تفتح ماري مالك، اللاجئة القادمة من جنوب السودان، قلبها وتروي لنا قصة فرارها من قريتها المحترقة، وكيف وجدت ملاذاً لها في نيويورك، والدور العالمي الذي تلعبه كعارضة أزياء وفنانة تسعى للتغيير.
“كانت أمي تضفر شعري عندما بدأت تقول لي إننا سنغادر بلدنا قريباً. كانت القرى في جنوب السودان -ومنها قريتنا “واو”- تتعرض للهجوم. وقريتنا “واو” قديمة وجميلة. كنت في الخامسة من عمري فحسب، لكني أتذكر لعبي في نهر الجور الذي كان يتلوَّى منساباً خلف منزلنا بين أشجار المانجو والليمون. هناك، الأرض خصبة للغاية وحمراء اللون لدرجةٍ تأسر الألباب. وجنوب السودان وطنٌ لمزيجٍ من أبناء المنطقة والعرب الذين هاجروا إليه منذ قرون قادمين من السعودية. وكان أبي وزير التعليم، وهو من أوائل المعلمين في قريتنا ومِن روّاد مَن أسسوا المدارس. كنَّا أسرةً ميسورة الحال وكنَّا نتنقَّل بحريةٍ بين منازلنا في الشمال والجنوب. ولكن الآن، في زمن الحرب الأهلية، كلُّ شيءٍ يحترق والناس يُقتلون، وكانت خطة الميليشيات تقوم على تعذيب الرجال والصبية ممن أوشكوا على البلوغ وقتلهم، كي يضعفونا كشعب. كانت الأعضاء البشرية تُقطَّع ويتم جمعها، وكانت النساء يتعرضن للاغتصاب ويؤخذن كسبايا، وأطفالهن يسرقوا منهن ويتم تجنيدهم بالإكراه. كان أمراً لا يصدق.
وفي الخرطوم، كانت والدتي -وهي ممرضة ومناصرة للحركة النسوية- تعيش معاناتها الخاصة؛ فمثل كثير من النساء في جنوب السودان، كانت تتعرض لسوء المعاملة. ولا تشجِّع ثقافتُنا في الغالب النساءَ على التعبير عن آرائهن، وهذا أمرٌ كانت [والدتي] تعاني منه. وعندما أخبرتْ والدي أنها ستتركه، وافق على ذلك – ففي النهاية كان سيتزوج قريباً زوجةً رابعةً. وفي إحدى الليالي، حزمت والدتي أمتعتنا أنا وأختيّ الصغيرتين على وجه السرعة، وصعدت بنا على متن طائرة مروحية أخذتنا إلى ميناء. وهناك، ودون علم والدي، وجدنا سفينةً تقلُّنا إلى مصر؛ فعلى الرغم من تصاعد العنف، أراد والدي منَّا جميعنا البقاء في جنوب السودان. وكونه رجل سياسة، فإنه كان يعتقد أن هناك فساداً وحرباً في كل مكان. ولكن والدتي اتبعت حدسها، فباعت جميع مصاغنا الذهبي، بما في ذلك قرطاي، لتدفع للمهربين. وقد حصلنا على مكانٍ على ظهر السفينة، حيث وضعنا في حاوية صغيرة وجب علينا البقاء فيها لنحو أسبوعين تقريباً مع إبحارنا إلى أسوان. وداخل الحاوية، لم تكن هناك أية نوافذ، وكان هناك سريران خفيفان لنا نحن الأربعة، وكان بوسعنا الخروج فقط لاستعمال حمامٍ مشترك. وكانت والدتي قد جلبت معها الفول والماء لنأكل ونشرب؛ وكنتُ مريضةً على الدوام وأخذتُ بالتقيؤ. ولم تكن تلك نزهةً بحرية بل رحلة نجاة.
