تابعوا ڤوغ العربية

رسالة إلى فيروز…

فيروز، بعدسة رين بوري. Magnum Photos

هذه المقالة هي أكثر من تحية وأعمق من رسالة حب وأبعد من تعبير عن الامتنان لصوت وحضور ودور فيروز الرائدة مرتين والمجدّدة الأولى للأغنية العربيّة

نشر للمرّة الأولى على صفحات عدد شهر مارس 2018 من ڤوغ العربيّة، بقلم عبّاس بيضون.

لبنان جبل وساحل، ميشال شيحا الشاعر والمفكر والمصرفي كان بهذه الصفات يملك حقّ التعبير عن لبنان، تكلّم عن بلد هو خليط هجرات وغزوات. بلدٌ الساحلُ يفتحه على العالم والجبل يحصره في نفسه وفي مناطقه وعائلاته وجماعاته وطوائفه. ها هما وجها لبنان، وجه انفتاح ووجه انغلاق، الوجهان يختلطان ويتشابكان بقدر ما يتناقضان ويتعاكسان. لكنهما، في اجتماعهما وتضادهما، يولّدان الخاصية اللبنانية، دينامية الابتكار والاختراع والمزج بين الأصالة والتجدّد وبين التمرّس والحرية، وبين التقليد المتين والتفلّت والانطلاق. الأمر هو نفسه في الحياة الاجتماعية، هنا لغات (البلد ثلاثي اللغات) وحريات وحقوق شخصية في الوقت الدي ينفجر فيه أي خلاف ويتحوّل إلى صراع أهلي بالسلاح أو بالألفاظ، لكن ثمة نزوعاً إلى تكوين ثقافة وفنون ثقافة وفنون تتعالى على العلاقات الأهلية وتذهب أبعد منها. من هنا تنبع التجربة الرحبانية وفيروز قلبها وتجسيدها الأول.

فيروز التي تستدعي وهي على المنصّة اليمامة بزوايا ومنحنيات وجهها وقامتها، والموحية في وقفتها بثباتها واضطرامها الداخلي وخصوصيتها، تكاد تكون شعار حركة شملت العالم العربي، عقب انتشار طبقة من المثقفين المتململة من الموروث الثقافي والفني، والطامحة إلى فن في مراميه وإيقاعاته، يتحرّر من واحديته وعموديته ويطلّ على موضوعات وأحاسيس ومخيالات، ليست جديدة ومتعدّدة فحسب، بل هي مبنية وقوية وذات أصالة حقيقية. كأنّ الغناء الفيروزي مفاجئاً لأنه وإن كان بكراً وجديداً فإنه لم يكن مبتدئاً. ولأنه بدأ ناضجاً وقوياً، رغم تجريبه واسترساله في التجريب، بل يمكن القول إن قوته الفائضة نفحت هذه التجريبية بجمال إضافي. لقد بدت الحركة الرحبانية متواقتة مع مثيلات لها في الأدب (الشعر بوجه خاص) والتصوير والمسرح، لكنها كانت بينها الأكثر اكتمالاً وأصالة، بحيث لم يدُر حولها بين مثقّفي تلك الحقبة السجال والردود التي ثارت حول تلك الأغراض الأخرى. وجد هؤلاء المثقفون في الغناء الفيروزي نموذجاً ليس أقلّوياً، بحيث أنه اجتذب الكثيرين وطغى القبول به على رفضه، وباتت له في وقت محدود شعبية ظلّت تتزايد من عقد إلى عقد ومن جيل إلى جيل. مع ذلك لم يكن الغناء الفيروزي أقلّ من شركائه في الفنون الأخرى تجديداً، بل لعلّه فاقها في هذا المجال. كان هذا الغناء، رغم تغذيه بالفولكلور، فريداً في الغناء العربي، الذي لاتصاله بالتجويد والترتيل الإسلاميين يبدو ذات واحدية تماثل الأوزان العروضية، أي التنويع ضمن الواحد، بحيث يغدو هذا التنويع الذي لا يزال يرجع إلى الواحد، فناً قائماً بحد ذاته، وبحيث يطغى الوزن، مع التنويع عليه، على الغناء كلّه. وعلى ما عداه، فيبدو كأن الموضوع وما يثيره من أخيلة وأحاسيس وذكريات مهمل أساساً، بل يبدو وكأنّ استنهاض هذا العالم الداخلي والإيحاء به لا يشغل الغناء الذي تكاد تقتصر علاقته أساساً بجمهوره، ومسعاه لدى هذا الجمهور، عل استنهاض ذاكرته السمعية، وإشغالها بالتلوين الصوتي والتفنّن في الترجيع والتلوين واللعب على الأصل.

