تابعوا ڤوغ العربية

ما دور الموضة والإبداع في مرحلة ما بعد الجائحة؟

عقب انتهاء جائحة كوفيد-19، لن تتوانى الصناعات الإبداعية عن مساعدة العالم على التعافي السريع – كيف عرفنا ذلك؟ هذا ما يخبرنا به التاريخ.

الموضة والإبداع

بإذن من جيه دبليو أندرسون

عندما خضع العالم بأسره للحظر لأول مرة العام الماضي، أبدى المجتمع الإبداعي استجابة سريعة تجاه هذا الظرف المستجد. فقد أطلقت المتاحف معارض وبرامج ثقافية افتراضية أتيحت المشاركة فيها من داخل المنزل، كما انتشرت في كل مكان بدايةً من الأرجنتين ومرورًا بكندا ووصولاً إلى جنوب إفريقيا. وأذاعت المسارح العروض الفنية في بث حي عبر الفضاء الإلكتروني، كما عرض الموسيقيون مشاركاتهم عبر تطبيق “تيك توك”. وعقد الرسامون بدورهم دورات رسم تدريبية على إنستغرام لايڤ. وليس مصممو الأزياء باستثناء، فقد أقاموا عروضًا افتراضية أشبه بتلك التي تقام داخل القاعات.

وهنا، يأتي السؤال الذي يطرح نفسه: هل تشجع الأوقات العصيبة على الإبداع، أم ينصب التركيز خلالها على مجرد النجاة والخروج من المحنة؟ لطالما كان هذا التساؤل محل نقاش منذ قديم الأزل، بيد أنه يعود أحيانًا لدائرة الضوء عندما نجد أنفسنا واقعين تحت وطأة ظروف عصيبة مرة أخرى. وخلال فترة الحظر الأولى، عاد هذا السؤال إلى السطح مرة أخرى؛ حيث أخذ الناس يتساءلون: كيف ستؤثر هذه الفترة بما فيها من بلبلة وخسائر على ما يتم إبداعه وإنتاجه في هذا العالم؟ هل ستقودنا إلى إعادة النظر في النظم والأساليب السائدة برؤية ثاقبة؟ هل ستؤثر على فننا؟ على ثقافتنا؟ على الأزياء التي نرتديها؟ مثلما أتحفنا شكسبير بمسرحية “الملك لير” وقت انتشار أحد الأوبئة ومثلما اكتشف إسحاق نيوتن حساب التفاضل والتكامل في فترة وبائية أخرى، ترى ما شكل الإبداعات أو الاكتشافات التي يمكن تحقيقها في ظل هذه الظروف؟

“الموضة راسخة لا تتزعزع”، عدد يونيو من ڤوغ البريطانية لعام 1941. بإذن من سيسل بيتون

بكل تأكيد، يشير منحنى التاريخ إلى بعض التلاحمات الجليّة بين الأحداث المدوّية –سواء العالمية أو الشخصية أو كليهما معًا- وما تلاها من استجابة إبداعية. ومما لا شك فيه أنه من غير المفيد بالمرة توقع ملامح للعظمة والعبقرية خلال فترة يمكن وصفها بالمأساوية بالنسبة لكثيرين، فترة مليئة بالضغوط المرهقة عند آخرين (وبالأخص على المستويات المالية بالنسبة للمبدعين)، ورتيبة ومملة بالنسبة للجميع. غير أن العام الماضي طالعنا بعدد من الابتكارات والحلول الخيالية، واعترانا فضول ساحق لمعرفة كيف ستمهد لنا هذه الفترة أمام التغييرات المستقبلية.

من جانبها، دعت صناعة الموضة والأزياء أيضًا إلى إعادة التفكير على نطاق واسع، حيث نشر توم فورد خطابًا مفتوحًا بالنيابة عن مجلس مصممي الأزياء الأمريكي في مايو الماضي جاء فيه: “ستخضع هذه الصناعة للتغيير، ولكن هذا التغيير يمنحنا أيضًا فرصة لنتهيأ ونبدأ من جديد، ونضع أساسًا متينًا لمستقبل الموضة في أمريكا”. وبشّر هذا الخطاب بالإعلان عن مبادرة A Common Thread لجمع التبرعات وسرد القصص، كامتداد لصندوق دعم مصممي الأزياء من مجلس الأزياء الأمريكي/ڤوغ الذي تم إنشاؤه في أعقاب هجمات 11 سبتمبر، والذي أسهم في دعم المؤسسات الأمريكية المعوزة بأكثر من 5 ملايين دولار أمريكي.

