تابعوا ڤوغ العربية

بطلات الصف الأوّل

عندما تكون الإنسانية مهدّدة لا يمكن أن نقف مكتوفي الأيدي، ففي خضم المعارك التي تعصف في حياة البشرية جرّاء فيروس كورونا المستجد، لا يسعنا إلاّ أن نرفع القبّعة ونقدّم أسمى التحيات لبطلات الصف الأوّل اللّواتي اجتمعن على أنّ التضحية والتفاني وجهان لعُملَة واجبهنّ الإنساني!

بالفرح والأمل وحدهما يحيى الإنسان! هذا ما أثبتته الأزمة الصحية التي ألّمت مؤخراً بكوكبنا. انتشر فيروس كوفيد – 19 أو الكورونا الذي يفتك بالجهاز التنفسي وينتقل عبر الاحتكاك المباشر بالمصاب كالنار في الهشيم وارتفعت ضحاياه بشكلٍ مخيف. ولكن رغم الموت الذي احتل عناوين الأخبار والخوف الذي سيطر على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن الأمل لم يختفي. في إيطاليا حوّل الناس الحجر إلى حفلات موسيقية، فعلت أصوات الموسيقى والأغاني من الشرفات. وانتشرت فيديوهات عبر مواقع التواصل تنقل يوميات الناس من منازلهم أثناء الحجر، وشارك المشاهير معجبيهم بعضاً من يومياتهم لتشجيعهم على التزام منازلهم درءاً لانتشار الوباء أكثر فأكثر. ومقابل حملات التوعية والدعوة إلى الوقاية والحجر وبينما ننعم بالأمان بين أُسرِنا وأحبائنا وقف جيش كامل من المسعفين والمساعدين الصحيين والممرضين والأطباء لمواجهة هذا الفيروس المخيف.

شانتال فرح بعدسة طارق المقدّم

ضغط نفسي، إرهاق وإجهاد، خوف دفين، أمل متجدد… بهذه الكلمات يمكن اختصار دور الطاقم الطبي الذي أعلن التعبئة العامة لمواجهة هذا العدو. وفعلاً، أمام الجهود الجبّارة الذي يبذلها هذا الطاقم حول العالم، يمكن القول إنه عند الأوبئة تظهر”الإنسانية”! تشرف شانتال فرح، مديرة وحدة التعقيم المركزي وغرفة الطوارئ وغرفة العمليات في مستشفى القديس جورجيوس الجامعي، المسؤولة على الاختبارات الضرورية للتأكد من الإصابة، وهي تقول إن التعامل مع المصابين المحتملين بالفيروس يتطلب الحذر وتعاطفاً في الوقت ذاته، فالخوف من الإصابة واحتمال نقلها إلى آخرين وهمّ الحجر الصحي لمواجهة المرض بعيداً عن دعم الأسرة والأحباء، كلها أمور تحاول من موقعها التخفيف من وطأتها على المريض متسلحة بابتسامة لطيفة. ولا تقف الأمور عند هذا الحدّ، فالعامل مع مصابي الكورونا أصبح أشبه بفيروس؛ تقول شانتال: “أشعر وكأنني فيروس متنقل، يخشاني الناس ويتفادون الاقتراب مني.” هؤلاء الناس يغفلون عن حقيقة أن لشانتال كما لغيرها الكثير من العاملين في المجال الطبي عائلات وأطفال ينتظرون نهاية يومهم ليرتموا بين أحضانهم، ومن أجل هذا الحضن ولحماية المرضى هي تلتزم حرفياً بتعليمات منظمة الصحة العالمية وتأخذ أعلى درجات الحيطة والحذر.

سالي البكاسيني بعدسة طارق المقدّم

وللصليب الأحمر في هذه المحنة الكبيرة دورٌ عظيم، إذ يتولى أفراده نقل المرضى المحتملين إلى مراكز الاختبار أو المرضى المؤكدين إلى وحدات المعالجة. وللوصول إلى المركز أو الوحدة، تتحول الثواني إلى ساعات، ثوانٍ يثقلها شبح الموت الذي يلوح في أفق المريض رغم كلمات المسعفين المطمئنة. لم تتوانى سالي البكاسيني، مسعفة في الصليب الأحمر اللبناني منذ أكثر من 12 عاماً، عن إثبات التزامها التام بخدمة رسالتها الإنسانية، فكانت من الجنود الأبطال الذين تجندوا لمواجهة هذا الفيروس الفتّاك مستندةً على الدورات التدريبية المتواصلة التي تعنى بفيروس كورونا وكيفية التعامل معه من خلال إرتداء اللباس الواقي ونزعه بطريقة آمنة لضمان سلامة المسعفين واستعدادهم التام لتلبية المهمات أيّاً كان نوعها. تقول سالي إن هذه المرحلة دقيقة فعلاً تحمل تعباً نفسياً وجسدياً كبيراً، فحمل المريض ونقله بينما ترتدي الزيّ الخاص ليس بالأمر السهل، وكذلك الخوف من ردات فعل المصابين وطمأنتهم أن الفيروس كابوس سينتهي سريعاً إن التزم بالرعاية الصحية الضرورية. تقول سالي: “أنا حدّك… عبارة لا ننفك نكررها على مسمع المريض وذويه. هم فعلاً بحاجةٍ لمن يشدّ على أياديهم ويبث الأمل في قلوبهم،” وتضيف: “اختبرت الكثير من الحالات طوال سنوات عملي التطوعي، إلا أن ما نعيشه اليوم يتطلب مستويات عالية جداً من الإنسانية. صعبٌ جداً أن تُضحك المصاب أو أن تخفف من وطأة الفيروس بينما الخوف يعتريك أصلاً!” سالي بطلة بعين البعض، ومغامرة في عين آخرين؛ أما هي فترى نفسها ملزمة بما تقوم به انطلاقاً من حسّها الإنساني.

