تابعوا ڤوغ العربية

مدام صالحة.. الشخصية الأسطورية التي مدّت جسرًا عبر البحر المتوسط يربط بين بيروت وباريس

“مبهرة” و”ساحرة” و”انتقائية”، كلها كلمات تصف بدقة تلك الشخصية الأسطورية التي مدّت جسرًا عبر البحر المتوسط يربط بين بيروت وباريس. تحدّت مجتمعها وحطمت الحواجز، ليس كامرأة فحسب بل وأيضًا كمصممة أزياء مبدعة ورائدة أعمال.

مصدر الصورة عائلة مدام صالحة

فيما كانت ترسم مدام صالحة ملامح أسلوبها الفريد في عالم الموضة بالمزج بين الأناقة الباريسية والشامية، أصبحت مدام صالحة مصممة الأزياء الأولى في لبنان، والقوة التي أسهمت في وضع لبنان على الخريطة العالمية كعاصمة للأزياء والموضة، كما ارتقت بمكانة بيروت حتى أصبحت “باريس الشرق الأوسط”.

ولدت رئيفة رضوان صالحة عام 1926 في منطقة عالية بلبنان وسط مجتمع درزي محافظ. ونبع شغفها من والدتها التي كانت تصنع الأزياء من قصاصات القماش، ومن هنا حظيت بفرصة الحياكة والإبداع. وسعت وراء حلمها بالاشتغال في حياكة الأزياء منذ أن كانت طفلة، رغم القيود التي كان مجتمعها يفرضها. وبدعم لا يتزعزع من والدها، إلى جانب إصرارها وقوة شخصيتها، رسمت ملامح مصيرها الاستثنائي.

تزوجت رئيفة في سن صغيرة، حيث كان عمرها 15 عامًا. وبدعم من زوجها، بدأت مشروعها لتصميم الأزياء في أواخر أربعينيات القرن العشرين، دون أن تتلقى أي تعليم رسمي. “بدأت من الصفر، ولم تتعلم حتى أساسيات الخياطة من أيًّا كان. وعثرت على مجلة في إحدى المكتبات ببيروت تقول إن كل من تلقى المراحل المبكرة من التعليم بإمكانه تعلم هذا المجال، ومن خلال هذه المجلة، علّمت نفسي بنفسي”، هكذا صرحت مدام صالحة ذات مرة. وفي غضون شهور قليلة، جمعت 15 فتاة ودربتهن على مساعدتها. وبحلول عام 1952، أصبحت تربطها علاقة بالكثير من سيدات المجتمع الراقي اللواتي لم يتوقفن عن دعم عملها وتشجيعها على توسيع آفاقها أكثر وأكثر.

مصدر الصورة عائلة مدام صالحة

وفي باريس، عملت مدام صالحة لفترة وجيزة مع مدام غريس وبيير بالمان “الذي أصبح من أصدقائها المقربين”، على حد قول منى، الابنة الكبرى لمدام صالحة. وتضيف منى: “لقد أصقلت مهاراتها وكوّنت علاقات مع العديد من المصنّعين والمطرِّزين، ثم عادت إلى بيروت لتطلق “دار صالحة”، وهي أول دار أزياء مسجلة في لبنان والشرق الأوسط، وكان يعمل بها 200 شخص”.

وفي عام 1957، بلغت سمعتها كمصممة أزياء أقصى درجات المجد بين أبناء المجتمع الراقي والمزدهر في العصر الذهبي لبيروت. ولعبت مدام صالحة دورًا محوريًا في النهضة الثقافية بلبنان حيث أسهمت في تشكيل الهوية اللبنانية من خلال إسهاماتها المهمة، وتفسيراتها للإشارات التاريخية للأزياء الفلكلورية اللبنانية، والتي استحوذت على الأضواء لأول مرة في التاريخ ضمن مهرجان بعلبك الدولي الشهير، حيث حظي الفن والثقافة اللبنانية بفرصة الظهور على منصة عالمية لأول مرة في التاريخ. ويتجلى الترف والدقة المتناهية في عملها في التصاميم التي تألقت بها النجمتان اللبنانيتان صباح وفيروز، سواء في أفلامهما أو عروضهما على المسرح أو حفلاتهما الغنائية. “لم يسبق أن رسمت “اسكتش” لتصميم عميلة لديها”، هكذا تؤكد منى وتضيف: “لقد كانت مصممة أزياء بمعنى الكلمة، حيث كانت تتبع حدسها فتعمد على الفور إلى تنفيذ تصميم حصري بما يناسب كل عميلة، وكانت تقص القماش وتلبسه للمانيكان كما تتصوره في ذهنها”. وتردف: “لم يحدث أن اقترحت عليها إحدى عميلاتها تصميمًا بعينه أو أحضرت معها صورة للتصميم، وإنما اعتادت كل عميلة أن تأتي إليها كصفحة بيضاء على أتم استعداد لترسم الفنانة عليها رؤيتها الخاصة”.