يبدو أن فكرة التغيير والتجديد باتت ملحّة الآن أكثر من ذي قبل في شتى أنحاء العالم. إنها فكرة تحث على طرح مزيد من الأسئلة والأفكار على شاكلة: كيف أسهم نجاح كوريا الجنوبية في السيطرة على “كوفيد-19” في التأثير على مشهد الموضة والثقافة الذي يتسم بالديناميكية والتطلع للمستقبل في تلك الدولة؟ كيف أثّر التركيز المتزايد على الإبداع الرقمي والتسوق الإلكتروني على المصممين الإفريقيين الراغبين في توسيع قاعدتهم الجماهيرية؟ ما التغييرات التي لا تزال تنتظرنا؟

ما معنى أن تكون مبدعًا في ظل الظروف الصعبة؟

قبل أن نغوص أكثر في مسألة المستقبل، من المهم أن نعود للماضي ونتأمل ما واجهته ڤوغ البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية. فقد وجدت المحررة أودري ويذرز نفسها فجأة مضطرة للموازنة بين المحافظة على النهج العام للموضة في المجلة والإقرار في الوقت نفسه بتغيّر ظروف قرائها إلى حد بعيد، ولو كان ذلك عبر الاستعانة في كثير من الأحيان بالمصورة الفوتوغرافية لي ميلر صاحبة العين الحساسة كي تعكس بعدستها وقائع تلك الفترة بكل دقة. وفي عام 1944، سافرت ميلر إلى فرنسا حيث بدأت مهمتها في توثيق غزو قوات التحالف للأراضي المحتلة من قبل النازيّة بأوروبا لتصبح بذلك واحدة من بين أربع سيدات فقط حصلن على تصديق القوات المسلحة الأمريكية. وكانت الصور الهائلة والتقارير الكتابية التي ترسلها للمجلة تنشر فيها باستفاضة.

عدد يوليو من ڤوغ الأمريكية لعام 1941. بإذن من أرشيف لي ميلر

وثمة أحداث أخرى كثيرة ربما نستعين بها هنا تسلط الضوء على ذلك المزيج المتجانس من الإبداع والتجاوب السريع. دعونا، على سبيل المثال، نلقي نظرة على الحرب الباردة بوصفها فترة طويلة من الشك، ونقرأ بين سطورها مزيجًا من الخوف والتفاؤل تجلّى في ما تلاها من تصاميم عصر الفضاء للمصمميْن بيير كاردان وباكو رابان. وقد وصف هذه التصاميم الكاتبان جين باڤيت وديڤيد كراولي في كتابهما “الحرب الباردة في العصر الحديث: التصميم من 1945 إلى 1970 (إصدار دارڤي آند إيه للنشر” عام 2008) بأنها تعكس “انصهارًا للمثالية والكارثة في بوتقة واحدة”. وفي السياق نفسه، ساعد سقوط جدار برلين عام 1989 في تعزيز المشهد التكنولوجي على نحو متنامٍ وإن كان بقدر ضئيل، بل وحوله إلى حركة شبابية واسعة النطاق تؤججها قوة الاتحاد، وقد اتسعت دائرتها إلى حد جنوني لتشمل كلاً من الفن والموضة.

بيير كاردان ولورين باكال مع العارضات في موقع تصوير مجموعة “بيكال آند ذا بويز” عام 1968. بإذن من بيير كاردان