سهى فخر الدين بعدسة طارق المقدّم

بين جدران وحدة المعالجة، تنطلق رحلة العلاج الشاقة! رحلة قوامها الطبيب والممرض. سهى فخر الدين، إختصاصية في الطب العام وزميلة في قسم الأمراض المعدية في مستشفى رفيق الحريري الجامعي في لبنان، واحدة من الأطباء الذين قرروا خوض الحرب مع فيروس كوفيد- 19 ضاربة عرض الحائط كل المخاوف والتحذيرات فهي تقول: “التزمت بالتضحية بنفسي من أجل إنقاذ حياة الآخرين مذ قررت دراسة الطب. هذا الالتزام سيأتي دائماً على رأس أولوياتي من دون أن يلغي طبعاً حياتي الشخصية والاجتماعية.” لا تخشى سهى التقاط الفيروس بينما تنتقل بين المرضى، فهي تدرك أن كوفيد- 19 لا يشكل الخطر الوحيد الذي تواجهه يومياً كطبيبة إلا أنها تحمي نفسها بالاطلاع العميق على الفيروس وكيفية انتقاله وبتطبيق تدابير الاحتياطات المناسبة تماماً كما توصي بها منظمة الصحة العالمية، الأمر الذي يزيد من ثقتها بنفسها ويزرع الطمأنينة في نفس المريض ويزيل أي مخاوف قد تعتري أسرتها التي تخشى عليها من الإصابة. تقول سهى إن أصعب ما يواجهها في وحدة المعالجة هو التعامل مع الحالات الصعبة التي تبدو الإمكانيات الطبية المتوفرة أمامها ضعيفة وتضيف: “أحزن جداً حين ينتاب المريض شعور بالذنب. يخشى أن ينقل العدوى إلى الآخرين”. لا تخفي سهى أن السيناريو الإيطالي آلمها جداً إلا أن تصميمها أقوى من المرض وهي تقول: “سنجعل هذا المرض جزءًا من التاريخ وسننتصر. القوة هنا ليست اختيارية إنه واجبنا كأطباء تجاه المرضى الذين يثقون بنا وينتظرون منا بذل أفضل الجهود لإنقاذهم، ولكن ما لا يعرفه المريض هو أنه في كثير من الأحيان هو من يلهم طبيبه ويعلمه كيف يبقى قوياً وسط العاصفة”.

سميرة سعيد بعدسة طارق المقدّم

والجندي الآخر الذي يرافق الطبيب هو الممرض، ومهمته دقيقة ومهمّة بقدر مهمة الطبيب، فهو من يلازم المريض ويحتك به عن قرب ويعيش معه الألم والمعاناة ومن يحرص على تنفيذ توصيات الطبيب وتعليماته بدقة. هذه المرة الأولى التي تعمل فيها سميرة سعيد، الممرضة والمشرفة التربوية الصحية في مستشفى رفيق الحريري الجامعي، في ظل ظروف مماثلة، فهي لم يسبق لها أن تعاملت مع الأوبئة إلا أنها رغم ذلك رفضت أن تخلع عنها ثوب التمريض وأن تركن إنسانيتها جانباً وأعلنت التزامها التام بعملها حتى انقضاء الأزمة. أول الخطوات التي اتخذتها سميرة لتضمن فوزها بالتحدي هو عزل نفسها كلياً عن الأخبار التي تتداولها الوسائل الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي، وتهدئة نفسها بنفسها قدر المستطاع واللجوء إلى المحبين الذين تثق بهم كأختها وابنها لتبثّ لهما مخاوفها ومشاعرها. وبانتظار إعلان النصر على كوفيد – 19 والخروج إلى الشمس ومعانقة الآخرين احتفالاً بالنصر، تتبع سميرة برامج التمريض التي تركز على استراتيجيات مكافحة العدوى والالتزام بالبروتوكول المعتمد بعد انتشار الفيروس الجديد. وبالاعتماد على إرشادات منظمة الصحة العالمية، يراقب العاملون في مستشفى رفيق الحريري الجامعي حالة المريض النفسية ويسعون إلى الحدّ من مخاوفه والتخفيف من قلقه من خلال التواصل المتكرر معه عبر الهاتف لإشراكه في خطة الرعاية الخاصة المتبعة لعلاجه وإظهار كل الحب له حين يحمّل نفسه ذنب انتشار الفيروس. تعترف سميرة أن دعم الناس والعائلة يشكلّ لهن خير عونٍ في هذه الأزمة، فهي تقول: “بكاء أمي في كلّ مرة اتصل بها يرهقني إلا أن إيمانها بانتصارنا يرفع من معنوياتي”. وتضيف سميرة أن المريض وإن كان ضعيفاً فهو أحياناً مصدر قوة لها كممرضة وتشبثه بالحياة يحثها على دعمه من خلال تزويده بالمعلومات الصحيحة والعناية به من دون أي تمييز. وحرصاً منها على سلامتها وسلامة عائلتها تتبع سميرة بدقة احتياطات الوقاية فهي السبيل الوحيد لتتمكن من معانقة أطفالها وعائلاتها ولتعود مرة أخرى إلى حياتها الاجتماعية؛ فتتعامل مع الجميع على أنها مصابة فالخوف منها يُشعرها بالأمان. إلا أنها في الوقت ذاته تتأسف جداً من رفض البعض وتسلطهم حين تفرض تدابير الوقاية بصرامة وحين تمنع الناس من زيارة المريض أو حين يرفضون الاقتراب منها اعتقاداً منهم أنها تحمل الفيروس إلا أنها تعذرهم فوطأة الفيروس ثقيلة على الناس وقد لا يتمكن الجميع من المحافظة على رباطة جأشهم وتصبّر نفسها قائلة: “سيعلمون بعد حين أننا نفعل ذلك من أجلهم وأننا أشخاص صالحون”.

