تابعوا ڤوغ العربية

حارسة الحقيقة: نادين لبكي تستثمر موهبتها في دعم التغيير

نادين لبكي ترتدي فستاناً من إيلي صعب. بعدسة درو جاريت لصالح عدد أكتوبر 2018 من ڤوغ العربيّة

نادين لبكي تغيّرت. حياتها بعد فيلمها الأخير كفرناحوم ليست كحياتها قبله. بين كان وبيروت كشفت لنا المخرجة اللبنانية كيف يمكن أن يتجاوز فيلمٌ حدودَه السينمائية ليصبح في حياة البعض نقطة التحوّل.

دخلت نادين لبكي صالة السينما في وسط بيروت، جميلة كعادتها، أنيقة ببساطة في زيّها الأبيض. حيّتنا وعيناها تنطقان بمشاعر متشابكة، انفعال وحماسة ورهبة وحنان وأسى ورضا. انسحبت وانطلق العرض الأول لأحدث أفلامها كفرناحوم الذي وقع عليه الاختيار للمنافسة على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي 2018 حيث نال جائزة لجنة التحكيم، كما وقع عليه الاختيار أيضاً ليمثل لبنان رسمياً في حفل الأوسكار عن فئة الفيلم الأجنبي في العام القادم.

اختارت مخرجة فيلم سكر بنات (2007) وفيلم وهلأ لوين (2011) عنواناً يوحي ببؤس الفوضى. على الشاشة بيروت أخرى لا نراها إذا لم نقصد رؤيتها، إحدى الطبقات المخفية في المدينة العجيبة. زين، بطل الفيلم البالغ من العمر 12 ربيعاً (ويؤدي دوره اللاجئ السوري زين الرافعي)، قرّر أن يقاضي أمه وأباه لأنهما أنجباه، طفل يتخبّط في فقره ويحاول أن يدفع عنه إهمال والديه وقسوة مجتمع لا يعترف بوجوده. تدور أحداث المشاهد الأولى في غرف ضيقة خانقة، ليست ديكوراً في استوديو، حيث لا مياه ولا كهرباء ولا دفء ولا حنان ولا أمان. تواجهنا الشاشة بما نراه ونتجاهل رؤيته لإحساسنا بالعجز عن المساهمة في الإنقاذ.

نادين لبكي ترتدي فستاناً من بوتيغا ڤينيتا. بعدسة درو جاريت لصالح عدد أكتوبر 2018 من ڤوغ العربيّة

قررت لبكي مواجهة عجزها بالكاميرا، بما تجيد أن تصنعه، السينما. تخبرنا أنّ «العمل السينمائي هو ما أجيد القيام به. السينما أداتي والوسيلة التي أتقن التعبير بها. أحاول من خلال هذه الوسيلة المساهمة في الحدّ من الخراب الذي يحيط بي لأتحمّل مسؤوليتي كفرد في هذا المجتمع وكفنانة أيضاً. فأنا أؤمن بأهمية التزام الفنان بالدفاع عن قضايا مجتمعه مثلما أؤمن بقدرة السينما على التغيير».

والمخرجة، التي لعبت عدة أدوار أمام الكاميرا كممثلة، تفهم تماماً معنى أن تخرج من الصالة وقد تغيّرت. تقول: «يمكن أن تغيّر كلمة أو جملة أو ربما موقف في مشهد معيّن رؤيتك لأمر ما، ولا أقصد بالضرورة الأفلام العظيمة التي لا تفارقنا. هذا ما يحدث عندما نقرأ كتاباً. لكنّ للسينما وقعاً أكبر، فهي أقوى من أقوى خطاب. وإذا نجح فيلم في التأثير في المشاهدين، يمكن أن يمتدّ هذا التأثير إلى مستويات مختلفة. هذا ما يدفعني إلى البحث بعد كل تجربة سينمائية أخوضها عن موضوعات أشدّ عمقاً ووقعاً».

تصرّ لبكي على أنها تقصد تحمّل مسؤوليتها كمخرجة سينمائية وليس كإنسان فحسب. «أنا أحترم مدرسة تقدير سحر السينما الهادفة إلى الإمتاع وحماية العمل الفني من التوثيق الفجّ. لكني كمخرجة أبذل طاقاتي كلّها خلال التجهيز لعمل جديد. يتعبني الفيلم بل ينهكني، لذا من غير المعقول أن يكون هدف أفلامي الإمتاع فقط أو الاكتفاء بالتركيز على القيمة الفنية، أي جعل الفن الوسيلة والهدف. أفهم وأحترم تقديم عمل هدفه فني بحت، لكن أفضّل أن أخدم قضية ما، وأؤمن بأن السياسة تحتاج إلى الفن لأجل أن يحدث التغيير الذي بدوره يتطلّب منا التزاماً واهتماماً بما يحصل حولنا. أرى الفنّ الطريق الوحيد نحو التغيير».