مصدر الصورة عائلة مدام صالحة

واشتهرت مدام صالحة بكرم الضيافة الفائقة نظرًا لنمط حياتها المترفة، بداية من إقامة الحفلات الخاصة بمنزلها إلى السهر في أرقى الأماكن ببيروت، مثل ملهى ليه كاڤ دو روي الليلي المعروف الذي يشتهر بزيارة النجمة بريجيت باردو الأيقونية له في عام 1967 وغيرها كثيرون من نجوم هوليوود وأوروبا. وقد اختلطت مدام صالحة بأوساط الأثرياء والمشاهير وكثيرًا ما كانت تُشاهَد بصحبة الديڤا والممثلة والمغنية اللبنانية صباح التي غنت أيضًا في حفلات خاصة بمنزل صالحة. وتذكر ابنتها الصغرى غادة: “كانت تحب الجمال وتحيط نفسها به لدرجة أنها كانت تقدم فساتين مجانًا للنساء حولها لتراهن جميلات”.

وأصبحت زهرة المجتمع الشهيرة وتحديدًا فاتنة المجتمع المخملي اللبناني، المعروفة بجمالها وجاذبتيها، طوني أبو سليمان واحدةً من عميلاتها وملهماتها بل وعرضت تصاميمها أمام الصحافة.

مصدر الصورة عائلة مدام صالحة

تقول منى: “جلبت مدام صالحة الذوق الكلاسيكي الفرنسي إلى بيروت ومزجته بأجواء الشرق”. وتوافدت العميلات الأوروبيات إلى بيروت فقط لطلب فساتين صالحة التي ذاع صيتها كإحدى أكبر مصممات الأزياء الراقية. وأعجبت النساء، اللواتي طلبن فساتينها المصمَمة حسب مواصفاتهن، بالذوق الخاص وبريق المجتمع اللبناني الراقي. وقد اعتمدت مدام صالحة، على حد قولها، على ’رقي المرأة اللبنانية وحبها للشهرة والتباهي، ولكن الأعمال المهمة كانت تأتي من نساء العائلات الملكية العربية اللواتي كن يطلبن أكثر من 40 فستانًا فقط لملابس العروس‘.

وقد أطلق ألبير ليساج، مالك دار “ليساج” الشهيرة في باريس، على مدام صالحة لقب ’كريستيان ديور الشرق الأوسط‘ وقال: “يمكن للبنانيات الاستغناء عنا (الفرنسيين) ويجب أن يفخرن بمدام صالحة. فعندما يكون لديكن مصممة مثلها، فلا حاجة للذهاب إلى باريس”. وبعد ذلك، نمت قائمة عميلاتها من النساء الشهيرات، من السيدة اللبنانية الأولى اللامعة، زلفا شمعون، وثريا ملكة إيران التي كانت كثيرًا ما تتردد على بيروت، إلى الأميرات العربيات من البلدان المجاورة والنجمات مثل السيدة أم كلثوم.

النجمة الراحلة صباح – مصدر الصورة عائلة مدام صالحة

وكانت نقطة التحول في مسيرة مدام صالحة حين صممت أزياء العروس وفستان زفاف رائدة الأناقة اللبنانية التي ذاع صيتها في الستينيات، الأميرة لمياء الصلح ابنة رئيس الوزراء اللبناني رياض الصلح حينما زفت إلى الأمير المغربي مولاي عبد الله عام 1961. وفي مذكرة منها إلى موظفيها، وصفت محررة ڤوغ الشهيرة آنذاك، ديانا ڤريلاند، الأميرة لمياء بأنها ’أجمل أميرة يمكن أن يحلم بها المرء. إنها لبنانية، وصغيرة الحجم، وجسمها في غاية الجمال‘. وقد تصدر فستان زفافها عناوين الأنباء العالمية وتم اعتباره من أجمل الفساتين في العالم (مجلة “كويك” الألمانية عام 1961)، محطمًا الأرقام القياسية لأطول ذيل فستان في العالم (22 مترًا). وكان الفستان مطرزًا ببراعة بزخارف “دار صالحة” المميزة من الذهب ومرصعًا باللآلئ والأحجار شبه الكريمة التي زينت أمتارًا من ساتان دوشيس الحريري الفاخر. أما القفطان المغربي التقليدي المصنوع للأميرة لمياء فقد كان مطرزًا بالذهب على مخمل من الحرير الخالص بلغ وزنه أكثر من 20 كيلوغرامًا، وهو ما جعله يتصدر أيضًا غلاف مجلة “باري ماتش” عام 1961.

وللأسف، توفيت مدام صالحة فجأة عام 1968 عن عمر يناهز 42 عامًا بسبب أزمة قلبية، فلم يُقدر لها الاستمتاع بمشروع مشترك تم التخطيط له من قبل في بيروت مع المصمم الإيطالي ڤالنتينو. وقد منحتها الحكومة اللبنانية وسام الاستحقاق، وتعتبر مُؤسسة الأزياء الراقية في لبنان والشرق الأوسط. وسيظل إرثها محفورًا في الذاكرة كأول امرأة أقامت إمبراطورية للأزياء الراقية في العالم العربي.

 

اقرئي ايضاً : حديث من القلب مع نادين نسيب نجيم نجمة غلاف ڤوغ العربية لعدد شهر مارس 2022

الاقتراحات
مقالات
عرض الكل
مجموعة ڤوغ
مواضيع