تابعوا ڤوغ العربية

حوار حصري مع كلير وايت كيلر المديرة الإبداعية لجيڤنشي عقب عرض أزيائها الراقية الباهر في باريس

بعد عامين فقط من ترأسها لدار جيڤنشي (وتصميمها لفستان زفاف ملكي دخل التاريخ)، تواصل المصممةُ كلير وايت كيلر بلا كلل وضع رغبات النساء في المقدمة – وهو ما ظهر جلياً في عرض الأزياء الراقية الذي قدمته بمتحف رودان في باريس.

المديرة الإبداعية لجيڤنشي، كلير وايت كيلر، مع العارضات اللواتي شاركن في تقديم مجموعة أزيائها الراقية. بإذن من جيڤنشي

كانت عقارب الساعة تشير إلى الثالثة عصراً، ورغم أننا كنّا في أحد أكثر أيام أسبوع الموضة الراقية ازدحاماً، كان جو من الهدوء والسكينة يغلف مقر جيڤنشي الذي طليت جميع جدرانه بالأبيض والأسود. قصدتُ الدارَ للقاء مديرتها الإبداعية كلير وايت كيلر، والتي حظي عرضها للأزياء الراقية في الليلة السابقة بباريس بالنصيب الأوفر من الإشادة والثناء هذا الموسم. ولا عجب في ذلك، فمنذ أن انضمت كيلر إلى الدار عام 2017، لا يزداد إبداعها سوى قوةً ورسوخاً، ولم يكن عرضها -الذي حفل بالتصاميم المتقنة والأشكال التي تبعث الثقة، مستحضراً فكرة “النبالة الأصيلة”- إلا إنجازاً جديداً يُضاف إلى سجلها الباهر.

وعندما دلفتُ أخيراً إلى مكتب كيلر أعلى إحدى البنايات التي شيدت في عهد هوسمان، بهرني مدى الدقة والنظام اللذين تجليا في كل شيء. ولم أتمكن من العثور على لوحة الأفكار بقصاصاتها وصورها المبعثرة، أو عينات الأقمشة، أو أكداس الكتب المصورة في هذا المكتب، رغم أن أسقفه عالية ويغمره ضوء الشمس. ورغم أن العباقرة والمبدعين يجدون الإلهام وسط الفوضى في كثير من الأحيان، إلا أن هذا لا ينطبق على كيلر.

فستان شومون ميل فوي المزود بهيكل رافع من جيڤنشي. بعدسة أليكس بلوند لعدد سبتمبر 2019 من ڤوغ العربية

أخذنا في تبادل التحية، وقد عرفتُ كيلر من أناقة إطلالتها رغم ظهورها القصير الذي لا يتعدى الخمس ثوان في ختام عروضها، وكانت ترتدي بلوزتها الحريرية المميزة وبنطلوناً بقصة مستقيمة. ونظراً لأن مهنتي علمتني الانتباه لكل شيء، لاحظتُ حقيبة موضوعة على المقعد لم أشاهدها من قبل في أيٍ من مجموعات جيڤنشي السابقة. ابتسمت قائلةً: “أجرُبها في هذه الآونة. وأنا دائماً أعلقُ على كل شيء، وأقول ’هذه كبيرة أكثر من اللازم‘، أو ’إن هذه لا تبدو جيدة في يدي‘، لذا بوسعي كامرأة تقديم ملاحظات ثاقبة عن ما يجب أن يبدو عليه أي شيء. المرأة تعلم الشيء الذي يثير الإزعاج والشيء الرائع”.

