عزّة فهمي قصّاصة من الطراز الأول، شاعرة في اختيارها الكلمات والكيمياء بينها، وليس فقط في تصميم الحلي. تحفر في قلب المعاني التي تختار التعبير بها، مثلما تستلهم من طبقات الأرض والتاريخ والحضارات، أشكالاً وكلمات. وفي قاموس عزة فهمي يتجاوز معنى الحلية وهدفُها الزينةَ إلى التعبير عن الثقافة والتأكيد على الانتماء. هذا ما عبّرت عنه خلال لقاء جمعنا بها وبابنتها أمينة غالي المصمّمة الرئيسة في دار عزة فهمي للمجوهرات.
مشاهد البداية
بعد نحو 47 عاماً على بدايتها الرائدة في عالم الحليّ ما زالت عزة فهمي تحسّ بأنها تريد أن تعرف المزيد. “أريد أن أقرأ، أن أطّلع على كل ما هو جديد ومفيد على المستويين المهني والإنساني. أما ما تعلّمته من الأعوام الماضية ومن كل ما أنجزته، فهو أن أكون دقيقة وصادقة في عملي الذي أؤديه من قلبي تحت قيادة ضميري. وهذا الصدق يظهر في تفاصيل العمل الحرفي. تعلّمت باختصار ألا أتوقف عن تعلّم كل جديد”.
طريقة كلام عزة ممتعة، فذكاء الكلمات يرافقه أسلوب سرديّ خاص. قصة البداية الأولى، حين عثرت على كتاب بالألمانية عن الجواهر التقليدية في العصور الوسطى، تشبه مشهداً روائياً. “القدر”، تقول عزّة. “كنت جاهزة لندائه، كنت أنتظره. لم أكن قد فكرت في تصميم الحلي. كنت أبحث بين أفكار كثيرة، عن الجديد الذي أود أن أقدّمه، لكنني لم أفكر في الجواهر والحلي قبل أن تقع يداي على هذا الكتاب الذي تمسكت به كأنه قدري”.
أحببت عبر تصاميمي أن أنتصر للثقافة العربية
أدى الكتاب دور البطولة في قصّة عزة فهمي. وقد كانت الكتب والحروف والكلمات أبرز مصادر إلهام المصمّمة التي نشأت
في بيت أهله يواظبون على القراءة. “كنت أقرأ كتباً بالعربية وأعيش في محيط مثقّف. كنا نعيش في منطقة في صعيد مصر، وكان والدي يصحبني في زياراته إلى المتاحف والمعابد التي فتنتني فيها خطوط العمارة. اطلعت في سنّ صغيرة على الثراء الحضاري الذي ورثناه. ثم كبرت بين أصدقاء هم شعراء وكتاب وفنانون. وجدت نفسي في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، في عز الثراء الثقافي، بين أعظم المثقفين المصريين. اعتدنا شراء الكتب وقراءتها ومناقشتها. لم تكن الثقافة ترفاً بل كنا نحيا بها أو نحياها”.
رسائل الحليّ
استثمرت عزة خلفيتها الثقافية في تصميم الحلي. ولم تكتف بإلهام المخيّلة بل طوّرته بالمعرفة عبر البحث عن التاريخ، في النصوص والعمارات، في حياة القبائل والشعوب. “زرت متاحف كثيرة. اطلعت على الحلي في العهد الأيوبي وأيام الدولة السلجوقية المحفورة عليها كتابات وأدعية تهدف إلى حماية مَن يلبسها. ورأيت أنّ فن الخط العربي مصدر أشكال بديعة، ولم تجذبني فكرة التعويذات، ما أردته هو الكتابات التي تحمل رسائل إيجابية. أحببت أن أنتصر للثقافة العربية بين الجيل الذي اختار لغة الثقافة الغربية”.