نادين لبكي ترتدي فستاناً من برادا، ومعطفاً من بوتيغا ڤينيتا. بعدسة درو جاريت لصالح عدد أكتوبر 2018 من ڤوغ العربيّة

من هذا المنطلق قررت نادين ألا تدير وجهها للأطفال المهمّشين في شوارع بيروت. هؤلاء الأطفال هم ضحايا الظلم الاقتصادي في نظام اجتماعي لا يحمي حقوق المواطنين كلّهم أو هم ضحايا الحروب والصراعات الإقليمية، هربوا من الموت في سوريا إلى موت بطيء في لبنان. «كيف يمكن أن أشهد هذا الظلم وأدير له وجهي؟»، تتساءل نادين.

وتضيف: «يدير الكثيرون وجوههم لأن المعضلة هائلة وتشعرنا بالعجز، ويظنّ آخرون أن في مساعدة ولد يتسوّل دعماً لمافيا من المتسوّلين. أردت أن أعرف كيف يعيش هذا الطفل الذي يلصق وجهه بنافذة السيارة حين تتوقف عند إشارة المرور، وما الذي يفكر فيه، وكيف يرى المجتمع الذي يهمّشه. لا أحد يشعر بهؤلاء الأطفال، بل هم في نظر المجتمع غير موجودين لأنهم في معظمهم لا يمتلكون أوراقاً رسمية تثبت وجودهم. معظمهم لا يعرفون كم يبلغون من العمر، وما احتفلوا منذ ولدوا بأعياد ميلادهم». من هنا مشهد بقايا قالب الحلوى والشمعة في الفيلم؟ «كلّ مشهد محمّل بإشارات إلى ما رأيته في مرحلة التوثيق».

على الشاشة نتعلّق بعينيّ زين الذكيتين بعد هروبه من والديه اللذين باعا شقيقته إلى مالك المنزل. الهروب يقوده إلى العيش في بيت من تنك مع الأثيوبية راحيل (تلعب دورها الممثلة يوردانوس شيفرو) لكي يجالس طفلها ذا العام الواحد بعد خروجها إلى العمل. العلاقة بين الولدين، حوار النظرات والتواطؤ بينهما لمقاومة الموت والجوع، أجمل ما في الفيلم، تسترسل نادين في حديثها عن زين الرافعي.

نادين لبكي ترتدي معطفاً من شانيل. بعدسة درو جاريت لصالح عدد أكتوبر 2018 من ڤوغ العربيّة

«منذ اللحظة الأولى بدا لي زين مختلفاً. خلال لحظات الغضب من الدنيا مع بداية خوضي هذه المغامرة رسمت صورة تمثّل ولداً يصرخ قبالة مجموعة من الراشدين. هذا الولد الذي رسمته يشبه زين الرافعي إلى حد مخيف. قوة تتجاوزني سمحت لي بأن ألتقي هذا الطفل الأعجوبة صاحب الذكاء الفذّ».

ومع مسؤولة اختيار الممثلين، جينيفر حداد، سعت لبكي إلى انتقاء أشخاص تعكس حياتهم حياةَ شخصيات فيلمها، وتختار نادين كلمة “غرام” لوصف علاقتها بالممثلين في فيلمها، والذين طلبت منهم خلال التصوير أن يكونوا أنفسهم، ألا يمثّلوا. «كانت تعليماتي تعيدهم إلى حياتهم الخاصة وما اختبروه من آلام. يكفي أن يعودوا إلى ذكرى مشابهة لأحداث القصة حتى تتلألأ الدموع في العيون ثم تنهمر. وأنا حرصت على الاختفاء بعد لحظة انسجامهم في المشهد. أردت أن تغيب الحدود بين الواقع وتمثيله، فلم تُسمع كلمة ’أكشن‘ مع بداية التصوير. في العادة يخدم الممثلُ النصَّ، لكننا في هذا الفيلم كنا جميعنا في خدمة الممثل». وخلال التصوير أصبح الواقع بتفاصيله مرآة للفيلم.

«بعد ثلاثة أيام من بدء التصوير، سُجنت شيفرو في الحقيقة مثلما سُجنت في الفيلم، كما قُبض على أهل الممثلة بولواتيف تريجور بانكول، التي تلعب دور ابنتها في الفيلم للسبب نفسه، وهو بقاؤهم جميعاً في البلد بطريقة غير شرعية. فاختبرت الطفلة تريجور ما عاشته شخصيتها في الفيلم، وهو الابتعاد عن حضن الأمّ، وبقيت في بيت مسؤولة اختيار الممثلين طوال مدة احتجاز أهلها».

نادين لبكي ترتدي فستاناً وقفازات من شانيل. بعدسة درو جاريت لصالح عدد أكتوبر 2018 من ڤوغ العربيّة

هذا الفيلم، الذي قلب حيوات ممثليه، غيّر أولاً حياة مخرجته. «زرت خلال مرحلة الكتابة بؤر بؤس وأماكن صعبة، فلم أود أن أتخيّل طفلاً يعيش حياة الشقاء بل هدفت نقل واقع معين وأردت أن أكون لهؤلاء الأولاد صوتاً. جلنا في السجون ثم صوّرنا داخل سجن رومية الشهير، وتحت الجسر في منطقة العدلية حيث نمرّ كل يوم من دون أن نعرف ما يجري هناك، وما يشهده هذا المكان». هذه التجربة حوّلتها شخصاً آخر وغيّرت فيها أموراً كثيرة، كنظرتها إلى الحياة وأسلوب تصرّفها مع الآخرين. كما نما في داخلها شعور بالذنب لا يخفت ولا يغيب.

