تابعوا ڤوغ العربية

شغفٌ مغربيّ: آخر حوار حصري مع الراحل بيير بيرجيه

بيير بيرجيه وإيڤ سان لوران. بإذن من مؤسسة بيير بيرجيه-إيڤ سان لوران

تتقدم ڤوغ العربية بخالص تعازيها إلى أسرة الراحل بيير بيرجيه وأصدقائه وزملائه المقربين في مؤسسة بيير بيرجيه-إيڤ سان لوران. لقد كان رجلُ الأعمال الفرنسي الراحل مؤسِّسَ دار إيڤ سان لوران والذراعَ الأيمن لها، وهو كذلك الذي يقف خلف تأسيس متحفي إيڤ سان لوران الجديدين في كلٍ من باريس ومراكش، والمقرّر افتتاحهما خلال الشهر القادم. لقد عشق بيير بيرجيه العالمَ العربي، واستحوذ المغرب على جلّ شغفه. وفيما يلي الحوار الحصري الأخير مع بيير بيرجيه قبل وفاته، والذي نُشِرَ لأول مرة في عدد سبتمبر 2017 من ڤوغ العربية. 

بقلم عائشة زمان

وضع بيير بيرجيه نصب عينيه إحياء الإرث المذهل لإيڤ سان لوران. وفي مدينتيهما المعشوقتين، باريس ومراكش، يحتفي متحفان جديدان بواحدٍ من أعظم مصممي الأزياء الراقية في القرن العشرين.

وبالنسبة لبيير بيرجيه، تتمحور الحياة حول مفهوم المشاركة، حيث يقول: ’’الموارد والثقافة وكل شيء آخر، أنا أحترم هذه الفكرة. سعدتُ للغاية بأنني قمت مع إيڤ بجمع واحدة من أعظم المجموعات الخاصة في هذا القرن. لطالما آمنت أنّ الأعمال الفنية لا تخصُّ فرداً واحداً بل هي ملكٌ للإنسانية جمعاء. ففي وقتٍ ما في المستقبل سيقول الناس: ’يجب أن تعرفوا عن هذين الرجلين اللذين عاشا في باريس خلال القرن العشرين‘. أنا أؤمن فقط بالناس والذاكرة، فالذكريات وحدها التي تدوم‘‘. وفي هذا العام، سوف تأتي جهود بيرجيه الاستثنائية بثمارها لتخليد ذكرى إرث إيڤ سان لوران مع افتتاح متحفين – أحدهما في باريس والآخر في المغرب.

وقال سان لوران عن بيرجيه ذات مرة: ’’هو رجل أعمال، لكنه يقوم بعمله مثل فنان‘‘. وهكذا بدأت قصة التعاون الذي جمع واحداً من أعظم مصممي الأزياء الراقية في العالم مع رجل الأعمال الفرنسي الذي أسَّس مع سان لوران داراً للأزياء تحولت فيما بعد إلى إمبراطورية ضخمة. فبعد أن أمّن رائد الأعمال الماهر الأموال الأمريكية في عام 1961، قام بتأسيس دار إيڤ سان لوران. وبعد عشر سنوات، أصبح المدير العام للدار مع امتلاكه 50% من أسهمها.

واليوم، في سن السادسة والثمانين، يظل بيرجيه شخصية رئيسية في النسيج الثقافي والسياسي والاجتماعي لمدينة باريس. وعلى مرِّ السنين، قدم الراعي السخي للفنون تبرعات لا تحصى لصالح مؤسسات الفنون مثل المركز الوطني للفنون والثقافات جورج بومبيدو، ومتحف اللوڤر، والمعرض الوطني في بريطانيا. وسيشكل المتحفان الجديدان رمزاً لعلاقةٍ مدهشة تجمع بين سان لوران صاحب الرؤى الإبداعية من ناحية، ومن ناحية أخرى بيرجيه الرجل المستتر خلف الكواليس الذي شجع شريكه على اكتشاف الحد الأقصى لطاقاته الإبداعية.