وتمثّل كيلر -في عهد ما بعد العصر الذهبي لكبار مصممي الأزياء الذكور، ممن قدموا أزياءً تتسم بالجمال والإثارة دون أن يضعوا رغبات النساء دائماً في المقدمة- جيلاً قوياً من المصممات اللواتي يبتكرن مجموعات تستهدف تحقيق الاحتياجات الحقيقية للعميلات. وبعدما عملت في السابق لدى علامات لا تصنع سوى أزياء سهلة الارتداء –مثل توم فورد حين كان يرأس غوتشي، وأيضاً رالف لورين، وكلوي، وبرينغل أوف سكوتلاند– قد يكون ذلك من أفضل ميزاتها مقارنةً بأعمال سلفها، ريكاردو تيشي، المعروف بإبداعاته المترفة لإطلالات الشارع وتصاميمه الدرامية التي تحظى بكل الإعجاب. توضح المصممة: “لم يكن لديّ أي أفكار أو توقعات مسبقة عندما بدأتُ العمل في جيڤنشي، وكان هذا ممتعاً للغاية. واستطعتُ التأقلم بدراسة الأرشيف، وذلك لأتمكن فقط من فهم الأساس الذي أقف عليه. ولكن سرعان ما تبلور تصوري لما أريدُ أن تكون عليه مجموعتي الأولى”، مضيفةً: “كان همّي منصباً على صنع القطع المُفصّلة، والأكتاف، والإطلالة التي شاهدتُها في جميع أوراق الأرشيف، رغم أن هذا لم يكن واضحاً للجميع”.

سترة إبرنون بتصميم الكاب مرصعة بالرقائق اللامعة والترتر، وتنورة مزودة بهيكل رافع، وحذاء مدبب طويل الساق بكعب عالٍ. بعدسة أليكس بلوند لعدد سبتمبر 2019 من ڤوغ العربية

ورغم أن كيلر تبدو امرأة عملية تؤمن بقوة البذلة الجيدة التفصيل، والمصممة بدقة هندسية، إلا أن ذلك لا يعني أنها ليست مفتونة بالعالم السحري للأزياء الراقية، والإخراج المصاحب لهذا الشكل الفني. وفي الواقع، كان أحد أول القرارات التي اتخذَتها حين انضمَت إلى الدار -والذي رحب به المؤسسُ أوبير دو جيڤنشي الذي كان لا يزال على قيد الحياة حينها- هو إعادة المجموعات الراقية إلى منصات العروض، وتوسيع نشاطها ليشمل الأزياء الرجالية أيضاً.

وتتذكر المصممة لقاءها بالمصمم الشهير جيڤنشي، وكيف وجدتْه طويلاً، وأنيقاً، ولا يخجل من الجهر بآرائه عن الأهمية المتزايدة للصين، ومعارضه التي كانت لا تزال تُقام وقتذاك، وعلاقته القوية بملهمته أودري هيبورن التي سيظل الناس دائماً يتذكرونها وهي ترتدي فستان السهرة الأسود الذي صممه لها جيڤنشي وظهرت به في أحد مشاهد فيلمها ’الإفطار عند تيفاني‘. تقول المصممة: “سعدتُ بزيارة منزله، الذي ترونه في الكتب. وكان [المنزل] حقاً بالغ الروعة والجمال. وكان [جيڤنشي] طاعناً في السن آنذاك، وقد قابلتُه في الغرفة الرئيسية المحاطة بالأعمال الفنية المدهشة التي جمعها، والجدران التي زينتها لوحاته من بيكاسو وماتيس، والتي تقطر جميعاً بالذوق المترف. وما يثير العجب أنها كانت مع ذلك غرفة عصرية. وحتى لو كانت أرائكه ومصابيحه مكسوة بالأقمشة الفاخرة، كان لديه الكثير من الأعمال الفنية العصرية. أعتقدُ أنه كان متحمساً للغاية لحقيقة أنني سأبدأ من جديد تقديم الأزياء الراقية كنشاط تجاري. وليس مجرد تصميم بضع فساتين هنا وهناك. فبالنسبة إليه، كان هذا سبب تأسيسه لداره، ومنتهى سعادته”.