وعنه تقول: «شعور لا يسمح لي بالفرح الصافي، بأن أشعر بسعادة خالصة مع عائلتي، ويرافقني في السفر والسهر والمناسبات. ما عدت أستطيع أن أعيش حياتي من دون أن أشعر بأن حيوات أخرى تعاني. فقد شهدت مآسي لا توصف. والفيلم لا يصوّر قبح الحقيقة في عريه الكامل. فالحقيقة فظيعة، الإهمال الذي يعيشه هؤلاء الأولاد لا يوصف. التقيت أطفالاً عيونهم فارغة، لا يلعبون ولا يبتسمون، فقدوا المشاعر بسبب التعذيب والإهمال والتعنيف اللفظي والجسدي والاغتصاب. هؤلاء الأطفال هم حقاً ’المعذبون في الأرض‘».

نادين لبكي ترتدي معطفاً وحزاماً من مارني. بعدسة درو جاريت لصالح عدد أكتوبر 2018 من ڤوغ العربيّة

لكن هذا السواد تضيئه معرفة أن الرافعي يعيش الحياة التي يستحقّها، «لقد منح زين مع والديه وأشقائه لجوءاً سياسياً إلى النرويج حيث يعيش في بيت واسع ويذهب إلى المدرسة. حين بدأنا التصوير لم يعرف زين أن يكتب اسمه المؤلف من ثلاثة حروف، وقد أصبح يقرأ الآن. لطالما أحسست بأن زين الموهوب الذكي الحكيم سيعيش حياة يستحقّها»، كما عادت الصغيرة بانكول إلى كينيا أيضاً حيث انطلق عامها المدرسي الأول. أما شيفرو فقررت بعد مشاركتها في مهرجان كانّ ألا تعود إلى لبنان.

لقد تخطّى فيلم كفرناحوم حدودَه السينمائية، مثلما أرادت نادين. تقول: «أريد أن يفتتح الفيلم النقاش الذي سيطلق العمل الجدّي عبر اقتراح مشاريع قوانين تُعنى بشؤون الأطفال المهمشين، فالجمعيات غير الحكومية تجدّ وتجتهد، لكن الحِمل هائل والقدرات لا تغطّي الحاجة». لبكي التي ترشحت قبل أكثر من عامين في الانتخابات البلدية في بيروت لا تستبعد أن تعمل في السياسة. «واجبي أن أحاول خوض العمل السياسي الاجتماعي على طريقتي. هدفي أن أستغلّ المكانة التي وصلت إليها بطريقة ذكية وإيجابية تخدم المجتمع».

نادين لبكي ترتدي معطفاً وقميصاً من غوتشي. بعدسة درو جاريت لصالح عدد أكتوبر 2018 من ڤوغ العربيّة

لكن يبقى الشغف بالسينما ما يمنح الحياة المعنى والقوة، حتى الأمومة لا ترضي قلق المبدعة. «ولداي يمنحانني الحب والهدوء والغذاء الروحي. أشعر في حضورهما بالاكتفاء، كأنني لا أحتاج في اللحظة نفسها إلى أي شيء آخر. لكنهما لا يهدئان هذا القلق الذي يدفعني إلى العمل. كل مشروع أخوضه كأنه مشروعي الأخير، أحسّ بأن حياتي ومصيري معلّقان به. الآن أنا في المرحلة الأصعب. أصحو كل صباح وأنا أعاني نوبة قلق لأنني أحتاج إلى فكرة جديدة».

ربما هي آثار الحرب الأهلية اللبنانية في جيل لبكي الذي نضج خلال مرحلة ما بعد الحرب. «تجعلك الحرب غير واثقة بالغد. هذا القلق الذي عشناه، في حياة غير واضحة الاتجاهات، يلازمنا ويدفع إلى الاستفادة من كل لحظة، والتوق إلى الإنجاز وتحقيق ما يجب تحقيقه. أشعر بأن الوقت ينفد وبأنني يجب أن أستفيد منه».

والآن اقرئي: طفولة تحت وطأة الاحتلال.. عهد التميمي تروي ذكريات سجنها وحياتها بعد إطلاق سراحها في رسالة مؤثرة

تصوير: درو جاريت
تنسيق: كيتي تروتر
مكياج: تيزيانا رايموندو من وكالة ذا وول غروب
تصفيف الشعر: فرانكو أرجنتو من وكالة ذا وول غروب
مصمم موقع التصوير: كادوري إلياشر
مساعد التصوير: كورين موتريل
مساعدة تنسيق الأزياء: كلوتيلد فرانشيسكي
إنتاج: كارول سيوتات من وكالة أونيريم
منسقة الأزياء: دانيكا زيڤكوڤيتش
تم التصوير في فندق دي كريون في باريس

الاقتراحات
مقالات
عرض الكل
مجموعة ڤوغ
مواضيع