ويؤكد بيرجيه أن رؤية سان لوران العظيمة كانت تتمحور حول نقل أزياء الكوتور من المطاعم الراقية والشقق العصرية الفارهة ’’إلى الشارع‘‘. لقد كان معروفاً برؤيته الفريدة، حيث كان يفضّل إطلالة مسترخية لكن أنيقة في نفس الوقت، وقد أدت ابتكاراته إلى ظهور البناطيل النسائية ضمن مجموعات الأزياء الراقية في الستينيات، في وقتٍ كانت لاتزال تعتبر فيه من المحرمات. كما قدم بذلة التوكسيدو النسائية في سياق الحركة النسوية، واستعمل مضامين ثقافية غير أوروبية.

إيڤ سان لوران في ساحة جامع الفنا. الصورة: ريجينالد غراي

وعن سان لوران يقول بيرجيه: ’’إنجازه الأكبر كان تجاوزه لحقل جمالي له تأثير كبير على المجتمع. وإن كان الأمر كما يقولون حقاً أنَّ شانيل منحت المرأة حريتها، إذاً فقد منحها إيڤ القوة‘‘.

لو سموكينغ (بذلة التوكسيدو النسائية المثيرة)، وجاكيت السفاري، والبذلة ذات البنطلون، والجاكيت السميك، والمعطف الطويل الواقي من المطر جميعها قطع تثبت ذلك. ووفقاً لبيرجيه، فقد صرح سان لوران أن صناعة الأزياء ستكون مملة لو كان الهدف منها إلباس النخبة فقط. ولهذا فقد اخترع مفهوم الأزياء الجاهزة. ويشدّد بيرجيه بالقول: ’’لقد حول مهنة تصميم الأزياء إلى أمر جوهري وأساسي بالنسبة إلى المجتمع‘‘.

لقد التقت حياة الثنائي وتداخلت إلى أن وافت المنيّةُ مصممَ الأزياء عام 2008، وبعدها بعامٍ واحد أقيم مزاد في باريس عرض مجموعتهما من القطع الفنية والقطع العتيقة، وحقق المزاد مبلغاً مذهلاً بلغ 374 مليون يورو ذهبت إلى مؤسّستهما التي تحمل اسميهما: مؤسسة بيير بيرجيه-إيڤ سان لوران التي تأسست عام 2004 وجمعت أرشيفاً فريداً ضمّ خمسة آلاف فستان كوتور راقٍ، وخمس عشرة ألف قطعة إكسسوار، وآلاف الرسومات الأولية بخط يد المصمم الراحل، إلى جانب لوحات للمجموعات ونماذج تصميم أولية وصور فوتوغرافية. وهي بمجملها تحوِّل الذكريات إلى أرشيف بصري ضخم صنعه المصمم على مدى حياته.

ومن أجل حفظ هذه المجموعات الأرشيفية وعرضها أمام العامة، قامت المؤسسة بتحويل دار إيڤ سان لوران للأزياء الراقية في باريس إلى متحف. وقامت بتصميم المكان ناتالي كرينيير التي نظمت معارض للمركز الوطني للفنون والثقافات جورج بومبيدو، ومتحف اللوڤر أبوظبي المقرر افتتاحه قريباً. ومن أجل تنفيذ مخطط التصميم، عملت جنباً إلى جنب مع مصمم الديكور الداخلي المعروف جاك غرانج، والذي قام بتنسيق الديكور الداخلي لقصر سان لوران الذي يعود للقرن التاسع عشر، حيث قام باستنساخ لوحة للفنان مونيه على جدران غرفة المعيشة، كما زيّن الأرضيات بسجاد تركي عتيق الطراز، وأيضاً قام بتركيب ثريات كريستالية مرتفعة ومساند منجَّدة بحرير مخملي. وسيقدم المتحف نظرةً نادرةً على مشغل المصمم السابق. ووفقاً لبيرجيه: ’’سيكون تماماً كما كان في زمن دار الأزياء الراقية: المكان حيث تدّب الحياة في كلِّ مجموعات إيڤ. إنه مكانٌ عاطفيٌّ للغاية لأننا حافظنا على تصميمه الأصلي‘‘. وهكذا ستُعرَض ابتكارات سان لوران في المكان ذاته الذي أبصرت فيه النور.