سترة مونماران القصيرة المطرزة بتصميم الكاب وفستان مطرز ومزود بهيكل رافع. بعدسة أليكس بلوند لعدد سبتمبر 2019 من ڤوغ العربية

وأعود إلى الليلة السابقة، حين هرولتُ تجاه متحف الفنون الزخرفية، حيث كانت جيڤنشي تقيم عرضها للأزياء الراقية. كانت كيلر قد جعلتنا جميعاً نحلّق في عالم الأحلام مرة أخرى فقط عبر دعوتها الغامضة التي وضعت داخلها ريشة سوداء ناعمة. وما كاد العرض ينطلق، حتى علت نغمات البيانو لتغمر القاعة بجو من الإثارة والتشويق. ثم سارت العارضات، واحدة تلو الأخرى، مرتديات فساتين وكابات مزدانة بشعر الخيول والريش، وسترات متقنة مرصعة بترتر بلون البلاتين، وظهرت إحداهن بفستان مخملي أسود بتصميم جَرَسي في أسفله لم يكن متوقعاً إلا أنه شكّل إطلالة راقية بامتياز. وكان كل شيء في هذا العرض شديد الرقي، حتى إنه أثار مشاعر الحنين إلى الماضي، ولكنه تميّز أيضاً بجرأة عصرية. وتوضح المصممة: “الأشكال الجَرَسية أيقونية للغاية، وقد ظهرت في باكورة مجموعات جيڤنشي”. وحين سألتُها عن مصدر إلهامها أجابت: “بحثتُ في كتب التاريخ، والمعارض، وفي أرشيف هندي رائع… تخيّلوا أنكم دخلتم قصراً في فرنسا أو لندن، ستجدون جميع هذه السجاجيد الرائعة والأقمشة الفاخرة في السندرة. ولأني إنجليزية، أتمتعُ ببعض السمات الأرستقراطية الرائعة، وكنتُ أتردد في سنوات نشأتي على المنازل المذهلة في لندن، وأدرس تاريخ الفن. وهذه المعرفة تتيح لي إضفاء مزيد من الفانتازيا، ويصبح من المثير ابتكار إحدى الشخصيات – وفي هذه الحالة، امرأة تعرف كيف تعبّر عن نفسها”. وفيما تتجه الكثير من العلامات العريقة نحو تقديم مزيد من التصاميم لإطلالات الشارع، تتخلى فيها عن الرقة لتضع الشعارات الضخمة وتستبعد أحذية الباليرينا لصالح الأحذية الرياضية الغليظة، أتساءل عن عميلات جيڤنشي، وكيف لا يعوق ثقل تراث الدار سعي كيلر نحو الحداثة. ننظر، على سبيل المثال، إلى فستان الزفاف الذي صمَّمَته لميغان، دوقة ساسكس والذي نال إشادة واسعة -والذي تصفه كيلر بقولها: “كان نقطة محورية واستثنائية في مسيرتي المهنية”– فنجده كلاسيكياً بلا جدال، ومع ذلك يبدو عصرياً ومناسباً لأميرة من القرن الحادي والعشرين. تقول المصممة إنه على الرغم من ضرورة احترام هوية الدار، إلا أن مراجع الأرشيف لا تُستخدَم “إلا فيما ندر”. ولا يُؤخذ منها سوى بضع عناصر لتُوضع هنا وهناك، ودائماً “بأسلوب خفيّ يصعب ملاحظته”. وتضحك بينما تصف زياراتها لأرشيف الدار التي شبهتها بمغامرات جيمس بوند، قائلة: “إنه محفوظ بأكمله في مكان سريّ، حيث تتعامل مع كل شيء وأنت ترتدي القفازات البيضاء. وهم فقط يأخذونك إليه ثم يتركونك إلى أن يأتي أحدهم لاصطحابك إلى الخارج. وليس له عنوان، ولا يمكنك العثور على مكانه إذا بحثت في غوغل”.

