عادت إليزا صيدناوي دلال أخيرًا إلى أرض وطنها مصر بعد غياب دام لعامين بسبب ظروف الجائحة، حاملةً بين جنباتها مشاعر الحنين للوطن والشوق إليه
تمامًا مثل الابنة التي وُلِدَت بعد طول انتظار، عادت إليزا صيدناوي دلال ووصلت إلى مكان لم يسبق لها زيارته، إلا أنها تعرفه تمامًا عن ظهر قلب. أسقفه العالية وأقبيته الضخمة تعود بها إلى الأيام التي قضتها بين أحضان والدها، وإلى حواراتها التي لا تنسى معه رغم كونها حوارات عادية، وإلى الراحة التي تشعر بها على الفور في وجوده. وفيما يقطع آخرون أميالاً طويلة سعيًا وراء الشعور بسكينة الروح والعافية بين هذه الجدران، عادت إليزا لتستعيد ذكريات الطفولة مع والدها الاستثنائي ورباطها الذي لا ينفصل عن البلد الذي بدأت منه اكتشاف العالم.
لم تحاول إليزا صيدناوي دلال، عارضة الأزياء ورائدة الأعمال الاجتماعية، بأي شكل من الأشكال إخفاء انبهارها فيما كانت تتجول بين الأروقة، وتلهو بالظلال التي تشبه الخيام، وتشاهد أشجار النخيل المحيطة بمركز “أرضي” في دهشور الذي تصفه بأنه رمز لأعمال والدها. ويقع مركز “أرضي” على بعد بضعة كيلومترات من أهرامات دهشور، وبناه قبل 10 سنوات المهندس المعماري أوليڤييه صيدناوي المعروف بتصاميمه غير التقليدية والرائعة. وكان أوليڤييه صيدناوي قد تخرج في مدرسة جمعية الهندسة المعمارية للهندسة المعمارية بلندن، وهو العقل المفكر للعديد من المباني الشهيرة، ومن بينها فندق “لا ميزون بلو” بالجونة، وفندق “المديرة” بالأقصر. وكان أيضًا أحد أعضاء فريق العمل الذي اضطلع بتصميم جامع الشيخ زايد الكبير في أبوظبي. وكان مركز “أرضي” قد تم بناؤه في الأساس كمنزل لشيرين ملك، بيد أنه شيئًا فشيئًا تحول إلى ملاذ للسكينة والسلام النفسي، مكان يمكن للناس أن يتواصلوا فيه مع أنفسهم من خلال ورش عمل بديلة للعافية الشاملة.
تؤكد إليزا: “إنها لحظة مؤثرة بالنسبة لي أن يتسنى لي أخيرًا رؤية هذا المنزل وتجربة طاقته فعليًا”، وتردف: “يعتريني على الفور شعور بالارتباط العاطفي. فهو يجدد إعجابي الذي لا يتزعزع بأعمال والدي، إذ يأسرني دومًا إحساسه بالمساحات. فوالدي لديه أسلوبه الخاص في تصميم الغرف: ارتفاع معين للأسقف، أسلوب خاص في تصميم المنحنيات، ورفع الأقبية، وابتكار الظلال، وتنسيق الأروقة”.
يذكر أن رحلة إليزا، التي تعشق مصر بشدة، إلى مركز “أرضي” قد تأجلت لعقد كامل بسبب جدول أعمالها المزدحم الذي كان غالبًا ما يحول دون زيارتها للقاهرة أو الأقصر. بيد أنها أصبحت في حاجة ماسة لهذه الرحلة بعد غياب دام لعامين عن البلد الذي قضت فيه السنوات الخمس الأولى من حياتها ووجدت فيه الإلهام لمؤسستها “فانتازيا”، وهي مؤسسة للتنمية الاجتماعية غير هادفة للربح. تقول: “مع العودة إلى مصر، أشعر بنوع جديد من الطاقة يدفعني لمحاولة القيام بالأشياء بطريقة مختلفة. ثمة جيل جديد يقوم بأشياء كثيرة مثيرة للاهتمام في قطاعات متنوعة. وأستشعر ذلك حقًا، حتى وإن كنا لا نزال نعبر الجائحة، إن مصر تحرز تقدمًا، ليس فقط على الصعيد الاقتصادي، بل والثقافي أيضًا”.
