عرضت دار سوذبيز للمزادات في لندن لوحة الفنان محمود سعيد الفريدة، بورتريه مدام بتانوني بيه، التي رسمها سنة 1923، للبيع في مزاد علني بسعر أولي بلغ 150 ألف جنيه إسترليني. وهذه ليست فقط المرة الأولى التي تُعرَض فيها لوحة رسمها الفنان لإحدى قريباته للبيع فحسب، بل هي أيضاً المرة الأولى التي تُطرَح فيها إحدى لوحات الفنان الشهير للبيع في مزاد علني على الإطلاق. وبمناسبة المزاد الذي نظمته سوذبيز بعنوان الفن في القرن العشرين/الشرق الأوسط يوم 25 أبريل، أجرت ڤوغ العربية تحقيقاً مطولاً للوقوف على تفاصيل القصة التي تكمن وراء تلك اللوحة الآسرة.
“لوحة محمود سعيد مصرية خالصة بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ. وليس سعيد مثل أولئك الشعراء الذين يظنون أن بوسعهم تأليف أعمال شرقية عبر نثر كلمات مثل الأهرامات والحياة البدوية في أبياتهم الشعرية”.. كلمات كتبها أحمد راسم في كتابه الظل: صفحة من الفن الحديث، تعبيراً عن إعجابه بتلك اللوحة.
وقد تَميّز محمود سعيد، على مدى سنوات نجاحه كفنان تشكيلي التي امتدت حتى 45 عاماً، بغزارة إنتاجه من اللوحات الزيتية. وتُبيِّن لوحاته وقوعه كرسَّام في عشق الجمال والحداثة في مصر بنفس قدر عشقه للتراث الثقافي المشبّع بتقاليد بلاده. وقد تناول الفنانُ تلك الثنائية في كثير من لوحاته. ويُذكرنا العديدُ من أعماله بلوحات مَن سبقوه من المستشرقين – ويتجلّى ذلك خاصةً في تصويره لوادي النيل وغيره من المناظر الطبيعية المصرية، وشخصياته النسائية، كاسيات كنَّ أم عاريات، ورسمه للراقصات والموسيقيين التقليديين، بجانب اهتمامه أيضاً بالعادات الإسلامية. كما تُهيمن على لوحاته اللمسات الحسية إلى جوار ثرائه في السرد التركيبي الجمالي، وقد أبرز ذلك اهتمامُه البالغ بالألوان والأشكال، وعنايته بأدق التفاصيل. لهذا، يمضي انضباطه الشخصي مع شغفه بالرسم في تناغم وانسجام تامين، ويتضح ذلك بجلاء في جوهر موضوعاته الفنية.
وُلد محمود سعيد في كنف عائلة أرستقراطية من الإسكندرية (هو نجل محمد باشا سعيد الذي تولى منصب رئيس الوزراء في مصر في عهد الملك فؤاد الأول). ولم يكن مقدراً لسعيد أن يصبح فناناً تشكيلياً. ورغم أنه تدرب وعمل في مجال المحاماة، لم يكن ذلك قط ما شغف به وتاق إليه، ولكنه كان خياراً مهنياً أملاه عليه والده. وعلى النقيض من عمله في نظام المحاكم المختلطة في مصر، كان سعيد يرسم، وكان شغفه بالرسم لا يَفتر، ما مكّنه من المحافظة على موهبته وتنميتها. وكان هوسه بملاحظة البيئة المحلية المصرية ودراستها يتباين تبايناً صارخاً مع الوسط الأرستقراطي الأوروبي الزائف الذي أحاط به، لذا قرر سعيد، سنة 1947، ترك المحاماة بلا رجعة وتكريس حياته لعشقه الحقيقي، وهو: الرسم.
وقد أشرف على تدريبه في بدايات حياته الفنية الفنانةُ الإيطالية إيمليا كازوناتو دا فورنو، التي كانت طالبة في أكاديمية فلورنسا للفنون. ثم واصل دراسته مع فنان إيطالي آخر من فلورنسا يدعى أرتورو زانيري، والذي تعلم سعيد على يديه أساليب الرسم الكلاسيكية. وفي سنة 1920، انتقل الفنان التشكيلي إلى باريس لمواصلة دراسته الفنية. وخلافاً لغيره من الفنانين المصريين في عصره، التحق سعيد بفصول الرسم على نفقته الخاصة، وبصفة أساسية في أكاديمية چوليان في باريس. وعلى النقيض من الصيحة التي راجت في باريس في ذلك الوقت ونهج التجديد في أسلوب المدرسة التأثيرية للرسم في الهواء لطلق، ظل سعيد متمسكاً بالرسم في مرسمه الخاص مستلهماً بخياله لمحات الضوء دون الاستعانة بالمشاهد الطبيعية. وتطور أسلوبه الفني الثري الذي ارتبط بالعصر الذهبي للرقي والفخامة لمجتمع ما قبل الثورة المصرية عام 1952.
