بات الحجاب وغطاء الرأس يحتلان مكانة بارزة في عروض الأزياء، ولكن هل يمكن أن يُنظر إلى هذين الرمزين الإسلاميين عبر عدسات الموضة؟ الصحفية المحجبة إيمان مصطفى بار تجيب عن هذا السؤال.
رأي: ارتديتُ الحجاب خلال سنوات نشأتي بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. ولم يكن يُعتبر حينها من الأزياء “العصرية”. في الواقع، كان والداي يشعران بقلق بالغ على سلامتي حتى إنهما ألحّا عليّ بعدم ارتداء الحجاب. ولكن المراهقة الثائرة في داخلي رفضت الاستجابة لهما، لذا كنتُ أغادر منزلي كل صباح مرتديةً قطعة قماش مخضبة بالفوشيا ومزينة بكثير من التفاصيل أو مجللة بطبعة النمر ألفها حول رأسي بإحكام.
نُشر للمرة الأولى على صفحات عدد سبتمبر 2018 من ڤوغ العربية.
خلال سنوات المراهقة، كنتُ أقضي وقتاً في التسوق في قسم الرجال بالمتاجر أكثر من الوقت الذي أمضيه في قسم النساء. فقد كان من المستحيل أن أجد أزياءً محتشمة وعلى الموضة، لذا قررت في النهاية أن أصنعها بنفسي. بعدها أصبحت البناطيل الرجالية التي أنسقها مع بلوزة قصيرة فضفاضة، والأحجبة المطبعة، والأحذية اللافتة طابعاً مميزاً في مظهري – وكنت أضع عليها جميعاً أنشوطة ضخمة، استوحيتها من الأزياء الراقية، على نحو مدروس على الجانب الأيمن من حجابي. وقد لجأتُ إلى هذه “الإطلالة” بسبب غياب الشمولية في مجال الموضة حينذاك. ورغم أن أزياء المحجبات تلقى دائماً رواجاً في العالم العربي، كانت الخيارات محدودة أمامي كفتاة كندية تعيش في مدينة صغيرة تنتشر بها المروج الخضراء.
ولم يضع الحجابُ عوائق أمامي قط، رغم أن الناس في سائر العالم يظنون ذلك. ولكنه كان يذكرني بأنني في حاجة لتطوير مساحة لنفسي. فلم تكن الموضة تشمل نساءً يشبهونني أو تظهرهن، لذا كان لزاماً عليّ أن أبتكر إطلالاتي بنفسي. حتى الأمور المعتادة، كقص الشعر مثلاً، أصبحت من العقبات.
ربما يشكل الحجاب وغطاء الرأس أكثر الأزياء المثيرة للاستقطاب في عصرنا هذا. فقد شهدت هذه القطعة، المصنوعة من القماش المنسوج والتي لا تلفت الأنظار ولا يتعدى طولها مترين، ردود أفعال متباينة عالمياً، تراوحت ما بين المراقبة الإلزامية في بعض البلدان إلى الحظر التام في بلدان أخرى. وغدت مثل قطع شطرنج نووية يستخدمها السياسيون والشخصيات الدينية في جميع أنحاء العالم، ونقطة محورية في الحرب الأيديولوجية بين الشرق والغرب.
وفي الوقت الذي بدت فيه السياسة وكأنها قد بلغت ذروة تخبطها، اتخذت الموضة منحى يسارياً حاداً، انتقلت على إثره تلك القطعة بسلاسة إلى فئة الإكسسوارات الراقية. وأصبح الحجاب وغطاء الرأس يتهاديان على منصات العروض في باريس، وميلانو، ونيويورك، وظهرا في عروض غوتشي، ومارك جيكوبس، وڤيرساتشي، وييزي. وانقسمت ردود الأفعال. بعض المعلقين من الجمهور رأوا أن الموضة في تبنيها للحجاب وغطاء الرأس تجعل من قمع المرأة أمراً اعتيادياً، فيما رأى آخرون أن الرموز الدينية أصبح يُروج لها كسلع. وقال البعض إن ذلك يساعد على مكافحة ظاهرة الإسلاموفوبيا في الدول التي لا زالت لا تدرك هذه الحقيقة.
مَن قرر ظهور الحجاب؟ ومَن الذي يمتلكه حقاً؟ رغم أن هوس المصممين الأوروبيين والأمريكيين بالحجاب يبدو وكأنه قد ظهر فجأة، إلا أنه يرجع إلى عهد الاستعمار. فقد كان الحجاب، طيلة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، يفتن المسافرين الأوروبيين. وخلال ثورة التحرير الجزائرية، كان الجيش الفرنسي يقيم “احتفالات لنزع الحجاب” حيث كانت النساء يجبرن على خلع حجابهن للتأكيد على اندماجهن في الثقافة الفرنسية. ولكن هذه الاحتفالات أتت بنتيجة عكسية – وأصبحت النساء يرتدين الحجاب رغبةً في التحدي. ولكن، بعد تحرير الجزائر عام 1962، قررت النساء التخلي عنه.
والآن تريد الموضة أن تقول أيضاً كلمتها. لذا بات يُشاد بالمصممين الغربيين، في الموسمين الماضيين، لإدراجهم الحجاب وغطاء الرأس في عروض الأزياء، ولكن هل يجب علينا نحن –النساء المحجبات– الاحتفال بذلك؟ تقول هبة جلول، المدوِّنة الأمريكية من أصل لبناني المعنية بالأزياء المحافظة: “كامرأة محجبة، كنت أود أن أشعر بالحماس بسبب هذه التغييرات، ولكني مترددة. فقد أطلقت النساء المسلمات صناعة الأزياء المحافظة ولكن يجري استبعادنا حالياً عن عمد”.