هذه الرسائل “الثقافية” التي تبثها حلي وجواهر عزة فهمي هل تجعلها اختيار فئة معينة يمكن أن نصفها بالمثقّفة؟ تجيب أمينة غالي عن هذا السؤال. “بين المقبلين على اقتناء جواهر عزة فهمي هناك مَن يختارون قطعاً تعكس ارتباطاً عاطفياً، ربما كانت أمّ الزبونة أو جدتها تتزين بحلي تشبه تلك التي اختارتها. وهناك من تريد أن تتبع آخر صيحات الموضة وأن يكون اختيارها تصريحاً جريئاً عن أسلوب خاص. نحن نعمل مع فريق يعرض لنا بوضوح مشهد الموضة في عواصمها الأشهر ويقدّم لنا صورة مكتملة عن الصيحات الرائجة كي نواكب الاتجاهات الجديدة، فلا نغرّد وحدنا في سماء مختلفة تماماً. ونحن لا نسعى إلى أن نحصر زبائننا في فئة معينة، لكننا نعرف أن كلّ من يقصدنا يبحث عن قطعة فريدة. نقدّم قطعاً تلائم الأعمار والأذواق المختلفة، لكنها كلّها تحمل لمسات الفرادة الخاصة باسم عزة فهمي. هذه الفرادة تقاوم النزعة الاستهلاكية التي سيطرت علينا حتى بتنا نغيّر حقائبنا وأحذيتنا ونظاراتنا باستمرار. كثر سئموا الاستهلاك، وراحوا يتمسّكون بالرسائل التي تجعل لاختياراتهم معاني. هذا ما أكدته على سبيل المثال الرسائل النسوية في تصاميم عربية شابة”. وهنا تدخلّت عزة الحريصة على أهمية أن تكون لكل قطعة قصة تسردها، وأضافت إلى كلام أمينة قائلة: لا ننسى أن هناك مَن يبحثون عن قصة، أيام الثورة في مصر هناك مَن بحثوا عن قطع معينة تعبّر عن تعلّقهم بالوطن. وثمة من يحبون الشعر الصوفي ويسعون إلى اقتناء قطعة تؤكد على علاقتهم الخاصة به، وهناك أيضاً مَن يختارون حليّاً تدلّ على انتمائهم وتذكرهم بالجذور، بالأرض وترابها”.
يبدو بديهياً السؤال عن ارتباط تصاميم عزة فهمي باتجاهات الموضة من موسم إلى آخر. وهنا تجيب أمينة قائلة: “لا نتبع صيحات الموضة كلّها. نعمل مع فريق بريطاني يطلعنا على ما سيروج في المواسم المقبلة، فتنفيذ كل من مجموعاتنا يتطلّب عامين ولا يمكننا ألا نواكب الاتجاهات الجديدة. يعرض الفريق علينا أربع أو خمس صيحات، نختار منها ما يعكس هوية جواهر عزة فهمي مثل مجموعة روائع الطبيعة التي قدمت من خلالها ما يناسب العلامة. أهتم بما يحصل في الموضة وآخذ بعين الاعتبار ما يرغب فيه الزبائن الآن، لكن ليس كل ما نراه على منصّات العروض منسجماً مع روح جواهر عزة فهمي أو مناسباً لأن نعكس من خلاله الأسلوب الذي عرفنا به”.
الإصرار والشغف
دفع الإصرار عزة فهمي إلى تجاوز ما كان يمكن اعتباره عائقاً اجتماعياً، وهو عمل امرأة في أحد أحياء القاهرة القديمة، في خان الخليلي بين حرفيين رجال. ولعلّ هذه الإصرار هو ما دفعها إلى تجاهل أي عوائق من هذا النوع خلال مسيرتها الطويلة والناجحة. عزة تؤكد أنها “وجدت دعماً منذ البداية لأنها امرأة، وأنها لم تحارب إطلاقاً. الكل تحلّق حولي أيام خان الخليلي. حين رأوا بينهم سيدة جامعية، مهندسة ديكور هبّوا إلى مساعدتي. وكان شيوخ تجار الفضة يمدونني بالمعلومات التي أحتاج إليها. في المقابل أرى أن المشكلة التي يمكن أن تؤخر المرأة عن تحقيق ذاتها وأحلامها تتمثّل في العبء العائلي، في صعوبة القيام بأدوار مختلفة في الوقت نفسه، مسؤولية البيت وتربية الأولاد والتفاصيل اليومية البسيطة”.