ما الدور الذي يمكن أن تلعبه صناعة الموضة والأزياء في فترة ما بعد الجائحة؟

في الحقيقة، نحن الآن في خضم مرحلة التجاوب مع الظروف، على ما هي عليه: أحيانًا بطريقة خيالية، وأحيانًا أخرى بطريقة عملية. وبالتأكيد، لم تأتِ التغييرات الكبيرة بعد، فنحن ما زلنا في انتظارها. وقد ازدهرت الأزياء القصيرة كما ازدهرت عشرينيات القرن العشرين لأن تلك النوعية من الأزياء وتلك الحقبة جاءتا عقب مرحلة الخسارة والتغيرات الاجتماعية الناجمة عن الحرب العالمية الأولى. فاعتمدت ديور إطلالة مبنية على الإفراط كرد فعل لحالة الحرمان التي شهدتها البلاد خلال الحرب العالمية الثانية. يقول ألبير الباز المدير الإبداعي السابق لعلامة لانڤان عن إطلاق علامته الجديدة مؤخرًا تحت اسم إيه زد فاكتوري: “عقب جائحة الإنفلونزا الإسبانية والحرب العالمية الأولى، بلغت فرنسا أوج إبداعها فيما يعرف باسم ’السنوات المجنونة‘ (les années folles). وإني لأحدث نفسي دومًا متسائلاً: ماذا سيحدث بعد الجائحة؟ هل يا ترى سنعود إلى عهد السنوات المجنونة؟”.

من مجموعة لويڤي للأزياء الرجالية لخريف وشتاء 2021

هناك بالفعل كثير من التلميحات الملهمة التي ترسم لنا تصورًا لما سيكون عليه مستقبل عالم الأزياء. فقد تحدت كبرى دور الأزياء نفسها فيما يتعلق بعروض الأزياء في عصر فرضت فيه قواعد التباعد الاجتماعي نفسها: سواء أكان ذلك بتجربة علامة لويڤي السباقة التي أتاحت لمس التصاميم عبر عرضها داخل صناديق متقنة، أو باعتماد علامة بالنسياغا الإمكانات الرقمية من خلال لعبة فيديو تفاعلية. وكما هو الحال مع الأخيرة، فغالب الظن ستلعب التكنولوجيا دورًا جوهريًا، أيًا كان ما ينتظرنا – عبر أساليب غير متوقعة مثل الاتجاه إلى صناعة الأزياء بأساليب رقمية بالكامل أو الاعتماد على تكنولوجيا الواقع الافتراضي.

كذلك، لم يخل النشر في مجال الموضة من رحلة للبحث عن الذات أيضًا. إذ تشير أغلفة ڤوغ، التي تعرض صورًا لمجموعة من العاملين الرئيسيين أو بعض رسومات الأطفال، إلى رغبة في الذهاب إلى ما هو أبعد من التغطيات المعتادة في عالم الموضة، والتفكير بمزيد من التعمق في تصوير وقائع الزمن الذي نعيش فيه، تمامًا مثلما فعلت ويذرز خلال الحرب العالمية الثانية. كما يعطي تضافر جهود المصممين وغيرهم من العاملين في هذا المجال -سواء بغرض تصنيع معدات الوقاية الشخصية أو كسر الحواجز أمام دخول عالم الأزياء أو دعم الكيانات الصغيرة والمستقلة- شعورًا حميدًا بتماسك لُحمة هذا المجتمع ورغبته في تأمين مستقبل أفضل وأكثر عدلاً لعالم الموضة والأزياء لا ينفك عن المضي قدمًا.

من مجموعة كينيث إيزي لربيع وصيف 2021

وعلى صعيد آخر، يبدو أن الجائحة قد جعلتنا نولي مزيدًا من الاهتمام تجاه البيئة. فالحلول المبتكرة للمشكلات الحالية، مثل استخدام الأقمشة المعاد تدويرها وتلك غير المبيعة، تبشر بمستقبل ربما يكون أقل إنتاجًا وأكثر مراعاةً للبيئة. كما أن التركيز على [الإبداعات] الحِرفية التي تبقى طويلاً -ربما من خلال الرغبة في بلوغ إبداع وتصنيع ملموسين- قد وجد مؤيدين جددًا أيضًا. وفي نقاش أجراه المصمم النيجيري كينيث إيزي مع مارك جايكوبس في إطار سلسلة لقاءات ڤوغ العالمية العام الماضي والذي تحدث خلاله عن بناء نول جديد ليستخدمه النساجون اليدويون بالمنزل، قال: “الإبداع لا يتوقف أبدًا، بل لا مجال لذلك مطلقًا. وإنما يلزم أن يستمر في المضي قدمًا. عليك أن تبحث عن سبل جديدة للإبداع”.

اقرؤوا أيضًا:7 مواقف شهدتها منصات العروض أدت لتغيير مفهوم الجمال إلى الأبد

نشر لأول مرة على Vogue.co.uk. بقلم ROSALIND JANA

الاقتراحات
مقالات
عرض الكل
مجموعة ڤوغ
مواضيع