ولدت إليزا صيدناوي دلال لأم إيطالية وأب سوري مصري من أصول فرنسية، وأنشأت مؤسستها “فانتازيا” في مصر، البلد الذي اختاره والدها للإقامة فيه. وبعد تحقيق مسيرة مهنية ناجحة في أكبر المدن العالمية بالعالم، لا تزال تشير إلى قلبها على أنه مصري نظرًا للأثر العميق الذي تركه هذا البلد في حياتها. تقول: “ما يجعلني مصرية هو حبي للحياة والتواصل الإنساني”. “إنه اقتناعي بالله وفكرة ’إن شاء الله‘ التي لا أستخف بها. فما قدره الله، سيكون. وثمة مزيج في الثقافة المصرية، الجانب الروحاني العصري الرومانسي من ناحية ومتعة الحياة من ناحية أخرى، هذا فضلاً عن الطيبة وحس الفكاهة وأسلوب الاستمتاع باللحظة الآنية”. وتضيف أن علاقتها بالبلد تطورت. “على مدار السنوات الثماني الماضية التي أمضيتها في تأسيس “فانتازيا”، كان عليّ أن أواجه عقبة تلو الأخرى، ولا يوجد ما هو أكثر تعقيدًا من محاولة إقامة مؤسسة مثلها في مصر وإتاحة الفرص للمصريين. في البداية، رأيت نفسي أتصرف من منطلق العاطفة والحب الأعمى لهذا البلد. ولكن كانت السنوات القليلة الماضية رحلة تعليمية لي ونما حبي لمصر وتعمق، ولكنه الآن أقل سذاجة. ولا يزال أمرًا يتعذر تفسيره ولكنه تطور وأصبح أكثر واقعية واتزانًا”. وبنظرة تعبر عن جميع الأيام الجميلة التي عاشتها على أرض والدها، تواصل إليزا الحديث عن الرابطة التي تجمعها بالبلد الذي تصفه بالشاسع، ويصعب التنبؤ به، والحافل بالأحداث. تقول: “أحب مصر على نحو يشكل جزءًا مني. لا أعتقد أن مصر يمكن أن تفعل أي شيء يستطيع أن يمحو هذا الحب. لقد تأثرت كثيرًا بوجودي هنا بعد عامين. ومثل أي بلد آخر، الأمر يتعلق بالمكان وجمالياته وما يبثه في نفسك من مشاعر، ولكن يتعلق أيضًا بتجربتك الجيدة مع الناس. لقد عشت لحظات إنسانية رائعة في مصر على جميع المستويات”.
وبقدر القواسم المشتركة التي تجمعها بالبلد الذي أحبته، ترى إليزا أيضًا أن صفات والدها انعكست على تصرفاتها وشخصيتها. وهي تصفه بالأب غير التقليدي، وتؤمن بأنها تربت على يد رجل لم يكن ينتظر من المرأة أن تطبخ له أو تعتني به. وهو ما ساهم في الطريقة التي تتعامل بها مع حياتها الخاصة. “أحببت دائمًا الوقت الذي أقضيه معه لأنه لا ينتظر من أحد أن يعتني به وأرى ذلك ممتعًا جدًا، لأنه يجعلني أرغب في القيام بذلك على أي حال. ولم يكن يؤمن قط بأدوار الجنسين. وبهذا المعنى، لست مبرمجة أبدًا لأكون مربية. أفعل ذلك الآن بعد أن أصبحت أمًا منذ ثماني سنوات، ولكني لم أنشأ في منزل يُنتظر مني فيه أن أقضي وقتي في المطبخ وأعتني بالمحيطين بي. كثير من النساء مربيات بالفطرة، إنها طبيعتهن، ولكن كثيرًا من النساء مؤهلات أيضًا لتولي هذا الدور. كنت دائمًا أكن لوالدي إعجابًا شديدًا، إعجابًا بفكره. والدي من الذين يقضون أيامهم في القراءة. يمكنه قراءة ثلاثة كتب في نفس الوقت. إنه دائمًا يقرأ كتابًا جديدًا ويعلم دائمًا الكتب التي صدرت حديثًا. وخلال نشأتي، كنت كلما ذهبت لزيارته في العطلات، يطلب مني إحضار أحدث ألبوم لناين إنش نايلز ويحدثني دومًا عن أحدث أغنياته، “نيللي”. يعيش والدي في منطقة نائية في مدينة الأقصر المصرية، ويعمل دائمًا على أكثر المشروعات طموحًا، وهو مُلم بكل ما يجري على الساحة الثقافية. والقراءة قاسم مشترك كبير بيننا. إنها تقليد كبير لدينا في العائلة منذ أجيال. ومثل والدي، نشأت لأكون خبيرة في هذا المجال. أعيش لأتعلم. وهدفي في الحياة هو التعلم”.
الموضوع نشر للمرة الأولى على صفحات عدد شهر مارس 2022 لمجلة ڤوغ العربية
اقرئي ابضاً : حديث من القلب مع نادين نسيب نجيم نجمة غلاف ڤوغ العربية لعدد شهر مارس 2022
تصوير Ämr Ezzeldinn
تنسيق الأزياء Anne Mehany
بقلم Nayera Yasser
تصفيف الشعر Moustafa Hany
المكياج Diana Harby
إنتاج Temple Studios
مساعد التصوير Yousef Talaat
مساعدات تنسيق الأزياء Rana Soliman وSalma Adly وCarol Mehany
تم التصوير بمركز “أرضي” في دهشور