريات تماماً كما جرت العادة في العائلة العريقة. رغم إيجابيات الموضوع ومردوده الفكري والثقافي الرائع على الأطفال، يقول رودريك: “وجودنا بعيداً عن العائلة أصاب علاقتنا بوالدتنا ببعض الشوائب فحس المسؤولية عندها كان عالياً جداً.. أصابها نوعٌ من أنواع القطيعة لم تمنع والدتي من متابعة دراستنا وحياتنا المهنية عن كثب.”

عوّض زوجها اللورد ديسموند كوكرن هذه القطيعة فتقربّ من الأطفال عبر مشاركتهم عدد من الأنشطة كركوب الخيل وركوب الدراجات والسباحة والبينغ بونغ. تقول إيزابيل عن والدتها: “كانت أماً حريصة جداً تريد معرفة أدق التفاصيل فلا تتوانى عن الاتصال بنا عشرات المرات يومياً. إلا أنها لم تتفهم أن لكل منا حياته الخاصة ومصالحه التي لا تتقاطع بالضرورة مع مصالحها. لطالما أرادت أن تتدخل في تفاصيل حياتنا وأن تتخذ القرارات بالنيابة عنا.” ويستدرك رودريك قائلاً: “كل هذه التصرفات كانت نابعةً من حبها الكبير لنا ومن حرصها على تأمين أفضل مستقبلٍ لنا. كانت طريقتها لتُظهر لنا حبها. كانت أمي تشعر أنها تتفوق فكرياً على الكثير من الناس، لذلك لم تكن ترتاح إلا بمجالسة من يوافق على خياراتها.”

يضيف رورديك: “همها الأكبر والأول كان المنزل. أمي كانت سعادة هذا المنزل ومصيره. كان المنزل حياتها والملاذ الذي حماها من أهوال الحرب واستفاد هو بدوره من وجودها بين جدرانه ليبقى عصياً عن الدمار والتخريب.” عام 1978 كان عاماً مفصلياً في حياة سيدة القصر، ففي خلال هذا العام توفي زوجها اللورد ديسموند كوكرن الذي أحبته حباً عميقاً لمسه أولادها حين سمعوها تحدث نفسها وهي حبيسة غرفتها حزناً عليه قائلةً: “أرجوك انتظرني.”

مع مرور الوقت وتقدمها السنّ، أصبحت سيدة القصر الأم أقرب إلى أطفالها، تقول إيزابيل: “كنا نتصل ببعضنا البعض أربع مرات في اليوم. تمزح معنا وتروي قصصاً لطيفة عن عماتها المسنات،” ويضيف رودريك ضاحكاً: “كانت تفخر بكثرة المعجبين بها.”

أفنت إيفون سرسق عمرها تحمي قصر سرسق وتصون إرث عائلتها، لم تتخيل يوماً أن جهودها كلها ستذهب أدراج انفجار يهز بيروت المدينة الأحب على قلبها. ولكن رغم الصدمة أبت إلا أن تواجه الشدائد لا سيما وأنها كانت قد اتصلت قبل أيام من الانفجار بمساعدها طالبةً وضع خطةٍ لإنشاء حديقة عامة، وقد قالت لإيزابيل وهي ممددة على فراشها في المستشفى: “لا بأس، سنعيد البناء.”

سكت قلب سيدة القصر، ومعه انتهت الصفحة الأخيرة من ذلك الوطن الذي ولد من الأمل ووقع ضحية حكام عاثوا به فساداً ونهبوا ثرواته ودمروا جماله. ونعاها كثر ولعلّ ما كتبه الإعلامي ريكاردو كرم الذي كان أول من نعاها معلناً وفاتها أكثر ما يلامس القلب فقد كتب: “يقولون إنه عندما يموت رجل عجوز تحترق مكتبة… في الذكرى المئوية للبنان الكبير تحمل السيدة إيفون كوكرن 98 عاماً، التي شهدت تلك السنوات، وأصيبت في منزلها وهو بمثابة بلدتها قصر سرسق في 4 آب، إنجازاتها والمغادرون. أرفع القبعات وشكراً ليدي كوكرن”. رحلت سيدة القصر، فما مصير قصر سرسق؟ وهل ستخسر العاصمة اللبنانية بيروت أحد وجوهها العمرانية العريقة؟ هل ستنام سيدة القصر قريرة العين مطمئنة على قصرها الذي عشقت وعلى مدينتها التي بها هامت؟

اقرؤوا أيضاً: “هيئة العلا” تعلن افتتاح المواقع التراثية في المحافظة للزوار نهاية أكتوبر الجاري

الاقتراحات
مقالات
عرض الكل
مجموعة ڤوغ
مواضيع