عزة فهمي تمثل نموذج المرأة التي نجحت على المستويات المختلفة، لعلّه الإصرار نسأل. تجيب أمينة: “والدتي صاحبة رؤية، وقد أرادت أن تحقق رؤيتها بغض النظر عن الصعاب. هناك إصرار واضح على النجاح. وقد يكون التحدي الأبرز الذي واجهته ثم واجهته أنا وأختي، هو جذب هؤلاء الذين اعتادوا شراء حلي أوروبية أو حلي محلية تقلّد الحلي الأوروبية. هؤلاء اللواتي ينتمين إلى مستوى اجتماعي معيّن كان علينا إقناعهن باختيار جواهر تدلّ بوضوح على هوية عربية. هذا هو التحدي الذي احتاج التغلّب عليه إلى جهود أعوام طويلة”.
شراكة عائلية
تعترف عزة بأن ليس سهلاً الجمع بين الإبداع وإدارة مؤسسة ناجحة ورابحة. “مَن يحرّكه شغفه لن ينشغل بجمع المال. المبدعون في العادة يحتاجون إلى مَن يدير أعمالهم”. تتدخّل أمينة لتقول إن “ما تقصده أمي هو أن من يعمل بشغف، يخاف أن يقف شغفه في وجه نجاحه المادي. لكن التمسّك بالشغف يؤدي إلى النجاح المادي. هذا ما تدلّ عليه تجربتنا. ونحن لا نغيّر ما يعكس هويتنا وشغفنا حتى لو قدّم لنا هذا التغيير أموالاً طائلة”.
قبل أن تنظّم الشركة التي أصبحت داراً للحلي والجواهر، لم تخجل عزة من أن تطلب مساعدة المحيطين بها ونصائحهم قبل أن تخطو خطوات في اتجاه جديد. “كانت والدتي تسأل من حولها من أصدقاء وزبائن يتابعون ما تقدّمه منذ السبعينيات، تستعين بمساعدتهم وخبراتهم. لا تقف أمام مشكلة وتقول إنها تعجز عن حلّها. هذا ما تعلّمناه نحن من عزة فهمي، نبحث باستمرار عن تطوير شركتنا وعن التخطيط لمشاريع جديدة مستعينين بخبرات غيرنا. ومهم أيضاً أن نستعين بدم جديد مع كل مرحلة جديدة وكل تقدّم ننجح في تحقيقه. نستمع إلى النقد والمديح، ننتظر النقد كي نصحّح أخطاءنا ونتعلّم من التجربة. وهذه هي رؤية التي استلهمناها من عزة فهمي، تعلّمنا منها أهمية السعي إلى التطوّر وإلى فهم طريقة تفكير الأجيال الجديدة”.
كيف يمكن ألا أخدم الأجيال المقبلة؟ فأنا أتحمّل مسؤولية تجاه مهنتي ومجتمعي وتراثي
نضيف عزة: “كنا محظوظين في الانطلاق منذ عقود، ولأننا أثبتنا أنفسنا علامة مصرية عربية أصيلة ومبدعة حققت نجاحاً واسعاً يسارع كثر إلى مساعدتنا إذا واجهنا أي مشكلة”.
رؤية عزة هل رسمت منذ البداية فكرة الشركة العائلية؟ “لم يكن هناك ما هو واضح. أنا تبعت شغفي وانطلقت مثل صاروخ، وكنت أغيّر خططي كل لحظة. كل لحظة الرؤية تتغير. ما أريده الآن هو أن نصبح دار تصميم مجوهرات في العالم العربي”.
تؤكد أمينة ما قالته أمها: منذ تسلّمت أنا وأختي فاطمة نسعى إلى تحويل الشركة داراً، تتوارثها الأجيال”.