إلى اليسار: فيليز متألقة بفستان أرامون أبريون بقصات متباينة، وتنورة بثنيات من التول، وحزام مطرز بكريستالات معدنية كروية مع اللآلئ إلى اليمين: سارة متألقة ببذلة بلاي الجاكار الضيقة والمحبوكة، وتنورة بخصر مرتفع، وحزام رابط، وتنتعل حذاءً عالياً مدبباً. وهما تقفان أمام منحوتة “أبواب الجحيم” للفنان أوغست رودان. بعدسة أليكس بلوند لعدد سبتمبر 2019 من ڤوغ العربية

بدأ شغف كيلر بالأزياء في سن مبكرة. وكانت دائماً محاطة في منزلها بالمنسوجات والأعمال الإبداعية لوالدتها التي كانت تعمل سكرتيرة قانونية، ثم قررت البقاء في المنزل. تقول: “كانت والدتي دائماً ما تصنع أشياء في المنزل. وقد تعلمتُ هذا منها. وكانت تضع ماكينة الخياطة على طاولة الطعام، فيما كانت طاولة الكيّ والأقمشة في كل مكان. ولم أكن أدرك آنذاك، أن منزلنا به جميع عناصر الأتلييه، رغم أن كل شيء نصنعه في المنزل. وقد تعلمتُ منها كيف أثبّت دبابيس البناطيل، وكيف آخذ القياسات الصحيحة، وكيف أخيط الغرز. ورويداً رويداً أصبحت جزءاً من الأمر أيضاً”.

سترة بيتي بوا تري أوف لايف المنسوجة من دون أكمام وبقصة البيبلوم مع تاج مرصع بالكريستال. بعدسة أليكس بلوند لعدد سبتمبر 2019 من ڤوغ العرب

ورغم انتمائها إلى عائلة “بعيدة تماماً عن الثراء”، كان إيمانها الشديد بنفسها ما دفعها إلى السعي للحصول على شهادة في الأزياء بدلاً من الالتحاق بوظيفة تقليدية وأكثر استقراراً – ومن الجليّ أن هذا الإيمان أتى بثماره، إذ لا تعد كيلر اليوم إحدى أكثر المصممات حماسةً ونشاطاً فحسب، بل وتمكنت من أن تؤسس لنفسها حياة متوازنة للغاية تتيح لها الجمع بين وظيفتها الشاقة، وواجبات الأمومة، وزواجها الناجح من المهندس الأمريكي فيليب كيلر. تقول: “أركزُ جيداً وأعملُ لأيام طوال حتى التاسعة أو العاشرة مساءً، ولكني منظمة جداً ومتماسكة. ولا أعملُ مطلقاً في عطلات نهاية الأسبوع. وأقومُ بالكثير من الأمور في لندن حيث أقيم، مثل إجراء بحثي، الذي يتضمن الذهاب إلى أرشيفي الخاص، والتسوق من المتاجر التي تعرض المنتجات القديمة… والآن، من السهل الحفاظ على هذا التوازن، ولكن العمل لا يتوقف أبداً لأني أصنع 10 مجموعات في السنة”.

وقبل أن أُنهي حديثي معها وأهرولُ إلى موعدي التالي في أسبوع الموضة، سألتُها إن كانت ابنتاها التوأمتان وولدها الصغير يعلمون ما تفعله أمهم، ومساهمتها المهمة في عالم الموضة. ابتسمت قائلةً: “أعتقدُ أنهم يعلمون ولكن أصدقاءهم هم الذين يخبرونهم أكثر بذلك. فأنا لستُ من الذين يعرفهم الناس في الشارع، أعني، لا أحد سيقول: ’آه، إنها هي!‘ فلا زلتُ شخصية مجهولة إلى حد ما”، مضيفةً: “يعلمون ذلك أكثر حين يذهبون إلى هذا العالم ويرون العروض ونتاج جميع الأعمال”. من الإنصاف القول بأن المحررين والنساء في العالم أجمع يشاطرونهم نفس هذه المشاعر.

نُشر للمرة الأولى على صفحات عدد سبتمبر 2019 من ڤوغ العربية.  

اقرؤوا أيضاً: ديمنا ڤازاليا يغادر منصبه في ڤيتمان

الاقتراحات
مقالات
عرض الكل
مجموعة ڤوغ
مواضيع