نُشر للمرة الأولى على صفحات عدد مارس 2018 من ڤوغ العربية.
في أوائل الستينيات، كانت ظاهرة موسيقى الييه ييه (نوع من موسيقى البوب انتشر في أوروبا آنذاك) تجتاح فرنسا، وكانت أغاني نجمتيّ موسيقى البوب الفرنسيتين فرانسواز هاردي وفرانس غال -التي تتغنّى بالحب دون مقابل- تشهد انتشاراً واسعاً، بينما بدأ اسم كاترين دونوڤ يسطع كنجمة في أفلام مثل لي باريزيان بسبب ملامح وجهها البريئة والباردة في آن معاً.. في تلك الأثناء، وعلى الضفة اليسرى من نهر السين، معقل الفنون في باريس، وفي حي سان جيرمان دي بري تحديداً، بدأت دارٌ جديدة للأزياء تتحسس طريقها في عالم الموضة. كانت دار إيڤ سان لوران، التي أسسها تلميذُ كريستيان ديور السابق، تصمم أزياءً تستهدف “تحرير المرأة” من القيود الاجتماعية والسياسية. لذا، عندما ابتكر سان لوران بذلة رسمية للنساء كالتي يرتديها الرجال باسم ’لو سموكنغ‘ عام 1966، والتي سرعان ما ارتدتها فرانسواز هاردي وكاترين دونوڤ، أصبحت تلك البذلة قطعةً فريدة ولاقت صدىً وتجاوباً كبيراً من النساء في تلك الفترة. فقد أسفرت فكرةُ ارتداء زي خاص بالرجال مع بنطلون عن أسلوب جديد في ارتداء الأزياء لا يخلو من المشاعر الحسية بالغة الإثارة. وهنا تذكر عائشة الغزاوي بنهيمة، زوجة سفير المغرب لدى الأمم المتحدة آنذاك، سعادتها بردود الأفعال ومشاعر الذهول التي انتابت رواد مطعم لا غرينويل في نيويورك عندما دلفت من بابه مرتديةً بذلة سان لوران المشتملة على بنطلون. وتشكل هذه الواقعة انعكاساً ملموساً للتغيير الذي طرأ على مظهر المرأة وما تحققه من قوة متنامية.
وجذب سان لوران النساء إلى اتباعه بنمط حياته المتحرر واعتياده السفر في رحلات خاطفة إلى مراكش، فضلاً عن ملهماته اللواتي إلى جانب كاترين دونوڤ شملن بيتي كاترو ولولو دو لا فاليز، هذا فضلاً عن إبداعاته الساحرة. وكان المصممُ يعلم كيف يصدم مشاعر الجميع، ولم تكن صورته العارية التي نشرها للترويج لعطره الجديد ’بور أوم‘ (عام 1971) استثناءً. ثم سار على دربه المديرون الإبداعيون الذين جاءوا من بعده، والذين منهم توم فورد الذي أمضى أسابيع في العمل بين إيطاليا وفرنسا كمدير إبداعي لكل من غوتشي وإيڤ سان لوران، وأدهش الجميع عندما نشر صورة دعائية للعارضة صوفي دهل عارية، إلا من حذاء في قدميها، بجسد أشبه بالبورسلين [من فرط نقائه وسطوعه] للترويج لعطر ’أوبيوم‘. كما حفل عهد هادي سليمان والذي امتد إلى أربع سنوات بمجموعة من القرارات المثيرة للجدل؛ فقد نقل مقر الدار الفرنسية إلى لوس أنجليس، كما أزال اسم “إيڤ” من مجموعات سان لوران للأزياء الجاهزة (ويبدو أنه لم يعد أحد يتذكر أنه كان الاسم الأصلي للدار)، وأيضاً غَيّر التصاميم الداخلية لمتاجر الدار وجعلها من الرخام البارد. وعندما رحل عن إيڤ سان لوران، توافدت نجمات الموسيقى على الدار وباتت مرة أخرى تحظى بمعجبات وفيات وعلامة يهواها الجميع.
