أجواء مريبة غمرت الضيوف أثناء اعتلائهم الدرج صعوداً إلى بوسيدون – ذلك المعبد المبهر الكائن في مدينة سونيو، إلى الجنوب من ساحل الريڤييرا بأثينا. وربما كان السبب في ذلك تلك النقرات الغريبة ذات العزف البطيء على الأوتار لأغنية يونانية مليئة بالغموض صدحت أنغامها قبل العرض وشقت أصداؤها نسيم الليل العليل. أو ربما يعود السبب إلى هبوب عاصفة قوية قبيل ساعات من انطلاق العرض، والتي كادت تعصف بكل هذا الإنتاج الهائل عن بكرة أبيه. ولكن، ها قد حلّ المساء ورفعت آلهة الإغريق [الأسطورية] غضبها وبدأ العرض، ويا له من عرض رائع. واحتفالاً بمرور عشر سنوات على إطلاق علامتها، قدمت مصممةُ الأزياء اليونانية المقيمة بلندن، ماري كاترانتزو، عرضَ أزيائها لموسم ربيع 2020 بين أحضان معبد بوسيدون الذي يعود تاريخه إلى القرن الخامس قبل الميلاد، والذي يمتاز بأعمدته الدُورية الضخمة، مقدماً بذلك مشاهد شاملة لبحر إيجة الممتد في الأفق. وقد وجهت ماري الدعوة للإعلاميين وأصدقائها من كل مكان بالعالم، عقب انتهاء شهر الموضة، كي ينضموا إليها ويحضروا عرض أزيائها، الراقي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لدعم قضية ذات هدف أسمى.
وفيما توقّع الضيوف -الذين كان من بينهم شخصيات بارزة مثل نور فارس، ورسيل شلهوب، وسابين غيتي- مشاهدة عرض للأزياء الجاهزة، جاء العرضُ مفعماً بالأزياء الراقية. وقد استخدمت كاترانتزو على أزيائها مقولات لعظماء المفكرين الإغريق -أمثال سقراط، وأرسطو، وأرشميدس- وذلك كي تجعل إبداعاتها ذات الطبيعة المترفة نابضةً بالحيوية وذات مغزى عميق. واستهلّ العرض فعالياته بإطلالة كُتِبَ عليها بحروف تقطر كالماء: The only true wisdom is the knowledge that you know nothing (الحكمة الحقيقية الوحيدة هي أن تعرف أنك لا تعرف شيئاً)، وهي مقولة لسقراط تعكس الجانب المتواضع من شخصية المصممة. وبعد ذلك بقليل، خرجت سيندي برونا متألقة بفستان من الحرير يلامس الأرض، وارتدت فوقه رداء كاب مزداناً بتطريز على هيئة رمز “باي” لأرشميدس، وقد تهادت أرقامه على الفستان لتعكس اللانهاية. وظهر خلال العرض فستان آخر مكوّن من صدريّة مطرزة ومزدانة بكريستالات سواروڤسكي على شكل ميزان إلهة الإغريق نمسيس، بنت إله العدل. وتلا ذلك عرض لفستان مبهر من التول بلون إكليل الجبل الوردي، مكوّن من قسمين مستديرين لهما بطانة منفوشة. ولم يتفوق على هذه التحفة الفنية سوى الإطلالة الأخيرة لفستان سهرة من التول والشيفون الحريري، مزدان بنقوش على شكل خريطة ومغطى بالكامل ببتلات زهور من الحرير، ومزركش برسمة خريطة خيالية عبارة عن إعادة تصور للدول والقارات، مرسومة بخطوط من بتلات الزهور ذات اللون الأزرق السماوي والليموني والمشمشي. واكتملت إطلالات العارضات بارتدائهن المجوهرات الأنيقة من بولغري لإضفاء المزيد من الإبهار والتألق على أزيائهن. حقاً، إنها مجموعة للحالمات والساعيات نحو تحقيق عالم أفضل.
“يتزامن ]العرض[ مع رغبتي في تقديم شيء باليونان لم يسبق أن قدمته من قبل”، هكذا صرحت كاترانتزو في الليلة السابقة لعرضها بينما كانت تجلس على طاولة عشاء تطل على بحيرة ڤولياغميني وأمامها طبق من المسقعة ولسان العصفور. وكان والداها ينظران إليها بأعين يملؤها الفخر بابنتهما التي أوضحت أن العرض يهدف لدعم جمعية إلبيدا لأصدقاء الأطفال المصابين بالسرطان. أُسِّسَت هذه الجمعية في عام 1990 على يد مجموعة من السيدات برئاسة السيدة المبجلة ماريانا ڤي ڤارديوانيس. تقول: “لقد سافرت إلى اليونان، واصطحبتني جمعية إلبيدا إلى مستشفى سرطان الأطفال الذي أنشأوه. وقد رأيت العمل الهائل الذي قدموه على مدار الثلاثين عاماً الماضية، وقابلت فرق الأطباء والباحثين، وكل من يعتنون بهؤلاء الأطفال وعائلاتهم عندما تسوء الأمور. لقد تأثرتُ بشدة، وبتُّ أرى الأمور من منظورها الصحيح. وتبرعتُ في نفس يوم زيارتي للمستشفى”. لقد حلمت ماري بتقديم عرض بالمتحف، وأن تبيّن لضيوفها من شتى أنحاء العالم ما على اليونان أن تقدمه، وما أثمرت عنه جهود جمعية إلبيدا طوال الثلاثين عاماً الماضية. وقد علقت في سعادة قائلة: “لا أستطيع أن أصدق أننا هنا حقاً”.
اقرئي أيضاً: جولة في عالم المصممة اللبنانية ثريا شلهوب
وفي ختام العرض، خرجت على منصة العرض مجموعةٌ من الأطفال يرتدون تيشيرتات جمعية إلبيدا ويقفون إلى جوار عارضات الأزياء البالغ عددهن 38 عارضة، واللواتي كنّ يتألقنّ بأزيائهن الراقية. وكانت روح معبد بوسيدون تخيّم على المكان، فقد بكى جميع الحضور بين جدران المعبد من شدة التأثر. واحتفالاً بمرور عشر سنوات على إطلاق علامتها، طالعتنا ماري بمجموعة أزياء ولحظة مفعمة بالمشاعر أقل ما يقال عنهما إنهما رائعتان. ولم تكن ماري ملهمة في عالم الأزياء فحسب، بل ومصدر أمل للمرضى وأحياناً للبائسين عبر ما تقدمه خلال عروض الأزياء. إن هذا العرض هو آخر عرض للأزياء بعد موسم حافل يبيّن الطريق إلى المضي قدماً.