وبعدما شعرنا وكأن هذا الوضع سيستمر للأبد، وصلنا إلى البر، وأتذكر أنني رأيت الشمس – كانت ساطعة للغاية. قابلنا مُهرِّباً آخر قادنا إلى حافلة صغيرة أخذتنا إلى القاهرة. وعلى طول الطريق، هدَّأت أمي من روعنا بلغتنا القبلية، فنحن ننحدر من قبيلة دينكا، وثقافتنا محلية ومغرقة في القدم، وتنحدر من سلالة النوبيَّة [بدو النوبة]. وفي جنوب السودان، إحدى اللغات الرئيسية هي العربية، لذا استطاعت والدتي التواصل مع المصريين. ولدى وصولنا إلى القاهرة، أخذنا المهرِّب إلى مخيم غير رسمي للاجئين، وكان المكان بكامله يفوح بالحزن والظلام. كانت هناك قمامة وثياب مبعثرة في كل مكان؛ وتراكض الدجاج والماعز هنا وهناك، وكلُّ مبنى كان مقسَّماً إلى شقق صغيرة للغاية. كان لدينا قريبٌ استضافنا عنده، ومكثنا هناك لمدة سنة حتى رتّبت والدتي أمورها وعثرت على شقةً. ولأنها لم يعد في وسعها العمل في مجال التمريض، اضطرت للعمل كخادمة، حيث كانت تقوم بتنظيف المنازل والفنادق.
وكثيراً ما كنَّا نتعرض للتمييز [العنصري]، حيث كان الناس يبصقون في وجوهنا ويجرُّوننا من المقاعد داخل القطارات ويصرخون قائلين إننا يجب ألا نجلس. تخيلوا رجالاً ونساءً بالغين يفعلون ذلك بأطفال صغار. كنت في التاسعة من العمر وكانت سيسي في السابعة، في حين كانت سارة تبلغ عامين. لكننا قابلنا أيضاً أناساً أصغوا إلى قصة أمي وقدموا لنا يد العون. كان هدفها إخراجنا – ليس فقط من الحرب في جنوب السودان، بل أيضاً خارج مصر، نحو حياة وتعليم أفضل. قدمت [أمي] طلب لجوء لدى للأمم المتحدة عند وصولنا. وما يلفت النظر أن همتها لم تفتر أبداً، بينما كنتُ أعتقدُ أننا سنبقى هناك إلى الأبد. لكننا بعدما أمضينا أربع سنوات في حياتنا الجديدة في مصر علمنا بأنه تم منحنا صفة اللاجئين. وبعد مرور أربع سنواتٍ على إقامتنا في مصر، علمنا أنه تمَّ منحنا اللجوء. وتم نقلنا إلى الولايات المتحدة، وأذكر صعودنا على متن الطائرة برفقة لاجئين آخرين. لقد كان الأمر مخيفاً ومثيراً في آنٍ معاً. كان الوقت ذروة الشتاء والحرارة تحت درجة التجمّد عندما حطّت الطائرة بنا في مدينة نيوآرك بولاية نيوجرسي؛ كما كانت تلك أيضاً المرة الأولى التي نرى فيها الثلج. ورغم أننا كنّا فقراء ونعاني، فقد ربَّتنا أمي على الدوام على ألَّا نبدوا أو نتصرف أو نشعر بأننا أقل شأناً من غيرنا. وغالباً ما كنتُ أرتدي أنا وشقيقتاي الأزياء ذاتها -رغم أن ذلك كان يزعجنا كثيراً- وكنا فقط نرتدي بناطيل دينم من ليڤايس عندما وصلنا. لم تستطع والدتي تحمّل البرد، ولا حقيقة أننا وُضعنا في قلب الجريمة والفوضى. وفي كل ليلة، كنا نسمع صوت طلقات الرصاص في بنايتنا، ولم يكن هناك أحد بوسعنا التحدث إليه. نظر إلينا الجميع كما لو كنا مخلوقاتٍ غريبة، داكنة [اللون] للغاية وطويلة جداً، وكانوا يقولون لنا: ’عودوا أدراجكم إلى أفريقيا إفريقيا‘.
اكتشفت والدتي أن لدينا أقرباء في سان دييغو، وفي غضون ستة أشهر دبَّرت لنا الانتقال إلى ولاية كاليفورنيا. وهناك، واتتني الفرصة للتعرف إلى أقربائي – كنَّا جميعاً في نفس السن، وكانوا قد حصلوا على إقامة في مكانٍ أفضل من المكان الذي وضعنا فيه، لكنهم يستحقون ذلك؛ فقد كانوا من العائلات التي انتقلت سيراً على الأقدام من جنوب السودان إلى إثيوبيا، واضطروا للعودة عندما أدركوا أن الحدود كانت مغلقة، ومواصلة دربهم عبر جنوب السودان إلى كينيا، التي تستضيف واحداً من أضخم مخيمات اللجوء في العالم. لا أستطيع تخيّل السير لشهور طويلة والاضطرار لتناول العشب بسبب عدم توفر الطعام، ورؤية الجثث العائمة في النهر الذي كنا فيما مضى نلعب فيه، والاضطرار للشرب منه لعدم وجود أي بديلٍ آخر.
