علايا باريس
من عز الدين علايا
المكونات: الفلفل، عود الصليب، المسك
أحد جوانب الندم الثاقب في حياتي هو أنني لم أسافر أبداً بطائرة كونكورد، على الرغم من أنّ العديد من وكلاء السفر يعرضون عليّ تلك الفرصة بتكلفة معقولة وعلى متن أحد تلك الآليات المذهلة في مطار هيثرو لأقوم برحلة تفوق سرعة الصوت ذهاباً وإياباً إلى خليج بسكاي. ببساطة، لم يكن ليخطر لي مطلقاً بأنّ التكنولوجيا يمكن أن تأخذ خطوة إلى الوراء، لكنها فعلت وتركتنا تتقطع بنا السبل على هذا الجانب من جدار الصوت. بالمقارنة، طارت إحدى صديقاتي العطارات على متنها مرات عديدة في معظم الأحيان للتعامل مع حالات الطوارئ في نيويورك أو باريس. وذكرت لي مرة خلال حديث معها الرائحة الخاصة التي تميّز طائرة كونكورد من الداخل، وقد تحققتُ من شمّ الرائحة بانتباه عندما صعدت على متن كونكورد G-BOAG في متحف الطيران في سياتل. لقد كانت محقة، فلطائرة كونكورد رائحة طبية متميزة، جزء منها مدبّر كعازل الدفء ومعجون الحشو العازل، لكن مع رائحة بشرية تجريدية من الكولونيا المتلاشية وجلد المقاعد. عادت تلك الرائحة لي عندما تنشّقت رائحة عطر علايا للمرة الأولى: الرائحة المتعددة الطبقات لمكان شهد حضور ومغادرة العديد من الزوار الآخرين، مساحة تملأها الروائح المقصودة والغير مقصودة، نوع من ضجيج الزحام الشمي الرقيق. عطر علايا هو عطر غريب بامتياز. عطر، مثل بعض الخطباء الكبار، يستهلّ كلامه بهدوء كبير ويجبرك على الميل للأمام للاستماع لكلماته. لربما ستشاهد عاشقة هذا العطر وهي تقبض على حفنة من القش لتهزّ رأسها وتسمعها وهي تتمتم كلمات مثل “جلد” و”فلفل” و”لاكتونات” بجهد عقيم للحصول على قبضة من الطبقة العلوية القاتمة الرقيقة السريعة الزوال لعطر علايا. ومع تطور الطبقة، يبدو في بعض الأوقات وكأنّ العطّارة ماري سالاماغني قد نجحت في إعادة الزمن إلى الوراء، حيث يبدو العطر وكأنّه يبدأ من النهاية ليكشف عن الطبقات المنعشة المتجددة مع مرور الوقت، وليتركّز في النهاية كتركيب ملحي جاف غامض ومتناغم، أقلّ من طبقة الجفاف وأكثر من مجرّد ذكرى عطرمثير للمشاعر، وكأننا نشتمه على ملابسنا بعد أيّام من سهرة استثنائية. عنوان هذه الفقرة من رسالة في زجاجة هو: يسمح عطر علايا ببث لمحة منه عند رشّه، لكنّها تبقى مغطاة بالسحر والغموض. مذهل.
بقعة داكنة