وفي ظلّ الضغط الهائل الذي يعيشه الطاقم الطبي في وحدة المعالجة، تظهر الحاجة إلى الدعم المعنوي وهو ما تحاول رندا سلمان، مسؤولة التدريب والتطوير المستمر لمصلحة التمريض في مستشفى رفيق الحريري الجامعي. تشدد رندا على أهمية أن يكون العالم في مجال الرعاية الصحية ملماً بالمرض أو الوباء وواعياً لخطورته ولكيفية انتشاره وللإجرءات الوقائية المناسبة للتغلب عليه ولبث الطمأنينة بين الناس بعيداً عن التهويلات والمعلومات الخاطئة. تحرص رندا على ضمان مهنية عالية وتطبيق معايير الحماية الشخصية اللازمة في وحدة المعالجة كغسل اليدين ومعدّات الحماية الفردية كالـ “ب ب ايس”. عن عملها تقول رندا: “من أهم الأشياء التي يمكننا القيام بها مع المصابين هو تقديم الدعم النفسي وإطلاعهم على وضعهم الصحي للتخفيف من قلقهم، وحثهم على التعبير عن مخاوفهم والإجابة عن كافة تساؤلاتهم. كما نحرص على اتباع نمط حياة صحي وسليم في هذه الفترة، بدءًا من الغذاء الصحي وتأمين ساعات نوم كافية وصولاً إلى ممارسة بعض التمارين الرياضية، لكي يتمكّنوا من التغلب على الخوف ومحاربة أفكارهم السلبية أثناء فترة العلاج.” مهمة رندا تتخطى المريض وتغطي طاقم التمريض فهي خير سندٍ لهم في الأوقات العصيبة موجودة دائماً لتحمل مخاوفهم ولمواساتهم والاستماع لهم والتصفيق لهم لتشجيعهم وتأمين سبل الراحة والطمأنينة لهم. بعيداً عن العمل، لرندا أسرة وعنها تقول: “أشتاق لأسرتي وأطفالي إلا أنني حالياً أعزل نفسي بشكلٍ غير مباشر حرصاً مني على سلامتهم، فما أسمعه من المرضى والخوف الذي ألمحه على وجوههم يزيد من خوفي على أسرتي”.

لا شكّ أن فيروس كوفيد – 19 كابوس لئيم أربك العالم أجمع وبث الخوف في النفوس، ولكن لا مجال للاستسلام. لذلك حريٌ بنا أن ننتبه إلى التفاصيل التي أعادها إلى حياتنا حين فرض علينا الحجر، فمن منا لم يشتاق للمّة الأسرة، ومن منا لم يشعر بالأمور الفانية التي كنا نلهث وراءها، ومن منا لم يقدّر فعلاً نعمة الصحة والمأوى والمأكل؟ يكفي أن نفكر أننا نملك رفاهية الحجر الصحي في حين أن طاقماً طبياً ملزمٌ بالعمل عن قرب مع هذا الفيروس. لكل عامل في المجال الصحي نرفع القبعة… هم فعلاً الأبطال وملائكة الرحمة على الأرض.

اقرئي أيضاً: مجموعة ’إنديتكس‘ مالكة علامة ’زارا‘ تتبرع بكمامات للمرضى والطواقم الطبيّة بإسبانيا لمواجهة فيروس كورونا

الاقتراحات
مقالات
عرض الكل
مجموعة ڤوغ
مواضيع