وفي أبريل 2016، بدأت إيڤ سان لوران عهداً جديداً على يد مديرها الإبداعي أنتوني ڤاكاريللو. ونتعرف من سيرته الذاتية التي أُوجِزَت في ستة أسطر نشرتها الدار أن ڤاكاريللو -الرجل الذي يهوي الأحذية الرياضية البيضاء وعالم الأبراج (يضع وشماً لعلامة برج الجدي على يده وذراعه)– وُلِدَ في مدينة بروكسل سنة 1980، وتخرج في كلية لو كامبر للفنون والتصميم، وفاز بالجائزة الكبرى في كلٍ من مسابقة جائزة أندام للأزياء، والمهرجان الدولي للأزياء والتصوير الذي يُقام ببلدة إيير بفرنسا. وتذكر سيرته الذاتية أيضاً، أنه وظف موهبته في ريادة الأعمال في تأسيس علامة تحمل اسمه سنة 2009، كما تذكر أنه عمل مع كارل لاغرفيلد في فندي، وأيضاً عُيّن مديراً فنياً لدار ڤيرسوس ڤيرساتشي. وعندما تركها للعمل لدى إيڤ سان لوران، قالت دوناتيلا ڤيرساتشي إنها “حزينة لرحيله”. فيما ذكرت فرانشيسكا بيلليتيني المديرة التنفيذية لدار إيڤ سان لوران أنها “في غاية السعادة”، ليرد عليها ڤاكاريللو في بيان له قائلاً إنه “شديد الامتنان” لتعيينه في الدار. وذكرت بيلليتيني أيضاً أن لمساته الجمالية المجردة “ملائمة تماماً” للدار وأن أسلوبه في “الموازنة بمهارة وحذق بين عناصر الأنوثة المثيرة والرجولة الحادة في أزيائه” جعلته “خياراً طبيعياً للتعبير عن جوهر دار إيڤ سان لوران”. وقد أحدث تعليقها هذا ضجةً واسعة، تماماً مثلما فعلت سيرة ڤاكاريللو الذاتية عندما نشرت. وربما لم يكن ڤاكاريللو يوماً من مشاهير المصممين، إلا إنه يُعدّ بالتأكيد أحد نوابغ الموضة، ومصمماً يشبه كثيراً إيڤ سان لوران في بداياته.
ولكن، هل فكر ڤاكاريللو يوماً في إيڤ وما كان سيفعله في الدار لو كان على قيد الحياة؟ لا لم يفعل. فعندما صحبه بيير بيرجيه، الذي شارك في تأسيس دار إيڤ سان لوران، في جولة بين أرشيف الدار، أشار المصمم إلى تجربة رؤية الأزياء التي حُفرت في ذاكرته “على أرض الواقع” –مثل بذلة السهرات ’لو سموكينغ‘، وسترة السفاري، والمعطف المطري الخفيف، والطبعة المرقطة- كفرصة “لاستبعادها من أسلوبي في التصميم”. ويشرح قائلاً: “تتعلم أموراً ثم تأخذ مسافة بعيدة عنها لتمضي قدماً وفق شروطك الخاصة”. ويذكر أن بيرجيه نصحه قائلاً:” لا تقلد إيڤ. ابتكر رؤيتك الخاصة عن إيڤ سان لوران، ثم اتبعها”.
وفي هذه الصناعة التي يتنقل فيها المصممون المبدعون من علامة إلى أخرى كل بضع سنوات، فإن ڤاكاريللو الذي أمضى أربعة مواسم فقط في منصبه بالدار لا يعتبر إيڤ سان لوران نقطة انطلاق مؤقتة بل كمستقر ومقام له: “إنها قصة مستمرة، وتتطور عبر كل مجموعة. وطوال هذا الطريق نبتكر خزانة أزياء تزداد ثراءً كل موسم”. وقد نجح في الحفاظ على براعته الهندسية في الخط، والذي يزيده كثافة أو يستخدمه بذوق رفيع. وثمة بريق ثائر دائماً يكمن في أزيائه؛ كأنه حماس أو طاقة تقول لكِ: “أجل. ستخرجين الليلة وترقصين، وترقصين، وترقصين”. ويقدم تصاميم تجمع رؤيته وأفكاره الرئيسية عن المرأة: الحرة، والواثقة، والأنيقة. ويقول: “بالنسبة لي، هذه الأفكار تُجسد ما تريده المرأة العصرية من الأزياء”. وإذا تركنا الأزياء جانباً، نجد أن الفكرة الكامنة خلف أعمال سان لوران هي التي تجذبه. يقول ڤاكاريللو: “أحب أسلوبه الهادم للثوابت في الأزياء؛ ورومانسيته الحالكة المغلفة بقدر من الانحراف. ولكنه قدر محدود – لأنه، من خلال جميع أعماله، سواء كانت مجموعات أزياء أم صوراً، يمكنكِ أن تشعري بمدى حبه واحترامه للمرأة”. وهي صورة تتجسد في صميم مجموعاته الخاصة. ويتبع ڤاكاريللو حدسه الخاص لكي يبتكر “خيالاً أكثر تطرفاً” لتراث الدار. وقدم في مجموعته لربيع وصيف 2018، التي أزيح عنها الستار للمرة الأولى خلال عرض مبهر أقيم في الهواء الطلق وظهر في خلفيته برج إيفيل بأضوائه المتلألئة، تصاميم مزينة بريش النعام المترف، وبلوزات أنيقة بنمط الهيبي، وفساتين دوشيس الساتانية. ولم تظهر في عرضه سوى سبع عارضات يرتدين البنطلون. وكانت التنورات والشورتات تصل إلى أعلى السيقان وربما أعلى من ذلك. كما تضمن العرض إشارات لارتباط الدار بالعالم العربي عبر الإكسسوارات التي استخدمها؛ فقد زار ڤاكاريللو المغرب بالطبع، وأحب “طابعها البوهيمي، وروح السفر التي تغلفها، ومزجها بين الثقافات” ولكنه يتوقف عند هذا الحد ليسمح لأسلوبه في العمل بمواصلة الحديث. وعلى موقع العلامة YSL.com، يمكن للنساء تسوق حلي الدار المستوحاة من الثقافة الأمازيغية في الموسم الجديد: مثل الخواتم النحاسية بالألوان الفضية، والأساور المزخرفة بالأنماط الإثنية والقلائد الضخمة المزينة بالشراريب. لتبقى إكسسوارات إيڤ سان لوران –وليس فقط الحقائب التي تحمل شعار الدار– عاملاً جوهرياً في هويتها. وأكد سان لوران يوماً، في حوار أجراه عبر الأثير الإذاعي، على أهميتها عندما قال إن المرأة التي تقرن “الأزياء الجميلة بالأحذية والحلي الرديئة” يمكن أن تعتبر أنها “قضت” تماماً على أناقتها.