ويستند التصميم المعماري لمتحف مراكش إلى شبكة من القرميد ابتكرتها الشركة الفرنسية استوديو كيه أو. وصممت هكذا كي تبدو مثل خيوط النسيج، وهي مستوحاة من أنماط ابتكرها سان لوران عبر أعماله، ومبنية من التراكوتا والإسمنت والحجر المغربي والرخام. ويشكل موقعه مركزاً ثقافياً استثنائياً. أما داخل المبنى المنخفض الذي تبلغ مساحته أربعة آلاف مترٍ مربع، تستقر مساحة عرض تُظهِر أعمال سان لوران إلى جانب قاعة تضم 130 مقعداً، ومكتبة، ومقهى، ومكتبة بحثية تحتوي على أكثر من خمسة آلاف كتاب تتناول الموضة، والتاريخ العربي، وشعب الأمازيغ في شمال أفريقيا، والجغرافيا، والأدب، وعالم النبات.

متحف سان لوران في باريس، بإذن من متحف سان لوران.

وعلى الرغم من مولده ونشأته في الجزائر، اتخذ سان لوران من المغرب بيتاً ثانياً له بعيداً عن مقر إقامته في باريس، لتصبح بعدها منبعاً للإلهام والمعين الذي يستقي منه إبداعاته طوال مسيرة حياته المهنية. وكان سان لوران وبيرجيه قد زارا المغرب للمرة الأولى عام 1966، حين كانت مراكش مكاناً تلتقي فيه النخبة اللامعة من هواة السفر. وهناك تعرفا على تاليتا غيتي، الزوجة الشابة لجون بول غيتي جونيور، وريث عملاق النفط جون بول غيتي، بعدما كان مهندس الديكور الشهير بيل ويليس قد انتهى لتوّه من تصميم ديكورات فيلا الزوجين التي بُنيت في القرن التاسع عشر (والذي قام لاحقاً بتصميم ديكورات المباني العديدة التي يمتلكها سان لوران). وكان غيتي لا يفتأ يقيم حفلات فخمة، يدعو إليها أصدقاءه المشاهير أمثال ميك جاغر، وأنيتا بالينبرغ، وماريان فيثفول.

وبسبب جمال المدينة الفريد ووقعها الساحر عليهما والحماس الذي ألهبته دائرة الأشخاص المبدعين المحيطين بهما، قرر بيرجيه وسان لوران شراء دار الحنش (أي منزل الثعبان) والذي يقع في مراكش بالقرب من ساحة جامع الفنا. ويتذكر بيرجيه قائلاً: ’’فتنَتنا مراكش فاشترينا منزلا رائعاً‘‘. وسرعان ما بدءا يتنقلان ما بين فرنسا والمغرب، وكثيراً ما انضم إليهما أصدقاؤهما: ماريسا بيرينسون، وهيلين روشا، ولولو دي لا فاليز، وغيرهم. وهناك، قضيا أمسيات ممتعة مستوحاة من ليالي ألف ليلة وليلة في تلك الدار التي تميزت بمفروشاتها من السجاد الشرقي ومشربياتها الرائعة، بين وهج الأضواء التي تلألأ من الفوانيس الموضوعة بجوار حمامات السباحة التي بُطنت قيعانها بالفسيفساء وهما يتنسمان عبير زهور الياسمين الذي يفوح في جنبات الدار. ويذكر بيرجيه أن جمال الفن الإسلامي جذبه هو وصديقه منذ أن زارا المغرب للمرة الأولى. ’’أحببنا الحرفيين العرب، وكان إيڤ يستمتع بالتجول في السوق وساحة جامع الفنا‘‘. وقد سجلت مجموعتهما من الفن الإسلامي التي عرضاها للبيع في أبهاء قصر السعدي في مراكش رقماً قياسياً فريداً في هذا المجال عندما بيعت بمبلغ 1.6 مليون دولار أمريكي.

