قد يكون من الصعب بالنسبة لنا اليوم تخيل الشكل الباهت والأحادي اللون الذي كان عليه العالم قبل أن تملأه الكيمياء الصناعية بالألوان والعطور النابضة بالحياة. إن جزيئات مثل أول صباغ صناعي بلون الموف من ويليام بيركن (1856)، و توأمه العطري رائحة البنفسج الاصطناعية في أيونن (1893)، قد أضاءت حياتنا بشكل لا يوصف. وحتى ذلك الحين، كانت صناعة العطور تستعير من التراكيب النباتية المعدة لاستقطاب الحشرات الملقحة (الروائح الزهرية)، أو إبعاد خطر العفن والبكتيريا (القرنفل والكافور والبتشولي). لقد كانت الطبيعة هي صانع العطور: لا شيء كان نقياً كيميائياً، كل الألوان كانت ممزوجة. وحسب تعبير صانع العطور رينيه لوريل، فإن الملامح الاصطناعية هي ما منح العظام للعطر، في حين أمنت الملامح الطبيعية اللحم وحسب. ومع حلول القرن العشرين، كانت الكيمياء قد ابتكرت لوحة قوية من التراكيب الكيميائية، وانطلق صانعو العطور لاكتشاف هذا العالم الهجين الجديد. وأبرز صانعي العطور في ذلك الحين كان فرانسوا كوتي الذي بنا إمبراطورية تجارية ضخمة وابتكر عدداً من العطور التي ما تزال تلهم قطاعاً كبيراً من صناعة العطور في يومنا هذا.
وحتى منتصف السبعينات، كان من الطبيعي أن يلتزم المرء بعطرٍ واحد يحبه طيلة حياته، وأن يمتلك قارورة واحدة أو اثنتين منه على الرف. أما الآن فهناك اهتمام واسع النطاق بالعطور: لا كبصمة مميزة لشخصيتنا، بل كنمط من الفن من سوية الموسيقى والأدب. فعلى سبيل المثال، إن كنتم تحبون الأسطوانات الموسيقية والكتب، فبالتأكيد أنكم ستمتلكون أكثر من واحد من كل منها. والشيء نفسه يمكن أن ينطبق عادة على العطور، بغض النظر عن الفرق بالأسعار. كانت الثمانينات قد شهدت على نقطة انعطاف محورية بالنسبة للعطور، حيث تصاعدت سرعة إطلاق العطور الجديدة، وزاد المال المصروف على هذه الإصدارات والترويج لها، كما وتم ضم العديد من العلامات تحت مظلات مجموعات ضخمة (مثل إل في إم إتش) والتي عرفت كيف تستلم اسماً مشهوراً وكيف تديره بشكل جيد وتحوله إلى اسم عالمي. في حين أن الإيقاع الطبيعي كان، وحتى أواخر السبعينات، يجري بإطلاق عطرٍ كل بضعة سنوات من علامة أزياء مثل شانيل أو حتى العلامات المختصة بالعطور مثل غيرلان. وبعد عشرين سنة، بات إطلاق العديد من العطور في السنة هو الوقع المعتمد.
وقبل الحرب العالمية الأولى، كانت شركات صناعة العطور منفصلة عن عالم الأزياء. وبين الحربين، كانت الجهود الموحدة لدور ورث ومولينو وشانيل وغيرهم هي التي حرصت على أن “الأناقة” تعني “العطر” (وأنتجت العديد من الشركات الأصغر حجماً التي تبيع نسخاً أقل ثمناً من “العطر الضخم القادم”). واستمرت هذه الصيحة بالتصاعد منذ ذلك الحين. وحتى وقت كتابتي لهذا النص، أدرجت قاعدة بيانات مايكل إدواردز “www.fragrancesoftheworld.info” ما يزيد عن 800 إصدارٍ لعطر جديد خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2014، ومن المتوقع أن تقارب الـ1,000 بحلول نهاية العام. وهذا بالتأكيد لا يضم ابتكارات العشرات من شركات الفخامة الصغيرة التي ظهرت خلال العقد الأخير، وكذلك العطور الجديدة العديدة التي أطلقتها شركات غير متصلة بصناعة العطور في أوروبا والولايات المتحدة. وبالرغم من هذا، يبقى الرقم مدهشاً: 22 إطلاقاً في الأسبوع. حتى أن شركات محترمة كغيرلان التي أطلقت 17 عطراً فقط بشكل إجمالي منذ عام 1900 وحتى 1975، قد انضمت للعبة، حيث أطلقت 13 عطراً هذا العام، ومن ضمنها واحد قد أعيد إطلاقه. ولنضع هذا في المنظور الصحيح، إن رقماً مشابهاً (800) من الأفلام قد تم إطلاقه في دور العرض في الولايات المتحدة خلال العام الماضي، مقارنة بـ300,000 كتاب. وبالاعتماد على الأرقام وحسب، بات العطر شبيهاً بفيلم أكثر من كتاب، وإن العديد من الإصدارات هي حقاً سينمائية: حيث الميزانيات الضخمة للترويج والوجوه المألوفة على الإعلانات والتكاليف الكبيرة التي من المضمون لها تقريباً أن تعوض نفسها ولعل ذلك بأضعاف كثيرة.
تكمن ميزة صناعة العطور في نمط منتجها الفني نفسه. تأتي أغلب العطور مركبة من قبل واحد، أو في بعض الأحيان النادرة اثنين أو ثلاثة من صانعي العطور، على مدى فترة زمنية كانت تعتمد نظام العام أو العامين، وباتت الآن أقصر بكثير، ربما شهرين أو ثلاثة أشهرٍ فقط. وكـ “مؤلف”، يعمل صانع العطور تحت ضوابط غير عادية: إن ابتكاراته مستنبطه من ملخصٍ مبتكر من العلامة ويتم اختياره خلال منافسة مفتوحة مع ابتكارات مقدمة من قبل آخرين. ولدى اختياره، يتم تقييم تقدمه بشكلٍ يومي تقريباً من قبل “محرري” العطور الذين يعرفون بالمقيمين، وفي حالة الشركات الضخمة ذات الميزانيات الضخمة أيضاً، يتم اختبار المنتج من قبل مجموعات مدققة بمواعيد منتظمة. لكن ما تزال الكيمياء صاحبة اليد العليا. إن الجانب الإبداعي يقع تحت هيمنة بعض شركات الكيماويات العطرية الضخمة، التي تدرب صانعي العطور وتمنحهم مواد مملوكة جديدة (“سجينة”) ليلعبوا بها. وكانت عملية دمجٍ قد خفضت من عدد شركات التركيب الكبيرة إلى خمس، بعد أن كانت بالعشرات قبل ثلاثين عاماً. وجميعها يمتلك بشكل نمطي مكتباً إبداعيا واحداً على الأقل في باريس وآخراً في نيويورك. في حين أن الكيمياء الصناعية تجري في كل أنحاء العالم.