لذا يُعد خبر عرض دار سوذبيز في مزادها إحدى لوحات محمود سعيد، بعنوان: بورتريه مدام بتانوني بيه، جديراً بالمتابعة والاهتمام. وهذه اللوحة التي لم يشاهدها الكثيرون من قبل، ظلت حبيسة الممتلكات الخاصة بالعائلة منذ أن رسمها الفنان سنة 1923. وصاحبة هذا البورتريه الجميل هي فردوس حمادة، ابنة عم سعيد. وخلافاً للعديد من لوحاته الأخرى، تمزج “مدام بتانوني” لوحتين اثنتين في واحدة؛ فهي تُبرز السيدة في الواجهة، بينما يظهر في الخلفية منظر طبيعي للبيئة المصرية. وهذه اللوحة لا مثيل لها بين أعمال سعيد الفنية، لذا فهي بلا شك عمل فريد من نوعه.
وكانت فردوس، ومعناها ’الجنة‘، من السيدات البارزات في الإسكندرية ووصيفة للملكة فريدة. وكانت سيدة مُحسِنَة محبة للخير بفطرتها، وإحدى موسِّسَات جمعية الهلال الأحمر في مصر، وقامت بمبادرات لتطوير دور الأيتام وسعت في تنميتها وتحقيق الكفاية المالية لها. وبجلستها الملكية، تُظهر فردوس في لوحة مدام بتانوني كسيدة نبيلة متعلقة بخلفيتها المصرية؛ فهي تتكئ بأناقة ورقّة تحسد عليها على كرسي خشبي بسيط يمثّل بذاته علامة بارزة في ثقافة المقاهي المصرية. وتجسد فردوس في هذه اللوحة كلاً من المرأة المصرية بمكتسباتها من الحرية في عشرينيات القرن الماضي من ناحية، وأسلوب فن الآرت ديكو العالمي الذي يُبرِز بذاته العصرَ الزاهر لمدينة الإسكندرية من ناحية أخرى. وكانت فردوس امرأة رائدة ومستقلة، وكان سعيد ينظر إلى النساء باعتبارهن مصادر للقوة في الوجود، وزوجات، وأمهات، وأيضاً ثائرات، لذا أبرزهن في لوحاته بكثير من الإجلال والمهابة، وكرموز للهوية الوطنية المصرية. كما تُبيّن اللوحة تراثَ وبهاءَ زمن مضى وولّى من تاريخ مدينة الإسكندرية، بينما توقظ في قلب مشاهدها حنيناً لأجواء تلك المدينة الساحلية النابضة بالحياة، والتي كان يسكنها أُناس قدموا من شتى بقاع الأرض.
وتُظهر اللوحةُ الجمالَ الخالص للمرأة المصرية، بشفتيها المُكتنزتين، وعظام وجنتيها البارزة، ولون بشرتها القمحي الداكن، بينما يشع من طلّتها سمو تسكنه الطمأنينة، ولكنه مع ذلك لا يواري فتنتها البادية. ويتضح بجلاء مهارة سعيد في رسم الضوء الذي يظهر بخاصة في الإشراقة المميزة لبشرة المرأة. وما يسترعى الانتباه هو ثراء الألوان المستخدمة في رسم اللوحة، والذي يُبرز الألوان الفريدة المميِّزة للبيئة المصرية بأسلوب يرسخ ولع سعيد بالألوان المميزة للشرق الأوسط بصفة عامة. كما أن احتفاءه بالمناظر الطبيعة يتجلّى في القوارب التي تتهادى على صفحة النيل، وكذلك من خلال البنايات التقليدية.
وتُعد لوحة مدام بتانوني خيرَ مثال على اللوحات الاجتماعية التي سادت عبر البلدان وعلى امتداد التاريخ. وتظل لوحات البورتريه، سواء رُسمت بتأثير الحركة الرومانسية أو بأسلوب المحاكاة، بوابةً حميمية وعميقة لتاريخ ثقافي مشترك. ومنذ عصر النهضة وحتى لوحات البورتريه في هذا العصر واستخدام التصوير الفوتوغرافي، يستمر استخدام الفنانين للبورتريه باعتباره ممثلاً مجسِّداً لعصرهم وثقافتهم. ويكمن جمال وتفرّد لوحة مدام بتانوني في طبيعتها المزدوجة، كونها رسماً لامراة ومنظراً طبيعياً في الوقت ذاته. لذلك، هي لا تُصور امرأة فحسب، بل عصراً بأكمله.
أقيم مزاد سوذبيز الذي يحمل عنوان الفن في القرن العشرين/الشرق الأوسط يوم 25 أبريل وعرض لوحة الفنان محمود سعيد، بورتريه مدام بتانوني بيه – 1923، للمزايدة بسعر بدأ من 150 ألف جنيه إسترليني.