
أمينة الدمرداش تضع عقد ألماس يعود لجدتها الملكة نازلي وترتدي فستاناً من إيلي صعب. بعدسة جوليان توريس لصالح ڤوغ العربية
المقال بقلم نيّرة ياسر ومنشور على صفحات عدد أكتوبر 2017 من ڤوغ العربية.
حفيدة الملكة نازلي، الفنانة أمينة الدمرداش، تستذكر إرث آخر عائلة ملكية حكمت مصر.
’’جالسة في مرسمي، تحيط بي نساءٌ قد بدأتُ برسمهن خلال السنوات القليلة الماضية. أرفع شعري وأثبته بشكل كعكة مرتخية وأحدق بإحدى السيدات، ثم بأخرى. تهيم أفكاري بينما أنظر إلى صور أفراد عائلتي؛ أبطالٌ لطالما رغبت في مقابلتهم. أضع لوحتي وفرش الرسم في مكانها وأبدأ برسم الخطوط الأساسية لنجمتي الرئيسية الجديدة، وتدبُّ فيها الحيوية شيئاً فشيئاً. أقدم نفسي لها: ’مرحباً يا صديقتي الجديدة، أنا فنانة، وحفيدة الملكة المصرية نازلي والأميرة فائقة‘.
وتنقضي الشهور التي تفصلني عن معرضي الأول في صالة الزمالك الفنية في القاهرة سريعاً، ومع كل يومٍ أقوم بشطبه على تقويمي، يصبح تاريخ جداتي أكثر وضوحاً وحيويةً. أذكر ذاك اليوم في أواخر مراهقتي عندما أجلسني والدايَّ مع إخوتي ليخبرانا عن العائلة الملكية التي حكمت مصر. كانت جدتي نازلي صبري (1894–1978) الزوجة الثانية للملك فؤاد الأول وأول ملكة لمصر، إلى أن وافت المنيةُ الملكَ فؤاد الأول عام 1936. ومعاً، امتد سلطانهما ليشمل مصر والسودان والنوبة وكردفان ودارفور. وقد رُزِقَت بأربعة أبناء هم: الأمير فاروق (الذي أصبح ملكاً فيما بعد)، والأميرة فوزية (التي أصبحت إمبراطورة إيران وكانت الزوجة الأولى لمحمد رضا بهلوي)، والأميرة فايزة، والأميرة فائقة (جدتي)، والأميرة فتحية. أذكر أنني استغرقت عدة شهور لأفهم حقيقة العلاقة التي تربطني مع العائلة التي وجدت في صورٍ متناثرة في أرجاء منزلنا. وعلى الرغم من أنني أستيقظ كل يومٍ لأرى صوراً للملكة نازلي محاطةً بأطفالها، لم أعر الموضوع اهتماماً بالغاً، إلى أن بدأ أصدقائي بطرح الأسئلة.

الملكة نازلي مع أطفالها الأربعة
ترعرعتُ في منزلٍ ثمَّن عالياً التعليم ورفض الاعتماد على ألقاب العائلة ومعارفها. وقد وُلِدتُ بعد سنواتٍ من الأيام الأخيرة لجدتي وبعد عقودٍ من عصر جدة أمي، لذا لا أعرف الكثير عن عائلتي والنساء اللواتي هيمنَّ فيما مضى على صفحات الأخبار الرئيسية. وبوصفي فنانة، فإنَّ المجموعات التي تضم لوحاتهن ومنحوتاتهن هي الشيء الوحيد الذي قضيت ساعاتٍ طويلة أبحث فيه، فالفن هو طريقتي الفطرية لمقابلتهن، ومعرفة الأشياء المفضلة لديهن، وحتى إعادة إحياء لحظة تاريخية معهن. وبعد ثورة عام 1952 في مصر، نُفيَت عائلتي وتشتَّتت في أنحاء متفرقة من العالم.
لذلك كانت معرفة تفاصيل حول جداتي وحياتهن قبل فترة الخمسينيات أشبه بأحجية جمع قطع لوحة مفككة.
رفضت كلٌّ من جدتي فائقة وأختها فوزية مغادرة مصر، وقد سُمِح للأختين بالاحتفاظ بمنزلٍ واحدٍ لكلٍّ منهما واستعمال ممتلكاته خلال حياتهما. وبعد رحيلهما، استولت الحكومة على المنزلين. وداخل منزل جدتي كان هناك عديد من لوحات محمود سعيد، الذي كان خال فريدة ذو الفقار الزوجة الأولى للملك فاروق. وكان لدى فوزية (أخت جدتي فائقة)، لوحة لامرأة مصرية رسمها سعيد دائماً ما لفتت انتباهي خلال زياراتنا.