ويبدو أنها محقّة في هذا الرأي، إذ أن الإطلالات التي يُروج لها على منصات العروض ليست أكثر من إعادة لصيحات التصميم التي أتقنتها المسلمات في أرجاء العالم ولم تكن تلاقي سوى التجاهل. وقد رأينا القبعات القشية العريضة والأحجبة المنسوجة من الشيفون في عرض مجموعة مارك جيكوبس لخريف وشتاء 2018، وهي إطلالات أساسية في جميع بلدان الشرق الأوسط ومدونات الموضة المحافظة حول العالم. وحتى الحجاب الضيق الذي نسقته علامة كرومات مع فستان بلا أكمام وليغينغز في عرض مجموعتها لخريف وشتاء 2018 يمكن مشاهدته في ملاعب المدارس، وترتديه الفتيات المسلمات المراهقات منذ سنوات.
بيد أن أكثر ما يثير قلق هبة من ناحية إطلالات الحجاب وأغطية الرأس التي تظهر في عروض الأزياء هي اللغة التي تُستخدم لوصفها واختيار العارضات. فرغم أن الإطلالات “المستوحاة” من الحجاب شوهدت كثيراً طوال عروض ربيع وصيف 2018 وخريف وشتاء 2018، لم يُشر مصمم واحد إلى هذا الزي باسم الحجاب أو يذكر النساء المسلمات على الإطلاق. وتتساءل هبة: “لماذا لم تشارك حليمة آدن في عرض غوتشي؟ كان يمكن لغوتشي أن تستعين بامرأة مسلمة فعلاً لترتدي الحجاب في عرضها. ولكنها أحجمت عن ذلك”. ولم يختلف عرض مارك جيكوبس. وعنه تقول هبة: “أظهر نساءً يرتدين الحجاب، ولكن لم تستخدم العلامة مطلقاً كلمة حجاب. كما لو كانوا يحاولون محونا”، وذلك على الرغم من أن صناعة الأزياء المحافظة تكاد تكون قد حظيت بشعبيتها بفضل المسلمات حصرياً. فقد أقمنا أسواقاً لنا، واستشرفنا اتجاهات الموضة الخاصة بنا، وأسسنا شركات ناجحة. وعبر تطبيقات مواقع التواصل الاجتماعي، أصبحنا رائدات في هذا المجال الهائل ما أجبر بعضاً من أشهر دور الأزياء على الاعتراف بنا وبحجابنا.
وتوحي الزيادة المفاجئة في عدد العارضات اللواتي يرتدين الحجاب بأن استغلال الحجاب تجارياً يفيد النساء المسلمات. فقبل خمس سنوات، لم نسمع عن وكالة للعارضات عيّنت عارضة محجبة بدعوى أنه من الصعب الاستعانة بامرأة تلتزم بقواعد دينية صارمة في ارتداء الأزياء. ولكن في هذا العام فقط، شاركت العارضات المحجبات في عروض أكبر الأسماء في عالم الموضة – وهو تطور لم يكن ممكناً إلا بعدما اقتحم الحجابُ المسارَ الرئيسي للموضة. وفي وقت سابق من هذا العام، أصبحت شهيرة يوسف أول عارضة محجبة توقع عقداً مع وكالة ستورم مانجمنت، لتلحق بها زميلتها إكرام عبدي عمر.
وفي عام 2017، سجلت حليمة آدن، العارضة المحبوبة حالياً بين صُناع الموضة، إنجازاً تاريخياً كأول عارضة أزياء مسلمة محجبة تشارك في أسبوع الموضة في نيويورك عبر عرض الموسم الخامس لعلامة ييزي. وواصلت تحطيم جميع الحواجز عندما تألقت على أغلفة إصدارات ڤوغ حول العالم – منها عدد يونيو 2017 من ڤوغ العربية، وعدد مايو 2018 من ڤوغ البريطانية، وعدد يوليو 2018 من ڤوغ للمراهقين. ولكن هل ينبغي للمسلمات أن يشعرن بالامتنان لأنهن يحظين الآن بمقعد على طاولة الصناعة التي أسسنها بأيديهن؟ فرغم الضجة المثارة حول ظهور الحجاب في عروض الأزياء بما يساهم في أن يعتاد الرأي العام على هذا الزي، إلا صناعة الموضة الراقية يجب أن تتحمل مسؤولية القيام بالمزيد تجاه النساء اللواتي يقفن وراء رواج الحجاب: وعليها أن تحب النساء المسلمات مثلما تحب أذواقهن. ولكن هل يجب اعتبار الحجاب من صيحات الموضة؟ نجيب بالموافقة لأن أزياء النساء ستظل دائماً يُنظر إليها عبر عدستيّ الموضة والسياسة.
أما أنا فقد حبستُ أنفاسي في أجزاء من عرض غوتشي. ولكني توقفت. فقد شعرتُ أنا البالغة من العمر ما يزيد على عشرين عاماً بالغضب، في حين كنت سأرى عالماً من الفرص لو كنت في الثانية عشرة من عمري. ولكننا جميعاً نحتاج إلى أن ندرك أن الأحلام يمكن أن تتحقق. ورؤية مظاهر الاحتفاء بالحجاب وغطاء الرأس بصرف النظر عمن يقوم به – خير شاهد على ذلك.
والآن اقرئي: تعرفي إلى مغنية الراب المحجبة نيلام حكيم التي غيّرت وجه عالم الموسيقى
تصوير: ميرييا دي ساغارا
تنسيق أزياء: مارتا باريس
مكياج: كريستيانا زاولا باستخدام مستحضرات مارك جيكوبس بيوتي
العارضة: هانا بالاما من وكالة ماد موديلز