ضمير المصمّمة
ألهذا تسعى عزة إلى رد الجميل للمجتمع عبر الإصرار على نقل خبراتها ومعارفها إلى الأجيال الجديدة من خلال مدرسة تصميم الحلي؟ “لأنني واجهت صعاباً لأجل تعلّم تصميم المجوهرات، لم أستطع الدراسة في نيويورك بسبب ما تطلّبته من أموال، لكن ساعدتني منحة المجلس البريطاني على إتمام ما أردت دراسته. انطلاقاً من تجربتي اهتممت بإنشاء مدرسة في مصر تعلّم غير المقتدرين تصميم المجوهرات. قررت أن أفتتح مدرستي الخاصة بمساعدة أساتذة أوروبيين، هي أول مدرسة مجوهرات في العالم العربي. ثم قررت أن أنشئ مدارس تساعد سكان المناطق النائية على تطوير الحرف التي عرفوا بها، هذه الحرف تسمح لنساء ينتمين إلى قبائل على حدود السودان بتأمين مدخول مادي. نعي تماماً أننا نتحمّل مسؤولية تجاه مجتمعاتنا ونسعى إلى نشر الفائدة حيثما استطعنا. لدينا كنوز من المعلومات، نفهم منطقتنا على مستوى التاريخ والتراث، كيف يمكن أن أختار ألا أخدم الأجيال المقبلة؟ بنيت خلال هذه الأعوام أرشيفاً يمكن وصفه بالإمبراطورية. ولا أقبل بخسارته وضياعه، من هنا ولد إصراري على إنشاء المدرسة. فأنا أتحمّل مسؤولية تجاه مهنتي، أتحمّل مسؤولية اجتماعية وتراثية وثقافية وإنسانية”.
الأم وابنتها في المكتب
تلتقي عزة وأمينة في مكان عملهما ثلاث مرات في الأسبوع. نسأل عن العلاقة المهنية بينهما وعن تأثرها بالتواطؤ الجميل بين أم وابنتها؟ ” مثل أي تواصل بين اثنين تواجه علاقتنا التحديات، لكن عمقها يترجم في العمل عبر ولادة إلهام جديد. لقد تعلّمت الكثير من عزة فهمي. كنت مهووسة بالمجوهرات المعاصرة، في حين تعشق هي المجوهرات التاريخية، ومع الوقت أصبحنا نتكلّم لغة جديدة، ما أدى إلى تطوّر علاقتنا المهنية. كل هذا بعيد عن العلاقة الإنسانية التي تجمعنا، علاقة الأم بابنتها”.
وهنا تؤكد عزة على أن “علاقتها المهنية بأمينة منفصلة عن علاقتي الإنسانية بها. وهي قد تزوجت، ما يعني أن تطوراً جديداً طرأ على علاقتنا. أما علاقتي المهنية بها، فهي رائعة لأنها قائمة على حوار بين جيلين. الجيل القديم الذي يتملّكه فضول اكتشاف نظرة الجيل الجديد وما يفكر فيه، والجيل الجديد الذي يرى في الجيل القديم النضج والخبرة. والفصل بين العلاقات في الشركة العائلية ليس سهلاً على كل حال، يمكن أن تقع خلافات على مستويات عدة. أستطيع أن أقول إنني استفدت من هذه الفنانة الصاعدة لأنها متفتحة على العالم الحديث وأنا أتعلم منها لغة هذا العالم”.
نجحت تصاميم عزة فهمي في “عصرنة” التراث أو “عولمته” لتنافس كما تؤكد أمينة غالي “كل علامة مجوهرات عالمية. كل ما نتعلمه يسبقه التجربة والخطأ، لا يمكن أن نتقن ما نفعله منذ المحاولة الأولى. المرأة الأوروبية تحب البساطة والقطعة الكبيرة لا تجذبها ولا تشبه أسلوبها. لذا نقوم بأبحاث لدراسة المطلوب، وليس بهدف تغيير هوية علامتنا. والتحدي يكمن هنا، ألا نغيّر أسلوبنا، وأن نحقق التوازن بين هذا الذوق وبين ما نقدمه. أصبحنا كلنا مواطنين في هذا العالم. لا يمكنني الآن أن أكون مصرية مئة في المئة، نحن مضطرون للقبول بهذه الحقيقة”.
أعود الى جملة قرأتها في موقع عزة فهمي تلخّص رؤية أمينة هذه: ثمة من يخلدون التراث بالكتابة وآخرون بالصور، عزة فهمي تحفظ التراث عبر تصميم الحلي والمجوهرات.
نشر هذا المقال للمرّة الأولى في عدد شعر نوفمبر من ڤوغ العربيّة.
نجمات في الشمس… حوار يجمع يسرا ونيللي كريم ودرة داخل عدد شهر نوفمبر