والآن خلال رحلاتي اليومية على دراجة ڤيسبا بين المعرض الفني ومرسمي، أكاد أسمع صوت فوزية الرقيق والخافت وهي تروي قصصاً عن عالمها قبل فترة الخمسينيات. وبوصفها الجدة الوحيدة التي أتيحت لي فرصة مقابلتها، تجتاحني ذكريات الأيام التي قضيتها في منزلها بالإسكندرية مثل أمواج البحر. رحلت جدتي في سن الرابعة والخمسين، دون أن تتاح لي فرصة التحدث إليها ولو لمرةٍ واحدة. وبعد سنواتٍ من التحاور مع صورها، قمت بالخطوة الكبيرة وذهبت إلى زيارة ما كان سابقاً منزلها. رفضت أمي أن تعبر عتبته دون أن تكون جدتي فيه، لذا قادني أبي عبر غرفه. وعلى الرغم من أنه قد تحوّل الآن إلى مدرسةٍ لتعليم رقص الباليه والفنون، فقد أمكن والدي أن يستحضر كامل تفاصيله في مخيلته. ومع ابتسامةٍ عريضة تعلو وجهه أشار إلى بقعة محددة وأخبرني أنه تقدم لخطبة أمي هناك مع تذكّره لتفاصيل أخرى من الأيام الأولى التي قضياها معاً خلال فترة خطوبتهما.
وفي كل مرةٍ ساعدني أبي فيها على فك شيفرة جزءٍ من هوية جدتي، بدت صورها وكأنها تهمس لي مرةً أخرى، وبدأت الممتلكات الثلاثة التي ورَّثتني إياها تبدو أكثر ألفةً. حيث أخبِّأ في خزانتي معطف الفرو البني الذي يعود لجدتي وعليه تطريزٌ رصين لشعار النبالة الخاص بالعائلة، وهو بحاجة إلى إصلاح ولكن قلبي لا يطاوعني أن أسمح لأحدٍ أن يعبث به. في حين أحتفظُ بسوار الحظ والخاتم اللذين صممتهما جدتي لوالدتي في علبة مجوهرات، وقد أعطاها جدي هذا السوار وكانت تضيف إليه تعويذةً للحظ من كلِّ بلدٍ زاراه معاً، وهو يحمل الكثير من التذكارات – بعضها يشبه المعالم الأشهر في العالم، إلى جانب القليل من التذكارات المحلية مثل منمنمات لجوازات السفر القديمة. ولأنني أخشى أن يسقط أحد تلك التذكارات من السوار ويضيع معه جزءٌ من تاريخه إلى الأبد، فقد ارتديته أربع مراتٍ فقط، ولكني أضع الخاتم من حينٍ إلى آخر، وهو يضم صورةً للملك فؤاد محفورة على قطعة معدنية يحيط بها إطارٌ ثري بلمسات فن الآرت ديكو.
وقد أضعتُ القبعة المماثلة لمعطف الفرو، وشعرت حينها بأنني دُمِّرت، وهذا ما قادني إلى التفكير بما شعرت به جدة أمي عندما كان عليها أن تتخلى عن الكثير من مجوهراتها التي أحبَّتها. كانت الملكة نازلي في كاليفورنيا، تعيش في شقة صغيرة مع ابنتها فتحية، عندما قامت الثورة. وفي مرحلة معينة، شكَّلت المجوهرات وسيلة البقاء الوحيدة للأم وابنتها، حيث وجب عليهما بيعها قبل أن تصلا إلى حافة الإفلاس.

عقد من ڤان كليف آند أربلز صُمِّم وفقاً لطلب الملكة نازلي بمناسبة زفاف ابنتها. بإذن من ڤان كليف آند أربلز
ومنذ عامين أقيم مزاد علني لبيع بعضٍ من مجوهراتها، وكنتُ شديدة الاهتمام بطرح أسئلةٍ على عائلتي حول قطع المجوهرات، وحينها فقط أرسل لي خالي صورةً لها وهي تضع عقد ڤان كليف آند أربلز الشهير في لوحةٍ رسمية لها. لم يكن باستطاعتي رؤية تفاصيله بوضوح، إلا أنه أخبرني أنه تمَّ تصميمه بمناسبة زفاف ابنتها، وقد أدركت فوراً الأهمية التي يتمتع بها هذا العقد بالنسبة لها‘‘.