لا شك أن هذا “التطريب” الذي يشبه أن يكون نسقاً أوبرالياً عربياً على الأقل، هو تقليد عريق ووارث أصيل لا يشبهه من هذه الناحية إلا الشعر. هذه الالتفاتة فرار من إقحام الغناء الفيروزي في معركة عقيمة هي التحزّب للقديم مقابل التحزّب للجديد، غناء فيروز الفولكلوري غير غناء الآخرين. هنا لا يبدو الفولكلور مناسبة ضيعوية، إنه حنين إلى قرية أسطورية وعالم في طريق الزوال. الصوت الفيروزي يبدأ من هذا الحنين ليلامس عوالم مطوية في الذاكرة واللاوعي والمخيّلة، عوالم وأشواقاً وعصباً. في صوت فيروز هذ الحضور الذي يشمل الداخل ويوقظ المرء على نفسه وعلى باطنه. الغناء الفيروزي لا يحبس السامع في طياته وانعطافاته، لا يأسره فقط في خبايا الصوت. إنه يحرّر المرء، يحرّر النفس بحيث لا يتذوّق المرء الصوت فقط بل يتذوّق نفسه وروحه، يشعر كأن الصوت يخرج منه، كأنه يحكيه ويقوله، كأن نفسه منشورة طالعة. ثمة هنا أمامه أكثر من فسحة وأكثر من زمن، إنه أمام أشواق وهواجس ومخاوف ولهفات وتساؤلات وتأملات وأفكار وعذابات ومواقف ووساوس ومشاهد ولحظات قلق وصراع داخلي. قد لا يكون هذا كلّه في النص المغنّى وفي كلماته، لكن الصوت الفيروزي لا يحتبس في النص، إنه يعيد خلقه، بل ويذهب إلى أمامه أحياناً، ويكوّن في مقابله نصاً موازياً. فالصوت يحمل النص ويحمل الكلمات، لكن إلى أعمق ما فيها، إلى ما يكون عمقاً إضافياً، وأحياناً إلى أبعد منها. ذلك أن الصوت الفيروزي مع الكلمات التي يغنيها، مع الصور التي يستثيرها، مع الآفاق التي يفتّحها، من كل ذلك ينبني عالم قائم بنفسه، عالم بين الصوت والسامع، بين السامع ونفسه، عالم يقع فيه المرء على الحيّ في ذاته، يستطعم بداخله وقد تحرّر وانفتح، يتذوق هذا الداخل ويفرح بهذا الضوء وتلك المعرفة. إنها لحظات التوحد مع الفن، لحظات التسامي لكن أيضاً التحسّس والشعور بمعان أخرى للحياة والتجربة. لهذا يجب أو يفترض أن يكون السامع ماثلاً لهذا الغناء وذلك الصوت. هذا لا يعني اشتراطاً ولا فرزاً، الصوت الفيروزي بالتأكيد يؤهل مستمعه ويجتذبه بل هو مع أمور أخرى يصنع هذا النموذج ويعيد تكوينه. إنه فنّ بكل معنى الكلمة، يجعل المرء فوق نفسه، ويجعله يفرح بوجوده ويلمس عصب هذا الوجود أو يخترعه، على أن يملك استعداداً لذلك. صوت فيروز شعبي لأنه يستثير هذا الاستعداد، لدى الكثرة الكاثرة من الناس، لكن هذا لا يشمل من لا يطيق أن يتوقف ليسمع نفسه أو يبصر فيها. هذا الجمهور الشعبي تجعله علاقته بالصوت الفيروزي وتمرّسه بهذا الصوت، نخبة وتجعل من تمرّسه بالذاتي تدريباً روحياً. الغناء الفيروزي يوجد النخبة ويشارك في صنعها. ليس فقط فناً يؤسّس للذوق لكنه بالقدر نفسه يؤسس للثقافة وللرقي في العاطفة والرقيّ بالإحساس. إنه بذلك جزء من ثقافة راقية، ويمكن هكذا أن نجد له دوراً في رسم العلاقات وبناء التجربة.

الحب في الأغنية العربية زمن واحد. ليس هذا شأن الأغنية الفيروزية، الحب فيها ابن لحظة، ابن ملاحظة أو واقعة أو حدث جزئي كما هو ابن مشهد فحسب. ليس الحب وحده كذلك. زمن الوطن والطفولة والفراق والعلاقات من أي نوع، هو أيضاً لحظات وحكايات الزمن الواقعي والمادي، أذكر هنا «اسهر بعد اسهر» و«بكتب اسمك يا حبيبي» كنموذجين لما هو عام في الأغنية الفيروزية. هكذا يجمع الغناء الفيروزي بين التسامي والواقع، بين الاسترجاع والحنين واللحظة والمشهد الجزئيين. أكثر من زمن وأكثر من علاقة في الأغنية الفيروزية.

عبرت فيروز الثمانين، إنها كبيرتنا، لكن في ما يتعلّق بالعمر استطاعت فيروز في شبابها وكهولتها أن تكون مرتين المجدّدة الأولى للأغنية العربية. بعدما أتمّت الدورة الأولى التي نسميها تجاوزاً “رومانسية”، استطاعت في الدورة الثانية أن تحيي أغنية اليوميات والتعليق المباشر. فيروز كبيرتنا وتبقين كذلك. نحيّيك ونحتاجك لدورة ثالثة.

استمعوا إلى أجمل ما غنّت فيروز هنا

الاقتراحات
مقالات
عرض الكل
مجموعة ڤوغ
مواضيع