بوحي من حديقة غامضة تتمتع بتاريخ عريق وتقع في قلب مدينة البندقية، ابتكرت علامة هيرميس عطراً جديداً دوَّنت بفضله فصلاً جديداً في سجل إنجازاتها
كانت ظلال الأشجار تنعكس على السطح الزجاجي لقاربنا الذي أخذ يشق هادراً مياه البندقية حتى وصلنا إلى ممر مائي صغير يقع على جانبه شارع مُعبَّد بالحصى، بينما ينتصب على الجانب الآخر جدار تصدّع طوبه الأصفر وتهاوى في بعض مواضعه. وقد رسا بنا القارب على جزيرة جوديكا، فسرنا على جسر أفضى بنا إلى بوابة صغيرة خضراء لا يمكن حتى لسكان المدينة عبورها، إذ تقبع خلفها قطعة أرض خاصة تخفي حديقة إيدن، أكبر حديقة خاصة في البندقية. وفي سبيل ابتكار أحدث عطور هيرميس، واسمه: “آن جاردان سور لا لاغون”، قررت صانعة العطور، كريستين ناجيل، إماطة اللثام عن السر الغامض الذي يتوارى خلف هذه البوابة.
وقد ابتدرتني قائلةً: “كان من المقرر أن تعتمد فكرة العطر على إحدى الحدائق والمشاعر التي تبعثها في النفس، ولكن هيرميس أطلقت لي العنان في أن أفعل ما أشاء”. وعلى الفور، وجهت ناجيل، التي تنحدر من أصول إيطالية، ناظريها نحو الحدائق الشهيرة في تراثها. وقادها البحث إلى قصة اللورد الإنجليزي فريدريك إيدن، الذي اشترى قطعة أرض بجزيرة جوديكا في البندقية عام 1884، ولكن المياه التي تحيط بأرضه بعثت الملل في نفسه، فقرر إقامة حديقة في قلب هذه المدينة. ولم تثنِ ضحالة الأرض وملوحة التربة، التي تجعل من العسير زراعة النباتات، اللوردَ إيدن عن عزمه على إقامة هذا المشروع. تقول ناجيل: “أراد زراعة هذه الأرض تحديداً بما يتلاءم مع الطبيعة”، فأحالها إلى حديقة إنجليزية نموذجية.
وتتمايل شجيرات الورود المُثقلة بالأزهار على تعريشات من أغصان شجر الصفصاف، بينما تصطف أشجار السرو على جانبي ممرات الحديقة المغطاة بأصداف البحر. وبعد عِقد من وفاة إيدن، باعت أرملتُه الحديقةَ إلى الأميرة ألكسندر، أميرة اليونان، وابنتها ألكسندرا زوجة ملك يوغوسلافيا. “عاشتا في الحديقة دون أن تحدثا تغييرات كبيرة”. ثم باعتاها إلى الرسام النمساوي، فريدنسرايش هوندرتفاسر، عام 1972، والذي ترك نباتات الحديقة تنمو دون تشذيب. وعن ذلك تقول ناجيل: “كان يمقت الخطوط المستقيمة، فترك النباتات تنمو وتزدهر حتى صارت الحديقة كالغابة”. وعندما توفى عام 2000، انتقلت ملكيتها إلى مؤسسة أقامها هوندرتفاسر فأغلقتها أمام الجمهور.
“قرأتُ جميع قصص هذه الحديقة، وقد أخبرني الجميع بأن دخولها ممنوع. فأثار ذلك حماسي أكثر لزيارتها”. وأرسلت ناجيل رسالة خطية إلى رئيس المؤسسة، تلقت على إثرها خطاباً يطلب منها القدوم إلى ڤيينا. فسارعت بحجز مقعد على طائرة متجهة إلى النمسا. “أخبرني الرئيس بأنه يتلقى مئات الرسائل من أناس يطلبون زيارة الحديقة ولكنه يرفض دائماً”. بيد أنه تأثر برسالتها، التي عبّرت فيها عن حلمها بهذه الزيارة. وبعدها بأسبوعين فقط، كانت تقف أمام البوابة الخضراء للحديقة.
تتذكر ناجيل هذه التجربة بكل تفاصيلها قائلةً: “رغم البرد القارس، أوقعتني الحديقة في غرامها فوراً؛ فقد كانت بالغة الجمال ووارفة الخضرة رغم أننا كنا في الشتاء. لقد أثارتني حقاً”. وقد تفحصت جميع صورها القديمة التي التُقطت لها عبر العصور وتأملتها ملياً، لتتمكن في النهاية من تحقيق الحلم المستحيل – أن تخطو على أرض هذه الحديقة. وكانت تكتشف، كلما زارتها كل شهر، مختلف النباتات والأزهار التي تزدهر في كل موسم. ولكنها تؤكد: “لم أقرر أن يعتمد عطري على هذه الحديقة سوى في شهر أكتوبر، عندما تذوقت عنب موسكات الذي ينمو بين كرومها”. وفي شهر أبريل التالي، ألهمتها نباتات بيتوسبوروم المزهرة – التي تقول عنها أنها: “قريبة الشبه بأزهار البرتقال والياسمين، ولكنها رقيقة للغاية”– إلى جانب روائح زنابق مادونا البيضاء والماغنوليا التي تصفها قائلةً: “رائحتها مستمدة من السماء، وتجربة مختلفة للغاية أن تنحني لتشمي عبق زهرة ما”. كما ألهمتها جذور الأشجار، التي تتمدد وتتلوى كالأفاعي على الأرض. “لقد أوحت لي بفكرة راحة اليد. وقد وجدتها فكرة مهمة ومرهفة على نحو خاص”.
وأفضت تجربتها تلك إلى ابتكار عطر “آن جاردان سور لا لاغون” (أي: حديقة على ضفاف البحيرة) الذي ينقلكِ إلى ضفاف المياه بين نفحات زهور الساليكورنيا ونسمات البحر العليلة. “وجدت في مشهد جميع هذه النباتات وهي تغوص بعد ازدهارها في مياه البحيرة صورةً شاعرية للغاية”. وكان من المهم لناجيل، بعدما سجلت في عقلها جميع مشاهد هذه اللحظات الممتعة، حتى قبل أن تزور هذه البقعة الخلابة، أن تنقل مَن تستعمل العطر إلى دروب الحديقة وأغوارها. “أردتُ أن أجمع أرواح مُلَّاك الحديقة مع الأرواح التي تحيا فيها”، مضيفةً: “أنا شخصية أخرى في هذه القصة، فأنا إنسانة يمكنها أن تنقل المشاهد الحالمة لهذه الحديقة إلى كل مَنْ ترغب في تخيلها”.