وعن حديقة ماجوريل في مراكش، يقول بيرجيه الذي يعد واحداً من أبرز رعاة الفنون في عصرنا الحديث: ’’ارتباطي بالمغرب التي صارت وطني الثاني نابع من عمق ما أشعر به نحوها. فقد قضيت فيها نصف عمري‘‘. يتذكر كيتو فييرو، الأمين العام لحديقة ماجوريل التي أقيم الآن على أرضها متحف البربر، قائلاً إن سان لوران كان يعود هنا للراحة بعد كل عرض يقدمه في باريس، ويضيف: ’’رسم اسكتشات جميع مجموعات أزيائه وابتكرها هنا، في الحديقة. وهنا، كان يحلق بخياله بين رحلاته في روسيا، والهند، والصين، واليابان‘‘. وبدافع افتتانهما بهذه الحديقة، تمكن سان لوران وبيرجيه من امتلاكها عام 1980 وشراء فيلا الواحة المجاورة لها (التي صممها في الثلاثينيات من القرن الماضي المستشرقُ الفرنسي والرسام جاك ماجوريل) لينقذاها بذلك من الهدم. ويؤكد كثير من النقاد أن مكتبة فيلا الواحة، التي صممها بيل ويليس، هي الغرفة الأكثر تميزاً من بين إبداعات مهندس الديكور الشهير.

وقد ذكر ويليس أنها ’’أجمل مكان‘‘ صممه خلال سنوات عمله الخمسين. أما سان لوران فقال إنها الغرفة المفضلة له في هذا العالم. ولم لا، وكل شبر في جدرانها يزدان بالسقف المقوسة، وخزائن الكتب التي تغطيها زخارف تم رسمها وحفرها يدوياً وقيل إن الحرفيين المغاربة أمضوا تسعة أشهر في إتمامها. أما الأثاث فتم كساؤه بأقمشة الكليم بينما تزخر قطع الزينة بمزيج ساحر من تصاميم عصر نابليون الثالث والتصاميم الشرقية، فيما تصطف اللوحات الزيتية التي رسماها شارل-تيودور فرير على جدرانه.

أحب سان لوران مراكش لأنها ذكرته بفترة طفولته وشبابه في ربوع مدينة وهران بالجزائر. وعام 1983، صرح قائلاً: ’’إن الجرأة التي شوهدت في أعمالي منذ ذلك الحين أنا مدين بها للمغرب، بتناغمها البارع، وتراكيبها الجسورة، والحماس الذي يتقد من إبداعها. لقد أضحت هذه الثقافة ملكاً لي، ولكني لم أشأ استيعابها كما هي؛ فأخذتها، وبدلت منها، وكيفتها‘‘. وكان يرى مراكش معيناً لا ينضب من الإلهام. ’’لازلت أحلم بألوانها الفريدة؛ برؤيا زرقاء‘‘. وعندما تُوفي سان لوران عن عمر ناهز 71 عاماً عام 2008، قال بيرجيه، في الخطبة التي ألقاها لوداعه على منبر الكنيسة: ’’يوماً ما، سألحق بك تحت ثرى أشجار النخيل في المغرب‘‘. وبناءً على رغبته، نُثر رماد جثمانه في حديقة منزله بمراكش، ليكون بمثابة الشاهد الأخير على عشقه لهذا البلد.

وكان بيرجيه يعني كل كلمة مما قال، أكثر من أي وقت مضى في حياته. ’’بالطبع، فقد كرست جزءاً كبيراً من حياتي لإيڤ وتراثه. ولا يعد المتحفان تخليداً لذكراه فحسب – بل هما تحية للرجل وعبقريته، التي لم يكن لها حدود. وبهما تستمر المغامرة التي بدأناها معاً منذ زمن طويل مضى، عندما لم نكن نعلم ما تخبئه لنا الأقدار‘‘.

متحف إيڤ سان لوران في مراكش. الصورة بإذن من متحف إيڤ سان لوران

يفتح متحف إيڤ سان لوران في باريس أبوابه في الثالث من أكتوبر خلال أسبوع الموضة في عاصمة النور. فيما يفتتح متحف إيڤ سان لوران في مراكش يوم 19 أكتوبر. ولمزيد من التفاصيل تفضلوا بزيارة موقع مؤسسة بيير بيرجيه-إيڤ سان لوران على العنوان Fondation-pb-ysl.net

نشر هذا المقال لأول مرة في عدد سبتمبر 2017 من ڤوغ العربية.

الاقتراحات
مقالات
عرض الكل
مجموعة ڤوغ
مواضيع