كان لقاء أقربائنا لحظةً جميلة؛ فبعد كل تلك الأعوام كنا قادرين أخيراً على التواصل مع أطفال آخرين. تحدثنا عن المضايقات التي تعرضنا لها طوال الوقت، وعن مقدار كرهنا لدروس الإنجليزية لأنها كانت سهلة للغاية -This is a cat. This is a dog [هذه قطة. هذا كلب]- لقد سخرنا من ذلك. انتقلنا إلى شقة أقربائنا، كانوا خمسة أطفال مع والدتهم وجدتهم. اعتقد جيراننا أننا أغرب ناسٍ على الإطلاق، كيف يقطن 11 شخصاً في تلك الشقة! لم أكن أملك أي شيء لكن سعادتي كانت في أن أعلم أننا كنا في مأمن. لم أفكر مطلقاً في الألعاب، فلم تخطر أيٌّ من هذه الأمور في بالنا حتى. [كنا نفكر] فقط في النجاة، وأن نكون في مأمن وعلى قيد الحياة.
بدأتُ الدراسة في الصف الثامن، وكانت سنةً حافلةً بالبدايات الجديدة، حيث بلغتُ فيها ودخلتُ في أول عراكٍ لي. كان علينا أن نبدأ الدفاع عن أنفسنا؛ لدينا حقوقٌ تماماً مثلكم. ثمَّ وفي أحد الأيام، عندما كنتُ في منتصف سنوات المراهقة، اقتربت امرأة مني أنا وقريبتي في الشارع لتقول لنا إنه ينبغي علينا العمل في مجال عرض الأزياء. لم نكن نعرف ماذا يعني ذلك، فعندما كنا أطفالاً لم نرَ مطلقاً مجلاتٍ في بلدنا. سألتنا: “هل تعرفان أليك ويك؟”، وأضافت: “أنتما في غاية الجمال، يمكنكما أن تكونا مثلها”، في إشارةٍ إلى عارضة الأزياء من جنوب السودان، وهي أيضاً لاجئة تنحدر من قرية “واو”، فرَّت من الحرب الأهلية في العام 1991. وقد أخبرتنا أننا يمكننا كسب المال والسفر حول العالم من خلال عرض الأزياء. كنا مصرَّتين على مساعدة أسرتينا. وقد أقرضتني صديقةٌ ميسورة الحال مبلغ الـ325 دولاراً أمريكياً اللازم لخوض تجربة أداء أمام مستكشف مواهب، وقد وقع عليَّ اختيار 16 وكالة مختلفة كأفضل مرشحة، لكن لم أتمكن من السفر إلى باريس أو لندن أو نيويورك… لم أكن أملك مالاً ولا حتى جواز سفر. اقترح البعض عليَّ الذهاب إلى وكالة في لوس أنجليس، وتمكنت من الفوز بدور في فيديو للمغني أشر، لكني لم أمتلك ما يحتاجه الذهاب إلى هناك، لذا فاتتني تلك الفرصة.
بدا كلُّ شيءٍ صعباً للغاية. وفي بداية العشرينيات من عمري، قابلتُ مستكشف مواهبٍ آخر من برنامج America’s Next Top Model. في ذلك الوقت، كنتُ أشغل وظيفةً مرموقة في مصرفٍ، وكان لديّ شقة وسيارة. كنتُ قادرةً على مساعدة أمي والعيش حياةً كريمةً. وقد قُبِلتُ أنا وشقيقتي [في البرنامج] وكنّا على وشك أن نصبح أول شقيقتين أفريقيتين لاجئتين تشاركان فيه، لكنَّ كلَّ شيءٍ انهار لأننا لم نكن قد حصلنا بعد على أوراقنا، كما طُرِدت من عملي لأنني تغيبت عنه لحضور تجارب الأداء.
نُشر للمرة الأولى على صفحات عدد مارس 2019 من ڤوغ العربية.