وشهد العرض حضور ملهمات العلامة، العارضة المخضرمة بيتي كاترو وكاترين دونوڤ، اللتين ارتدتا بنطلونين ضيقين وجلستا في الصف الأمامي، وحذت حذوهما فريدة خلفة. وكان من بين الحاضرات أيضاً شارلوت غينسبورغ، ابنة رائد موسيقى الييه ييه سيرج غينسبورغ، وكذلك الممثلة روبين رايت. وحضرت شارلوت وروبين –وهما في الأربعينيات والخمسينيات من عمريهما على التوالي– مرتديتين تنورتين قصيرتين، الأمر الذي جعلنا نتذكر ما قاله المصمم الراحل عز الدين عليّة بلسانه الحاد: “يجب ألا ترتدي التنانير القصيرة سوى الفتيات اللواتي تقل أعمارهن عن 18 سنة أو النساء اللواتي تزيد أعمارهن عن 80 سنة”. وعلى النقيض من ذلك، يرى ڤاكاريللو أن أسلوب المرأة هو الذي يحدد اختيارها للأزياء – وليس بالتأكيد أي عامل آخر لا أهمية تُذكر له، مثل العمر مثلاً. ويقول في ذلك: “في رأيي، أسلوب امرأة سان لوران يتميز بالثقة، والأصالة، والذكاء”. ويؤكد: “إنها حرة في التعبير عن نفسها. ويمكنها أن ترتدي سترة رجالية ضخمة أو شورتاً قصيراً. وهي جريئة ولا تخشى شيئاً في اختياراتها، بغض النظر عن طبيعة تلك الاختيارات. وأرى أن الفستان القصير، على سبيل المثال، يتعلق أكثر بحرية المرأة وشخصيتها أكثر من كونه مظهراً جذاباً. ولا يمكن أن يعني الابتذال بأي حال”.
ورأيه هذا يخالف كثيراً رأي الأديبة الفرنسية فرانسواز ساغان التي قالت يوماً: “الفستان في حد ذاته ليس له معنى إلا إذا أوحى للرجال بالرغبة في نزعه من عليكِ”. فهل إثارة رغبات الرجال هو ما يصيغ حرية المرأة في يومنا هذا؟ ربما لا يزال البعض ينظر إليه على هذا النحو، ولكن ڤاكاريللو يستشعر المرأة وروحها العظيمة والمختلفة الأبعاد. فهو يعتبر حريتها “فرصة لتخطي الحدود، واستكشاف العالم وفقاً لرؤيتها”. وترتقي حملة مجموعة ربيع وصيف 2018 الدعائية بفكرة ڤاكاريللو عن الحرية – بالمعنى الحرفي للكلمة. فمن أجل هذه الحملة، سافر المصمم مع فريقه إلى جزيرة كابري في إيطاليا وصور الفيلم الدعائي على أرض فيلا مالابارتي، وهو منزل مشيد على أحد المنحدرات. وفي هذا الفيلم، تألقت كيت موس بفستان أبيض مصمم على شكل قميص منتعلةً حذاءً فريداً طويل الساق مزيناً بالشراريب، فيما ارتدت جامي بوشير فستاناً قصيراً أسود وانتعلت حذاءً بكعب شاهق الارتفاع. وقد أضافت هذه الأزياء روحاً غامضة وثقلاً إلى الفيلم. ونشاهد العارضتين وقد صعدتا درج الفيلا الأثري، فيما تتوقفان من حين لآخر لتدخين السجائر والضحك. وتستلقى موس باسترخاء على درجات السلم، راضية تماماً عن حياتها الآنية، قبل أن تغيّر إطلالتها وترتدي قميصاً داخلياً وفوقه معطفاً من الفرو لتتماهى مع المناظر الطبيعية الخلابة بأسلوبها الخاص.
وقد رسم ڤاكاريللو ملامح مجموعته بعدما جمع صوراً من أفلام، وفيديوهات موسيقية، وكتب الفنون، وحتى صوراً من هاتفه. واختار تلك التي استطاعت أن تعبّر عن سرده الخاص، والجديد – والذي يجسد المرأة التي تعيش وفقاً لشروطها الخاصة. وهي الحياة التي طالبت بها العديد من النساء الباريسيات منذ الستينيات، ولا تزال النساء من جميع أنحاء العالم يتطلعن إليها حتى اليوم. وجزء من هذا الخيال يتضمن أيضاً ملاذاً تشعر فيه بالحرية والتحرر من كل قيد.