في ذلك اليوم ابتهلتُ إلى الله وقلت: “إن كان عرض الأزياء مقدَّراً لي، أنا بحاجةٍ لإشارة”. كانت هناك امرأة كبيرة السن خارج المبنى الذي أقيم فيه تتحدث إلى نفسها على الدوام. اقتربت مني، وقالت: ’من المفترض ألاّ تكوني هنا. ينبغي أن تكوني في نيويورك، تعرضين الأزياء، تقومين بشيءٍ عظيم. اذهبي إلى نيويورك‘، وقد أخذتُ بنصيحتها. كان ذلك في العام 2006، حينما أرسلت صوراً لي ملتقطة بكاميرا بولارويد، وكانت ردة الفعل عليها إيجابية للغاية، إلا أن العملاء أرادوا حلق رأسي، تماماً مثل أليك ويك. كان يُتوقَع من كل فتاةً تنحدر من جنوب السودان أن تبدو مثلها. لم يعجبنا ذلك، ولكن في ذلك الوقت، كان من المنتظر منّا عرض الأزياء والصمت. وقابلت منذ ذاك الحين أليك وناومي وإيمان، التي كانت داعمة ومحبة على نحو خاص. أتمنى لو كانت علاقة الأُخوَّة [بين العارضات] أكبر من ذلك. الكثير من العارضات المبتدئات صغيرات للغاية وبريئات وغير مثقفات في هذا المجال. إنهن يحطّمن أنفسهن، سواءً بالاكتئاب أو تعاطي المخدرات أو حتى الانتحار – تَحدُث هذه الأمور لأنه لا يوجد الكثير من الدعم. هذا ما أفعله عبر جمعيتي Models with Purpose [عارضات صاحبات غاية]، حيث أقدم نصائح حقيقية: ليس كل صورة يجب أن تكوني فيها عاريةً. إن لم تشعري بالراحة، تحدَّثي إلى العميل الذي تعملين لديه. تتحلى الأزياء بالقدرة على تحقيق التواصل بين الناس. علينا أن نقوم بحملاتٍ أكثر. لقد شاركتُ في حملات دعائية لعلامة لانڤان، وظهرتُ في فيديوهات موسيقية لكلٍّ من ليدي غاغا وكانيي ويست، ولكن في كل مرة أعمل فيها -أعمل أيضاً كمنسقة أغاني (مثل أغنية دي جيه ستيلتو) وممثلة (في فيلم حادث النيل هيلتون الذي فاز بجائزة “سينما العالم”، جائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان صاندانس السينمائي)- فإن ما يجول في ذهني هو كيف يمكنني أن أترك تأثيراً أكبر في الحياة، أبعد من التواجد أو “النجاح” في هذا القطاع. مهمتي أن أكون صانعة التغيير. أنا فنانة لها صوت، وقد دُعيت للعمل مع الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة بان كي مون ضمن خطة الأهداف الإنمائية للألفية. أحياناً كنتُ اللاجئة الوحيدة على الطاولة إلى جانب قادة العالم والخبراء في هذا الميدان. قلتُ لهم إنه لتغيير العالم، علينا تعليم الناس. التعليم عملية مستدامة. إن غذيتم عقولكم، تغذون حياتكم بكاملها. في البلدان التي تواجه حروباً، هناك أسلحة في أيدي الأطفال أكثر من الأقلام. وعبر منظمتي غير الربحية Stand for Education [دعم التعليم]، نوفر إمكانية الالتحاق بالمدارس فضلاً عن توفير التمويل اللازم لهذا الشأن في جنوب السودان. كما أنني أطلقت حملة “لا فوط، لا مدارس”. لا تذهب الفتيات إلى المدرسة بسبب الطمث، ولأنهن يتزوجن في سن الحادية عشرة. نقدم لهن ملابس داخلية خاصة بفترة الطمث تدوم لسنتين مما يسمح لهن بالاستمرار في الدراسة. كل ما واجهته في طفولتي قد غرس [الرغبة لدي] بالقيام بالأعمال الإنسانية. في منزلنا بالخرطوم، كانت أمي تعتني دوماً بالناس – المصابين أو المحترقين، وقد بقي ذلك راسخاً في اللاوعي عندي. وخلال إقامتنا في كاليفورنيا، حصلنا على ملابس مستعملة تسترنا من قسيس أنشأ جمعيةً للاجئين. وهناك تعلمت كيفية رد الجميل. إن كانت صوري ستظهر في مجلةٍ ما، أريد أن يعلم الناس: أنا ماري مالك. لديّ قصة وغاية”.
القصِّة كما روتها ماري مالك على مسامع كاتيرينا مِنت.
والآن اقرؤوا: “أنتم لا تفهمون، إنه من عليّة” لوبيتا نيونغو متألقة بأزياء المصمم التونسي الراحل